تشكيل "ليغ 1" المثالي يضم حكيمي    تعاون إسباني برتغالي يُحبط تهريب 3.7 طن من الحشيش انطلقت من شمال المغرب    ترامب يصف الحرب على غزة بالوحشية.. ويعتبر إطلاق سراح أسير أمريكي لدى "حماس" "بادرة حسن نية"    (ملخص).. برشلونة يقترب من لقب الدوري الإسباني بتغلبه على ريال مدريد في الكلاسيكو    بهذا السيناريو ودعت المغرب التطواني البطولة الاحترافية بعد هزيمة قاسية أمام شباب السوالم … !    أميركا والصين تتوصلان لاتفاق بشأن النزاع حول الرسوم الجمركية    أسبوع القفطان يحتفي بالصحراء المغربية ويكرس المملكة كمرجع عالمي للقفطان    الدعوة من العيون لتأسيس نهضة فكرية وتنموية في إفريقيا    لكوس القصر الكبير يتوج بلقب البطولة الوطنية لكرة القدم داخل القاعة    رسمياً.. المغرب التطواني إلى القسم الوطني الثاني    اختتام فعاليات الدورة الرابعة للمهرجان الدولي للفيلم بالحسيمة(فيديو)    لتخفيف الضغط.. برلماني يطالب ببناء مجمع سكني للعاملين بميناء طنجة المتوسط    جريمة "قتل سيسيه" تنبه الفرنسيين إلى ارتفاع منسوب الكراهية ضد المسلمين    موانئ المغرب تحظى بإشادة إسبانية    بوصوف: رؤية الملك محمد السادس للسياسة الإفريقية تنشد التكامل والتنمية    الدرك يُطيح بمروجَين للمخدرات الصلبة بضواحي العرائش    "منتخب U20" يجهز للقاء سيراليون    إيغامان يساهم في فوز عريض لرينجرز    عيدي يوثق الحضور المغربي بأمريكا    شبهات في صناعة قوارب الصيد التقليدي بمدينة العرائش: زيادات في المقاسات وتجاوزات قانونية تحت غطاء "باك صاحبي"!    مجلس ‬المنافسة ‬يكشف ‬تلاعبا ‬في ‬أسعار ‬السردين ‬الصناعي ‬    الحكومة الفرنسية: العلاقات مع الجزائر "مجمدة تماما" وقد نجري عقوبات جديدة    تاراغونا- كتالونيا مهرجان المغرب جسر لتعزيز الروابط الثقافية بين المملكتين بحضور السفيرة السيدة كريمة بنيعيش    الوكالة الفرنسية للتنمية تعتزم تمويل استثمارات بقيمة 150 مليون أورو في الأقاليم الجنوبية    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الإثنين    الوساطة السعودية تنجح في وقف التصعيد الباكستاني الهندي    خطأ غامض يُفعّل زلاجات طائرة لارام.. وتكلفة إعادتها لوضعها الطبيعي قد تتجاوز 30 مليون سنتيم    جمعية الشعلة تنظم ورشات تفاعلية للاستعداد للامتحانات    البابا ليون الرابع عشر يحث على وقف الحرب في غزة ويدعو إلى "سلام عادل ودائم" بأوكرانيا    مراكش تحتضن أول مؤتمر وطني للحوامض بالمغرب من 13 إلى 15 ماي 2025    المحامي أشكور يعانق السياسة مجددا من بوابة حزب الاستقلال ويخلط الأوراق الانتخابية بمرتيل    نجم هوليوود غاري دوردان يقع في حب المغرب خلال تصوير فيلمه الجديد    مشروع النفق البحري بين المغرب وإسبانيا يعود إلى الواجهة بميزانية أقل    الحزب الشعبي في مليلية يهاجم مشروع محطة تحلية المياه في المغرب للتستر على فشله    سعر الدرهم يرتفع أمام الأورو والدولار.. واحتياطيات المغرب تقفز إلى أزيد من 400 مليار درهم    شراكات استراتيجية مغربية صينية لتعزيز التعاون الصناعي والمالي    انهيار "عمارة فاس".. مطالب برلمانية لوزير الداخلية بإحصائيات وإجراءات عاجلة بشأن المباني الآيلة للسقوط    إسرائيل تستعيد رفات جندي من سوريا    الصحراء المغربية تلهم مصممي "أسبوع القفطان 2025" في نسخته الفضية    "سكرات" تتوّج بالجائزة الكبرى في المهرجان الوطني لجائزة محمد الجم لمسرح الشباب    ميسي يتلقى أسوأ هزيمة له في مسيرته الأميركية    "الاتحاد" يتمسك بتلاوة ملتمس الرقابة لسحب الثقة من الحكومة    مزور: الكفاءات المغربية عماد السيادة الصناعية ومستقبل واعد للصناعة الوطنية    زيلينسكي: روسيا تدرس إنهاء الحرب    الصحراء المغربية.. الوكالة الفرنسية للتنمية تعتزم تمويل استثمارات بقيمة 150 مليون أورو    سلا تحتضن الدورة الأولى من مهرجان فن الشارع " حيطان"    في بهاء الوطن… الأمن يزهر    موريتانيا ترغب في الاستفادة من تجربة المغرب في التكوين المهني (وزير)    البيضاء تحدد مواعيد استثنائية للمجازر الكبرى بالتزامن مع عيد الأضحى    إنذار صحي في الأندلس بسبب بوحمرون.. وحالات واردة من المغرب تثير القلق    عامل إقليم الدريوش يترأس حفل توديع حجاج وحاجات الإقليم الميامين    لقاح ثوري للأنفلونزا من علماء الصين: حماية شاملة بدون إبر    الصين توقف استيراد الدواجن من المغرب بعد رصد تفشي مرض نيوكاسل    لهذا السبب .. الأقراص الفوّارة غير مناسبة لمرضى ارتفاع ضغط الدم    إرشادات طبية تقدمها الممرضة عربية بن الصغير في حفل توديع حجاج الناظور    كلمة وزير الصحة في حفل استقبال أعضاء البعثة الصحية    التدين المزيف: حين يتحول الإيمان إلى سلعة    مصل يقتل ب40 طعنة على يد آخر قبيل صلاة الجمعة بفرنسا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



امرأة استثنائية : رابعة العدوية السيدة العابدة الزاهدة شهيدة العشق الإلهي
نشر في شورى بريس يوم 20 - 06 - 2017

لا يتميز تاريخنا العربي و الإسلامي بطغيان رمزية الرجال على مجالات الحياة العامة ، بل يسطع في مقدمته نجم العنصر النسوي عاليا في صورة بروز جدير بالتقدير و الاهتمام و الاقتداء أيضا ، فشخصية للا الهاشمية الصوفية العارفة بالله التي سبق لشورى بريس أن نشرت تعريف مختصرا عنها ، يجد سنده في سطوع نجم شخصيات نسائية أخرى ، أبرزهم للا رابعة العدوية المثيرة سيرتها للإعجاب و للتساؤل ، نظرا لما حبل به سجلها من خوارق العادات و عظيم الإنجازات قولا و فعلا
فلنقف مع سيرة هذه المرأة العظيمة برهة وقت:
هى أشهر النساء العارفات بالله تعالى. قصتها فى حب الله تتناقلها الأجيال الإسلامية، جيل بعد جيل، لكونها نموذجاً رائعاً وقدوة صالحة لمن ترغب فى معرفة طريق الله والإصرار على التمسك بدينه. وحياتها سراج يضىء الطريق إلى حب الله، ولذا لقبها الناس بشهيدة العشق الإلهى.
حين يأتى ذكر المتصوّفات يقفز اسم رابعة العدوية إلى المقدمة، كامرأة فريدة فى الثقافة الشعبية العربية مكلَّلة بتقدير وعرفان ومحبة، لكنها فى الوقت نفسه محاطة بغموض شديد، حول رؤيتها ومسلكها، فرابعة مالت إلى التصوف العملى، ولم تترك لنا أى أثر مكتوب نستطيع من خلاله أن نحكم عليها، ونجلى بعض غموضها. وكل ما قيل عن رابعة أحيل إلى مصادر قليلة، منها {البيان والتبيين} و{البخلاء} للجاحظ و{تذكرة الأولياء} لفريد الدين العطار، أما مؤرخو الفرق والعقائد فلم يذكروا عنها إلا أموراً متناثرة وقليلة، وركّزوا على تجربتها العملية.
وفى مثل هذا الوضع ينفتح الباب واسعاً للحكى والإضافة والترديد، وهو من السمات الأصيلة فى الثقافة الشعبية، التى أخذت ما قيل عن رابعة العدوية، وراحت تضيف إليه كل ما يعظِّم صورتها، من دون أن تهتم بالحقيقة، التى لا يعرف عنها حتى المتخصصون الكثير، وهى مسألة ظاهرة من حيث المنشأ، إذ خلط بعض المؤرخين بين رابعة العدوية ورابعة الشامية، أو رابعة بنت إسماعيل التى توفيت فى القدس عام 235ه.
وتعبّر نفيسة عابد فى كتابها {أصحاب الكرامات} عن صورة رابعة الشعبية قائلة: {هى أشهر النساء العارفات بالله تعالى. قصتها فى حب الله تتناقلها الأجيال الإسلامية، جيل بعد جيل، لكونها نموذجاً رائعاً وقدوة صالحة لمن ترغب فى معرفة طريق الله والإصرار على التمسك بدينه. وحياتها سراج يضىء الطريق إلى حب الله، ولذا لقبها الناس بشهيدة العشق الإلهى}.
غموض وخلاف :
امتد الغموض والخلاف إلى تاريخ ميلاد رابعة العدوية، إذ جزم البعض بأنه كان 135 ه فيما أكد آخرون أنه كان بعد ذلك بخمسين عاماً كاملة، وكذلك إلى قضية زواجها، إذ قال فريق إنها تزوجت، وسموا زوجها بأنه أحمد بن أبى الحوارى، لكن اتضح أن الأخير هو زوج رابعة الشامية، وأنه مات سنة 230 ه ما يستبعد تماماً فكرة زواجه من العدوية. وقال فريق آخر بأنها عاشت متبتلة ولم تتزوج من أحد، وكانت تعتبر الزواج شهوانية لا يمكنها أن تقع فيها.
وقيل إن أمير البصرة محمد بن سليمان الهاشمى عرض عليها الزواج وأغراها بالمال، لكنها كتبت إليه تقول: {الزهد فى الدنيا راحة البدن، والرغبة فيها تورث الهم والحزن. فهيئ زادك، وقدّم لمعادك، وكن وصى نفسك، ولا تجعل الرجال أوصياءك، فيقتسموا تركتك وصم الدهر، واجعل فطرك الموت. وأما أنا فلو خولنى الله أمثالك وحزت ما أضعافه فلم يسرنى أن أشتغل عن الله طرفة عين}.
وموقف رابعة هذا من الرجال، جعل مادحيها يتّكئون على أنها وجهت حبها إلى خالقها سبحانه وتعالى، وهنا يقول الدكتور فيصل بدر عون: {عاهدت رابعة نفسها منذ الصبا على ألا تقترن بأحد غير الله، حبيبها وأنيسها وسلوتها، برضاه ترضى، وبعشقه تهيم، وبشوقه تحيا. ومن هنا نجد طاقة الحب عند رابعة قد ولت وجهها تجاه الله. إن الحب بلا شك أقوى عواطف المرأة وأسلحتها. وقد كان على رابعة أن توجه هذه الطاقة نحو مرادها}.
ويقال إن الحسن البصرى سأل رابعة ذات يوم: هل ترغبين فى النكاح؟
فقالت: إن عقد النكاح يجرى على وجود. والوجود معدوم هنا، فإن نفسى أعدمتنى الوجود وإننى وجدت به، وكليتى متعلقة به، وفى ظل حكمه.
فقال لها الحسن: كيف تعرفين ذلك؟
فقالت: يا حسن أنت تعرفه بدليل، ونحن نعرفه بلا دليل.
وقد سلِّطت الأضواء على هذه النقطة فى حياة رابعة، فظهرت فى الأدب الشعبى امرأة طلقت شهوات الدنيا إلى غير رجعة، وودّعت حياة اللهو والخلاعة، وخلت إلى حبيبها العظيم تناجيه بأبيات شعر تجرى على ألسنة عوام المسلمين، وينشدها الأئمة على المنابر:
أحبك حبين، حب الهوى
وحباً لأنك أهل لذاكا
فأما الذى هو حب الهوى
فشغلى بذكرك عمن سواكا
وأما الذى أنت أهل له
فكشفك للحجب حتى أراكا
فلا الحمد فى ذا ولا ذاك لى
ولكن لك الحمد فى ذا وذاكا
وثمة بيتان من الشعر منسوبان لها أيضاً، وهما يدلان بصورة قوية على أن رابعة تخلت عن حاجات جسدها، وسخّرته لخدمة أشواق روحها المعلقة بالخالق العظيم. فها هى تنشد:
إنى جعلتك فى الفؤاد محدثى
وأبحت جسمى من أراد جلوسى
فالجسم منى للجليس مؤانس
وحبيب قلبى فى الفؤاد أنيسى
ويحاول الفيلسوف الكبير عبدالرحمن بدوى أن يجد رابطاً بين زهد رابعة وبين علاقتها كامرأة بالرجل فى ريعان شبابها، ليفترض أنها ربما تكون مرت بتجربة حب يائسة، أخفقت فيها أن تصل محبوبها، أو تتزوج منه، فطلقت الدنيا كلها، وخلتها وراء ظهرها، بمفاتنها وشهواتها، ويقول هنا: {ذكريات الماضى الداعى إلى التقوى والمواعظ مهما بلغ تأثيرها لا تكفى لتفسير ما حدث لديها. فلا مناص إذن من افتراض هنا عامل الإخفاق فى قصة حب إنسانية}. لكن أقوال بدوى هذه لا تستند إلى أدلة دامغة، إنما هى مجرد استنتاجات لا يمكن أن يقطع بها أحد، أو يتخذ منها تفسيراً وحيداً لزهد رابعة وتصوّفها.
زهد وورع :
وثمة حوار ورد فى {تذكرة الأولياء} يدل على ورع رابعة وزهدها، فقد رُوى أن مالك بن دينار، والحسن البصرى وشقيق البلخى ذهبوا يعودون رابعة، وكانت تعانى من مرض شديد، فقال لها الحسن:
ليس بصادق فى دعواه من لم يصبر على ضرب مولاه
فقالت رابعة: هذا كلام يشم فيه رائحة الأنانية.
فقال شقيق: ليس بصادق فى دعواه من لم يشكر على ضرب مولاه.
فقالت رابعة: يجب أن يكون أحسن من ذلك.
فقال مالك: ليس بصادق فى دعواه من لم يتلذذ بضرب مولاه.
فقالت رابعة: يجب أن يقال أحسن من هذا.
فقالوا لها: تكلمى أنت يا رابعة.
فقالت: ليس بصادق فى دعواه من لم ينسَ الضرب فى مشاهدة مولاه.
ويقال أيضا إن سفيان الثورى ذهب يعودها بصحبة عبدالواحد بن عامر، فقال لها الأول: ألا تدعين الله بدعاء يخفف عنك الألم.
فقالت له رابعة: يا سفيان إنك لا تعلم من الذى أراد بى هذا المرض..؟ أليس هو الله؟
فقال: بلى.
فقالت: ما دمت تعلم. فلماذا تدعونى لأن أطلب منه شيئاً يخالف إرادته؟ فمخالفة المحبوب غير مستساغة.
فقال سفيان: وماذا تشتهين؟
فقالت: يا سفيان إنك رجل من أهل العلم، فلماذا تتكلم بمثل هذا وتقول: ماذا تشتهين؟ فبعزة الله إن لى اثنى عشر عاماً وأنا أشتهى الرطب وهو ميسور فى البصرة... وأنا لم أتناوله حتى الآن لأننى أمة. وما شأن الأمة بالآمال واختيار الرغبات؟ ويكون هذا كفرا لو أردته أنا. ولم يرده الله، فينبغى طلب شىء يريده هو حتى نكون بحق عبيده، فإذا أعطاه هو فذلك شىء آخر.
قال سفيان: فسكت ولم أفه بشىء. ثم قلت لها: ما دمنا لا نستطيع التكلم فى أمرك فتكلمى أنت فى أمرنا، فقالت: إنك رجل صالح، أولاً إنك تحب الدنيا، إنك تحب رواية الحديث. وهذا نوع من طلب الجاه.
وهنا نطق الثانى وهو عبدالله بن عامر وقال: رب ارضَ عنى.
فقالت رابعة له: ألا تستحى أن تطلب رضاء من لست راضياً عنه. إن العبد يكون قد قام بشروط العبودية حين لا يشعر بألم ولا بسقم، أى لا يكون فى درجة من الفناء فى الله حتى ينسى ألمه.
لم تولد رابعة متصوِّفة، ولم تكن من بيت معروف عنه الزهد والورع، إنما كان لتصوُّفها وتعبُّدها وزهدها قصة تُروى، نقلتها من حال إلى حال. ويقال إن رابعة كانت ذات يوم تسير وحيدة فى طريق، لا أنيس لها ولا حارس، وكان ثمة رجل يسير خلفها، ويحدق فيها، ويضمر لها السوء. لمحته رابعة فأسرعت الخطى، بقدر ما وسعتها قدماها، وهدها التعب فوقعت على وجهها، وراحت تناجى ربها: {يا إلهى إننى غريبة يتيمة، أرسف فى قيود الرق، لكن همى الكبير هو أن أعرف، أراضٍ أنت عنى أم غير راض}. وعندها سمعت هاتفاً يناديها من عنان السماء: لا تحزنى، ففى يوم الحساب يتطلع المقربون فى السماء إليك ويحسدونك على ما ستكونين فيه. فلما سمعت هذا الصوت عادت إلى بيت سيدها وصارت تصوم وتقوم وتعبد ربها من دون أن تكف عن خدمة سيدها من البشر، متحملة أذاه واضطهاده وتعذيبه لها.
جذور وبذور :
لكنْ للنزعة الدينية لدى رابعة جذور لا يمكن نكرانها، فهى ابنة رجل معروف بتديّنه واعتزازه بكرامته، وثقته فى ربه، إذ رفض فى أشد ساعات حاجته أن يسأل الناس شيئاً. وعلى رغم أن حياتها الأسرية لم تستمر طويلاً، إلا أنها تركت فيها بعض قيم لم تسقط، والتى تنتقل من السلف إلى الخلف، وتمتد من الأجداد إلى الأحفاد.
كذلك، السياق الاجتماعى الذى أحاط برابعة ساقها إلى الزهد، أو على الأقل يسّر طريقها إليه. فقد اتسع نطاق الزهد فى القرن الثانى الهجرى، بصيغة لم تكن موجودة فى عصر الصحابة والتابعين. وظهرت جماعات من الزاهدين فى الكوفة والبصرة، فى مقدّمهم إبراهيم بن أدهم، ومالك بن دينار، وبشر الحافى.
كراماتها :
تروى السير الكثير من {كرامات} السيدة رابعة العدوية، وهى غزيرة إلى درجة لافتة،
ومشحونة بقصص مفعمة بالعظات والعبر. وتقول إحدى هذه القصص إن لصا دخل يوماً إلى حجرة رابعة وهى غارقة فى نومها، فسرق ثيابها وراح يهم بالخروج فلم يجد الباب. فعاد ووضع الثياب على الأرض فبان له الباب فى مكانه. فرجع والتقط الثياب فعاد الباب إلى الاختفاء. وكرر فعلته مرات عدة، حتى ناداه هاتف: {دع الثياب فإنا نحفظها ولا ندعها لك}.
وثمة قصة أخرى تُروى فى كراماتها، أحد أطرافها سيّدها الغنى. فهذا السيد قام ذات ليلة، وتسلل إلى باب غرفتها، وراح يتلصص عليها من ثقب فى الباب، قاصداً بها سوءاً، فإذا به يجدها وقد نهضت واقفة، والدموع تطفر من عينيها، وراحت تناجى ربها: إلهى أنت تعلم أن قلبى يتمنى طاعتك، ونور عينى فى خدمة عتبتك. ولو كان الأمر بيدى لما انقطعت لحظة عن خدمتك، ولكنك تركتنى تحت رحمة هذا المخلوق القاسى من عبادك. ووصل صوت مناجاتها إلى أذنىّ سيدها، بينما راحت عيناه تتابعان قنديلاً يحلق فوق رأسها من دون أن يكون مثبتاً فى شىء، وينبعث منه نور غامر ملأ البيت. ففزع الرجل ونهض من مكانه، وتراجع إلى الخلف، وعاد إلى غرفته، لكن النوم لم يزر عينيه. ظل سيد رابعة ساهراً ورأسه مشغولاً بما سمع ورأى، حتى أطل النهار من خصاص النافذة، فاستدعى رابعة وقال لها: لقد وهبتك الحرية، فإن شئت بقيت هنا فى بيتى ونكون جميعاً فى خدمتك، وإن شئت فارحلى حرّة إلى أى مكان تريدين.
تروى خادمتها عبدة بنت أبى شوال أن رابعة حين حضرتها الوفاة دعتها وقالت لها: يا عبدة لا تؤذنى بموتى أحداً. وكفّنينى فى جبّتى هذه. وهى جبّة من شعر كانت تقوم فيها إذا هدأت العيون. وقالت عبدة: فكفناها فى تلك الجبة، وفى خمار صوف كانت تلبسه. ثم رأيتها بعد ذلك بسنة أو نحو فى منامى عليها حلة استبرق خضراء. وخمار من سندس أخضر لم أر شيئاً قط أحسن منه. فقالت لها: يا رابعة، ما فعلت بالجبة التى كفناك فيها والخمار والصوف؟ فردت رابعة: إنه والله نزع عنى وأبدلت به ما ترينه على. فطويت أكفانى وختم عليها، ورفعت فى عليين، ليكمل لى بها ثوابها يوم القيامة. فقالت لها عبدة: مرينى بأمر أتقرب به إلى الله، فردت رابعة: عليك بكثرة ذكره، يوشك أن تغتبطى بذلك فى قبرك.
رؤيتها للحج :
يُعرف عن رابعة أن لها موقفاً خاصاً من فريضة الحج، يختلف عما يريده العامة من أدائها. وفى بداية رحلاتها إلى الحج ناجت رابعة ربّها قائلة: {إلهى وعدت بجزاءين لأمرين، القيام بالحج، والصبر على الشدائد، فإن لم يكن حجى صحيحاً مقبولاً عندك، فياويلتاه، وما أشد هذه المصيبة عندى}.
ولما صعدت رابعة درجات فى معراج التصوّف ناجت ربّها وهى فى طريقها إلى الكعبة المشرفة: {إلهى إن قلبى ليضطرب فى هذه الوحشة، أنا لبنة والكعبة حجر وما أريد هو أن أشاهد وجهك الكريم}، فيقال إن صوتاً ناداها من السماء: يا رابعة أتطلبين وحدك ما يقتضى دم الدنيا بأسرها؟
إن موسى حين رام أن يشاهد وجه الله لم يلق إلا ذرة من نوره على جبل فخر صاعقا. ويقال أيضا إنها صرخت فى إحدى مرات حجها: {لا أريد الكعبة فماذا أفعل بها؟}، ولم تعن بذلك إعراضاً عن الكعبة أو إنكاراً لها، لكنها كانت تطمع فى المزيد، وهو الاتصال مباشرة برب الكعبة، وخالق كل من يطوفون حولها، خاشعين متضرعين إليه.
وعلى الرغم من أن الكثير مما ينسب إلى رابعة من أقوال وأفعال لا يزال فى حاجة إلى تدقيق وتحقق، فإن هذه الشخصية المذهلة صورت جانباً لا يمكن لأحد نكرانه من تجربة المتصوفة المسلمين الروحية، يتعلق بإمكان أن تزهد المرأة وتهجر لذّات الدنيا، ويكون لها فى عالم الصوفية {أسطورة} تتناقلها الأجيال، وتجذب صناع السينما العربية فيقدمون عنها فيلماً لا يزال قادراً على أخذ الناس إلى هذه التجربة الفريدة، كلما عرض فى المناسبات الدينية.
وتبقى رابعة هى الأشهر من بين النساء القانتات العابدات، اللاتى يحفل بهن تاريخ التصوف الإسلامى مثل آمنة بنت موسى الكاظم، وآمنة الرملية، وأم أحمد القابلة المصرية، وأم الربيع الزبيدى، وأم سطل، وخديجة بنت الحافظ جمال الدين البكرى، ورابعة بنت إسماعيل، وزهراء الوالهة، وست الملوك، وعائشة بنت عثمان النيسابورى، وفاطمة النيسابورية، وفاطمة العيناء، وفاطمة بنت المثنى، وفاطمة بنت عباس، وفخرية بنت عثمان، ومريم بنت عبدالله، وميمونة السوداء، وغيرهن.
ويكفى لرابعة تلك الشهادة التى قالها فيها أبو سفيان الثورى، وهو من المحدثين والفقهاء الورعين، إذ قابلها يوماً وهى زرية الحال، فقال لها: أرى حالاً رثة، فلو أتيت فلاناً جارك لغير بعض ما أرى.
فقالت له: {يا سفيان، وما ترى من سوء حالى؟ ألست على الإسلام وهو العز الذى لا ذل معه، والغنى الذى لا فقر معه، والأنس الذى لا وحشة معه. والله إنى لأستحى أن أسأل الدنيا ممن يملكها، فكيف أسألها ممن لا يملكها}.
فقام سفيان وهو يقول: ما سمعت مثل هذا الكلام.
.* مقال نشر فى جريدة المصرى اليوم للدكتور عمار على حسن


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.