الأحمر ينهي تداولات بورصة الدار البيضاء    4.2 مليار درهم عائدات الضريبة على المركبات في 2024    برنامج "مدارات" يسلط الضوء على مسيرة المؤرخ والأديب الراحل عبد الحق المريني    وزير الأوقاف: خدمات واضحة تحدد تكلفة الحج الرسمي وتنسيق مسبق لضبط سعر الصرف    المغرب يبرز إصلاحاته القضائية والجنائية أمام مجلس حقوق الإنسان بجنيف    ولد الرشيد يتباحث مع رئيس برلمان المجموعة الاقتصادية والنقدية لوسط إفريقيا    تأجيل الجمع العام للرجاء الرياضي إلى غاية السابع من شهر يوليوز    قرار قضائي يسمح لتلميذة باجتياز امتحان الباكالوريا بدون بطاقة وطنية    الصحة والنزاهة على طاولة واحدة .. ورشة تسائل التوريد والممارسات الطبية    في المغرب .. الفاشلون يطاردون المتفوقين عبر ساحات التنمر الإلكتروني    ملف دكاترة التربية الوطنية يفجر الغضب من جديد .. التنسيق النقابي الخماسي والرابطة الوطنية يدعوان إلى إضراب وطني ووقفة احتجاجية أمام الوزارة غدا الخميس    رونالدو يهدي قميصه لترامب برسالة غير متوقعة    الوداد الرياضي يختتم تحضيراته قبل مواجهة السيتي    عمور: الاقتصاد الاجتماعي والتضامني أحد القطاعات الواعدة في النسيج الاقتصادي الوطني    اليقظة تحبط تهريب أطنان من الشيرا    توقيف منتشل هواتف في طنجة بعد 16 شكاية ضده    القضاء يعاقب نائبة رئيس جماعي بالحبس والغرامة بسبب "تدوينات فيسبوكية"    مزور يعلن عن اتفاقيات جديدة في صناعة الطيران خلال مشاركته بمعرض باريس للطيران    الاغتيالات.. إيران تعلن عن خطة "البدلاء العشرة" الجديدة    دورة "منصة مراكش" تبدأ بأكادير    لاليغا تدخل على خط تطوير البطولة الوطنية بشراكة مؤسساتية        رئيس الحكومة يؤكد على مكانة الاقتصاد الاجتماعي والتضامني في النموذج التنموي    هلال: المغرب يلتزم بالتصدي للكراهية    مجزرة جديدة تحصد أرواح المجوعين.. مقتل 47 فلسطينيا بنيران إسرائيلية قرب مركز مساعدات في غزة    أمطار رعدية مصحوبة بتساقط للبرد وبهبات رياح مرتقبة اليوم الثلاثاء بعدد من مناطق المغرب    استئنافية الرباط تحجز ملف الصحافي حميد المهدوي للمداولة والنطق بالحكم في 30 يونيو    "سي إن إن": تقديرات استخباراتية تفيد بتأخير البرنامج النووي الإيراني لأشهر بسبب الضربات الإسرائيلية    هجوم إلكتروني يشل بنك "سبه" الإيراني    الصويرة ترحب بزوار مهرجان كناوة    طنجة الدولية.. اختبار فرضيتي التحول والتفاعل    الذهب يصعد وسط القتال بين إسرائيل وإيران ودعوة ترامب لإخلاء طهران    خبير يعرف بالتأثير الغذائي على الوضع النفسي    ترامب يقول إنه يريد "نهاية فعلية" للنزاع بين إسرائيل وإيران "وليس وقف إطلاق نار"    تقنيون بالتعليم العالي يحتجون أمام الوزارة رفضا للتهميش    موازين 2025… أزمة توزيع المنصات تثير استياء الجمهور    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الأربعاء    سطات تطلق مشروعا لإنشاء 30 محطة لتحلية المياه لمواجهة الإجهاد المائي    الأمير مولاي رشيد يترأس الجمع العام الاستثنائي للجامعة الملكية المغربية للغولف    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية اليوم الثلاثاء    22 دولة إسلامية تدين العدوان الإسرائيلي على إيران وتطالب بوقف فوري للتصعيد في الشرق الأوسط    برشلونة يعزز تصنيفه الائتماني ويترقب زيادة إيراداته بعد العودة إلى كامب نو    وليد الركراكي.. بين فورة الغضب ومتطلبات البناء الوطني    د محمد صبري : الصيدلة دعامة أساسية في الرعاية الصحية القريبة من المواطن..    فدرالية اليسار تدين العدوان الإسرائيلي على إيران وتستنكر الجرائم المتواصلة في غزة    مجموعة السبع تؤكد على"حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها" وتعارض امتلاك إيران لسلاح نووي    ثنائية فلامنغو تهزم الترجي التونسي    وزارة الأوقاف تحدد موعد قرعة الحج    وزارة الاوقاف تصدر إعلانا هاما للراغبين في أداء مناسك الحج    جراحات جبل "طوبقال" القديمة    نصائح ذهبية لحماية المسنين من ارتفاع الحرارة    في أول لقاء مع جمهوره المغربي.. ديستانكت يكشف ألبومه العالمي وسط تفاعل صاخب    "أرواح غيوانية" يُكرّم رموز المجموعات الغيوانية ويُعيد أمجاد الأغنية الملتزمة    برلماني يطالب بالتحقيق في صفقات "غير شفافة في مستشفى ابن سينا الجديد        فقدان حاسة السمع يرفع خطر الإصابة بالخرف    ماذا يفعل تحطُّم الطائرة بجسم الإنسان؟    السبحة.. هدية الحجاج التي تتجاوز قيمتها المادية إلى رمزية روحية خالدة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كاتب وباحث في الشؤون الإيرانية والتركية
نشر في السند يوم 27 - 10 - 2010

تتحدد أهداف الدول الساعية لحماية مصالحها القومية، من خلال سياستها الخارجية، وتتأثر بالبيئة العالمية التي تتعامل معها وتتحرك فيها، وبالقوة أو القوى التي تتحكم وتوجه هذه البيئة. فالسياسة الخارجية الإيرانية، تصاغ- بالضرورة- في إطار الوحدة الدولية، وترمي إلى تحقيق أهدافها إزاء وحدات خارجية. ففي عصر التقدم التكنولوجي في وسائل الاتصال لم تعد النظم والجماعات قادرة على الانحسار داخل بوتقة خاصة أو الانغلاق على الذات.
فالنظام السياسي المتشكل في إثر الثورة الإيرانية 1979، كثورة إيديولوجية دينية إسلامية، شكل قطيعة مع نظام الشاه، وأحداث تغييرات سياسية كبرى في النظام الإيراني. أما اليوم فقد حدثت تغييرات هيكلية في الظروف التاريخية والبنية الجيوستراتيجية التي كانت تعمل من خلالها إيران ما بعد أسرة بهلوي. وجدت إيران نفسها في بيئة مغايرة تماما لبيئة السبعينات، فقد اختلفت البيئة العالمية في سبعينات القرن الماضي عنها في القرن الحادي والعشرين، بما تتيحه من فرص وخيارات أمام إيران، بدأت تتضح معالمها منذ تسعينات القرن الماضي.
فرص الفعل السياسي والجيوستراتيجي:
ساهمت الحرب الأمريكية على الإرهاب في تعزيز مكانة إيران كدولة إقليمية ذات نفوذ قوى. ووفرت واشنطن لإيران فرصة مناسبة للحصول على مكانة إقليمية ودولية. فبعد الإطاحة بنظامين (العراق، أفغانستان) كانا يشكلان تهديدا مباشرة لطهران، تمت مكافأة إيران بإطلاق يدها في العراق ولبنان، وأصبح لها نفوذ في مناطق أخرى مهمة، مثل غزة، وأسيا الوسطى، وإفريقيا، وأمريكا اللاتينية. فقد استغلت إيران انهيار النظام العراقي وانشغال أمريكا في حربها في العراق، لتتحول إلى القوة الإقليمية الأبرز، والى فاعل سياسي في المنطقة لا يمكن تجاوزه. وهكذا، تصبح إيران- والحالة هذه- طرفا مهمة في تشكيل النظام العراقي الجديد، تسعى إلى أن يكون النظام العراقي الجديد غير معادٍ لها أو أن يكون مؤيدا أو متعاطفا معها. فبعد أن كان النظام العراقي القديم يشكل تحديا أمام حرية الفعل الإيراني لتحقيق دور إقليمي، بات اليوم أمام إيران الفرص متاحة بشكل كبير.
والأهم هو، أن هذه البيئة الدولية والإقليمية، فتحت فرصا كبرى أمام إيران للتحرك باتجاه تطوير برنامج نووي. كما أن هذا البرنامج النووي أكسب الطبقة الدينية القابضة على الحكم، شرعية ساعدها على الاستمرار وبسط سيطرتها على الداخل بالطريقة التي تنسجم وتتماشى مع تصوراتها، وتثبيت نظام الحكم ومبادئ الثورة. كما أن هذا التعنت الإيراني أمام الأمريكان اكسبها شرعية إقليمية عند البعض، مما اكسبها سيطرة على بعض الدول وقوى الممانعة، لتتماشى مع تصورات الجمهورية الإسلامية الإيرانية للمنطقة، وتدور في فلكها.
أضف إلى ذلك، إن حرب واشنطن على الإرهاب، وتحطيم النظامين العراقي والأفغاني، جعل إيران طرفا في أي حوار أمريكي يخص العراق وأفغانستان. وبالفعل لقد أجرى (2001-2002) دبلوماسيون أميركيون وإيرانيون، مع مسئولين من دول أعضاء في الأمم المتحدة، في بون العاصمة السابقة لألمانيا، لقاءات في إطار محادثات متعددة الأطراف حول تشكيل حكومة جديدة ووضع دستور جديد لأفغانستان. وناقش (2007-2008) كل من السفير الأمريكي لدى العراق براين كروكر مع نظيره الإيراني حسن كاظمي قمي، ناقشا أعمال العنف في العراق. وأجريت ثلاث جلسات أخرى من تلك المحادثات منذ عام 2008، براعية وزارة الخارجية العراقية. وفي آذار/ مارس 2009، أجرى ريتشارد هولبروك المبعوث الأمريكي الخاص إلى أفغانستان وباكستان، "حديثا موجزا ووديا" مع ممثل إيران خلال مؤتمر دولي حول أفغانستان وغيرها من اللقاءات والمشاورات التي تجري بين الأمريكان والإيرانيين لتقرير مستقبل العراق وأفغانستان.
واضح من ذلك أن إيران استطاعت بسط نفوذها الإقليمي، وأمست طرفا في تشكيل مستقبل العراق وأفغانستان، ومؤثرةً في الوضع السياسي في لبنان وفلسطين. وهو ما ينبئ أن إيران قد تكون لاعبا أساسيا في تشكيل الشرق الأوسط الكبير.
وعموما إن الحرب الأمريكية على الإرهاب، والمأزق الأمريكي في العراق وأفغانستان، واستنزاف القدرات الأمريكية، وعدم قدرتها على ضرب أي بلد آخر، ناهيك عن مناطق التوتر الأخرى، والأزمة المالية العالمية، كل ذلك ترك فراغا، وفتح فرصا كبرى أمام حرية الحركة والفعل الإيرانيين، مما يجعلها طرفا في تشكيل سياسة المنطقة، وقوة رئيسية على المستوى الإقليمي ترمي إلى إحداث تغيرات جذرية تؤدي إلى إضعاف الدور الخليجي والعربي.
التحديات والمعيقات البنائية السياسية والجيوستراتيجية:
أن الواقع السياسي والجيوستراتيجي، لا يتكونان فقط من معاني الفاعلين السياسيين، أو من خلال الإرادة الذاتية للفاعل، وإنما هناك عوامل بنائية (أو موضوعية) تمارس تأثيرا طاغيا على الفاعل وتصوراته، وتمارس قهرا على دوره. فالفعل السياسي والجيوستراتيجي، يتأثران إلى حد كبير، بل ويتشكلان ويصاغان بواسطة العوامل البنائية(السياسية والجيوستراتيجية). ليست العلاقة أحادية ولا يمكن التعبير عنها في ضوء تعميمات لها سمة القانون وعموميته. ودون الخوض في النقاش العويص حول العلاقة بين الفعل والبناء، أو بين الذات والموضوع، نقول فيما يخص موضعنا، إن الفعل السياسي الإيراني، والإرادة الذاتية لإيران، لا يمكنهما أن يتحرران تماما من تأثير ظروف البناء السياسية والجيوستراتيجية والعوامل البيئية سواء أكانت المحلية أو العالمية. فأشكال السيطرة، والقوة والايدولوجيا، والهيمنة الأحادية الأمريكية على العالم، ناهيك عن علاقة إيران بدول الجيران، والصين وروسيا، وغيرهما من دول العالم، كل هذه العوامل تحد من حرية الحركة، وتفرض على إيران السير وفق هذه العوامل البنائية، وأن تعمل وفق ما هو مناسب ومتاح، آخذة باعتبارها كل هذه العوامل وفق حسابات دقيقة .
نعم إن سقوط النظام العراقي والأفغاني، جعل إيران أمام فرص متعددة، ولكنه في نفس الوقت فرض عليها تحديات. فقد أصبحت إيران أكثر من أي وقت مضى عرضة للضغوط الأمريكية، وبمختلف الوسائل لمنعها من البروز كقوة إقليمية؛ لأن واشنطن لن تسمح ببساطة ببروز قوة إقليمية معادية لها. كما جعلها في موضع الخطر المباشر، وبخاصة أن واشنطن أصبحت على حدود إيران الشرقية في أفغانستان، وشمالا في جوار بحر قزوين في أكثر من دولة من دول الاتحاد السوفيتي السابق، كما أن جارتها باكستان دولة نووية ولها علاقة جيدة مع واشنطن، وهي تسير باتجاه علاقات مماثلة مع إسرائيل. كذلك الأمر مع تركيا. أما في جنوبها، وبفعل مصالح واشنطن الإستراتيجية في الشرق الأوسط، وحماية أمن إسرائيل وتدفق النفط، كل ذلك جعل تواجد واشنطن العسكري أكبر وأضخم من أي منطقة أخرى، ناهيك عن العلاقات العربية- الإيرانية المتوترة أصلا. ولعل أبرز ما يوضح القلق الإيراني من التواجد العسكري الأمريكي في جوارها هو ما عبرت عنه الرسالة التي أرسلت من قِبل (153) نائبا إلى البرلمان الإيراني حيث أشارت إلى" أنه في أعقاب وضع القوات الأمريكية في أفغانستان واحتلال العراق فقد وصل التهديد إلى حدودنا".
كل هذه العوامل تشكل معيقات بنيوية أمام إيران، يجعلها أكثر عرضة للمخاطر. وهذه المعيقات البنائية تدفع طهران، قسرا، باتجاه إقامة علاقات مع واشنطن كما سبق الإشارة، أهميتها ترجع إلى تخفيف حدة التوتر بينها وبين واشنطن، بالإضافة إلى أن هذه المشاورات المباشرة تسمح لواشنطن الاطلاع مباشرة على وجهة النظر الإيرانية وبخاصة عندما تتوتر العلاقة بينهما. أضف إلى ذلك أن هذه المشاورات واللقاءات السرية التي تجرى من خلف "الأبواب المغلقة"، تساعد إيران في إيصال رأيها إلى إسرائيل، ففي هذه الحالة تلعب واشنطن دور الوسيط بين إيران وإسرائيل. كما أن هذه اللقاءات تقوي من الآمل في تحسين العلاقات الأمريكية الإسرائيلية - الإيرانية. وهي بالفعل لعبت دورا في استمرارية النظام الإيراني المتشكل في إثر الثورة الإيرانية 1979 . فمشاورات إسرائيل وإيران في عقد الثمانينات بخصوص صفة الأسلحة، والمشاورات الأمريكية - الإيرانية بخصوص الرهائن ، عززتا الأمل في إعادة العلاقات إلى سابق عهدها، وبخاصة أن إسرائيل استمرت بالعمل على إعادة علاقاتها مع النظام الإيراني الجديد وحاولت عبر وسطاء لإعادة هذه العلاقة.خلاصة ذلك أن هذه المعيقات البنائية تدفع طهران قسرا إلى التحاور من خلف "الأبواب المغلقة"، حتى تحافظ على وجودها.
لم تشكل إيران الثورة (1979) أي خطر إيديولوجيي على النظام الدولي آنذاك وتصوراته الفلسفية. ولم تكن بديلا إيديولوجيا أمام الصراع الإيديولوجي بين الرأسمالية والاشتراكية. فقد رأت واشنطن أنه ربما تشكل الأيديولوجية الإسلامية الإيرانية، التي تتعارض مع الماركسية أو الاشتراكية، فرصة لتحسين العلاقات مع أمريكا، أو قد تندفع إيران إلى التحالف الغربي بسبب الخطر الشيوعي المتربص على حدودها الشمالية. وحتى عندما تأكدت واشنطن من خطأ هذه التصورات، لم تستطع فعل أي شيء ضد إيران لإعادتها إلى التحالف الغربي؛ والسبب في ذلك أن النظام الدولي آنذاك، جعل الخيارات أمام واشنطن محدود أو معدومة، وبخاصة أن إيران تقبع جنوب الاتحاد السوفيتي. كما أن أي إجراء أمريكي ضدها قد يدفعها إلى التحالف مع الاتحاد السوفيتي. أما الآن بعد انهيار الاتحاد السوفيتي في نهاية القرن الماضي، أصبحت الولايات المتحدة القوة العظمى الوحيدة في العالم بل ربما أكبر قوة عسكرية وسياسية واقتصادية على الإطلاق في تاريخ البشرية، وأصبحت الإيديولوجية الإسلامية موصومة بالإرهاب، ووصفت السياسة الأمريكية إيران بالدولة التي تساند الإرهاب وتضعها ضمن دول محور الشر. فالإيديولوجية الإسلامية التي لعبت دورا في الحفاظ على إيران الثورة، أصبحت الآن تشكل أحد المخاطر على إيران في ظل الحرب على الإسلام والمسلمين، أصبحت أية دولة ترفع شعارات إسلامية توصم بالإرهاب. كما أن هذا البعد الإيديولوجي حاضر في المسألة النووية الإيرانية. فالولايات المتحدة الأمريكية تتصور أن امتلاك إيران للرادع النووي سوف يجعلها تشعر بأنها لم تعد معرضة للخطر المباشر من أي انتقام عسكري تقليدي، فهي تستطيع أن تعود إلى السياسات العدوانية والسياسة الخارجية المقاومة للوضع الراهن التي اتبعتها إبان الثورة الإيرانية. وعلى هذا النحو قد تتصرف إيران على ضوء تحقيق تصوراتها الإيديولوجية للشرق الأوسط الإسلامي، وفي دعمها للجماعات الأصولية، إضافة إلى أنها قد تعطي هذه الأسلحة للإرهابيين. وكما يقول هنري كسنجر في إحدى كتاباته: "إن الدول ذات الدوافع الإيديولوجية تميل إلى تطبيق سياسة خارجية نشطة ذات مخططات كبرى، من العسير تحقيقها، كما تؤدي إلى زعزعة استقرار النظام العالمي القائم".
وإذا كان الفراغ في المنطقة لعب دورا في صعود إيران كقوة إقليمية، فقد لعب أيضا في صعود قوى إقليمية كتركيا، التي لها مصالح لا تقل أهمية عن مصالح إيران، وقد تتعارض مصالحهما مستقبلا، وهو ما يشكل معيقا بنائيا أمام تمدد النفوذ الإيراني.
إن الانخراط الإيراني التام في السياسة الإقليمية والدولية له تكاليفه الباهظة. وهنا تثار التساؤلات: ما التكاليف والفوائد المحتملة لهذا الانخراط؟ وما هي المعيقات البنائية التي يفروها هذا الانخراط ؟ الموقف العقلاني هو ما يجلب أكبر درجة من الإشباع والمنفعة، وأكفأ وسيلة للوصول إلى الأهداف المرجوة في مواقف معينة وفي زمان ومكان مناسبين. فتزايد الأعباء العسكرية والأمنية والسياسية لإيران في الخارج مع مرور الوقت يأتي بتكاليف قد يختل التوازن بين أعباء الأمن وانخراط في السياسة الإقليمية والدولية المتزايد، وقدرتها على الحفاظ على قاعدة تقنية واقتصادية تلبى الاحتياجات الاجتماعية والاقتصادية لمواطنيها. وبالفعل فإيران تواجه وضعا داخليا مأزوما تمظهر مع المعارضة الإيرانية والمتجسدة في الحركة الخضراء وهي تمثل نقطة ضعف في النظام الإيراني. كما أن إيران بلد نام، ويعاني من معضلات اقتصادية وبيئة دولية وإقليمية شديدة التعقيد. فضلا عن ذلك، تأخذ المعارضة على النظام أنه مفرط في سياسته الخارجية، وهذا الإفراط هو الذي يجلب المواجع داخليا؛ لأنها تبدد أموال الشعب.
وبينما تفتح العولمة بدورها فرصة أمام الدول، فهي تشكل أيضا تحديات غير مسبوقة أمام النظم السياسية في الشرق الأوسط، وهي ظاهرة لا يقتصر تأثيرها على السياسة الخارجية لهذه الدول، بل تشمل كل السياسات العالمية. وبالإشارة إلى إيران، فهي تفتح فرصا وخياراتٍ أمام الفرد والمجتمع لتفلت من قبضة النظام الديني، التي بدأت تتضح معالمها منذ تسعينات القرن الماضي. فقد شاعت الظاهرة المعروفة إيرانيا ب"الحجاب السيئ"، أي عدم التزام النساء بمقاييس الشادور، والإقبال على الحجاب المزركش الذي يظهر رأس المرأة. وانتشار الزى الغربي بين الشباب الإيراني، وإطالة شعر الرأس، وثقب الأذن، وتعليق الجماجم فوق الصدور(نيفين مسعد، الجمهورية الإسلامية الإيرانية وتحدي العولمة الثقافية، المستقبل العربي، العدد 249، السنة 1999، ص 17). فبعد أن استطاعت الطغمة الحاكمة أن تفرض سورا واقيا أمام الخارج للعبور إلى الفرد والمجتمع الإيراني، بات اليوم الخارج- في اختزال للزمن والمكان- حاضرا في غرف نوم الإيرانيين. فقد بات البلاد هي الطرف المتلقي أو المستقبل لكل منتجات الحضارة الغربية. وبالتالي فقد فرض الآخر المختلف ثقافته وحضارته على الفرد والمجتمع الإيراني. فالعولمة الثقافية باتت تشكل هاجسا يؤرق النظام الإيديولوجي. فثمة حراك اجتماعي دائب تشهده إيران في هذه الغضون يضغط من أجل التغيير الثقافي والسياسي بفعل الثورة الاتصالية والعولمة الثقافية والسياسية، التي تقلل من قدرة النظام على الضبط والتحكم.
هذه ظروف تختلف تماما عن ظروف لحظة تأسيس الجمهورية وواقع الحال اليوم. ورغم أن هذه العملية التي ترمي إلى التغيير وتحريك المياه الراكدة في المجتمع الإيراني، تُقابل بمقاومة شديدة من القوى المضادة والمحافظة، إلا أن هذا الصراع سوف يتصاعد في المستقبل، ما لم يتغير البناء المؤسساتي والدستوري في إيران، واجتراح الوسائل الملائمة للتعامل معها، حتى يستطيع النظام الاستمرارية والتكيف مع هذه التحديات. دون ذلك سوف يواجه النظام الإيرانية مأزقا وجوديا.
إن هذه التغيرات البنيوية، التي تواجه النظام السياسي الإيراني، فرضت عليه مواجهة إشكاليات جديدة وغير مسبوقة، تختلف كليا عن مرحلة تأسيس الجمهورية، وهي تتطلب أطرا ومؤسسات متطورة ومختلفة تكون قادرة على التعامل مع هذه التحديات الموضوعية والمستجدات التي أفرزتها، حتى تكون الدولة تمثيلا أمينا لموازين القوى في المجتمع. وبقدر ما تثبت إيران قدرتها على مجابهة هذه التحديات، وكلما كانت السلطة في إيران قادرة على التعبير عن حركية المجتمع الإيراني، كانت سلطة شرعية .
وعليه فقد أصبحت إيران أكثر تأثيرا بالبيئة الدولية، وهو الطابع الذي سيظل يلازمها بعد التغيير الجذري الذي حدث في النظام الدولي، وبروز عالم القطب الواحد، وتبلور ظاهرة العولمة. وهذا كله يشكل معيقات بنائية أمام السياسة الخارجية الإيرانية.
الخلاصة النهائية لهذا التحليل، هي أن إيران تواجه تحديات بنائية تتمثل في طبيعة النظام العالمي الراهن، وحالة الإقليم وبيئته والأوضاع المعقدة والمهددة التي تسوده، من احتلال العراق وأفغانستان، والتوترات في المنطقة، ترسخ الوجود الأمريكي في الجوار الإيراني، وبروز ادوار جديدة لدول إقليمية، وأزمة الملف النووي، وظاهرة العولمة. كل هذه المعضلات العالمية والدولية والإقليمية، تفرض نفسها كمعيقات بنائية أمام الدور الإيراني، ويجعله يتحرك وفق حدود وقواعد تتطلب قدرا كبيرا من الحنكة والموازنة بين الاعتبارات والقدرات الذاتية، والحسابات الدقيقة والرؤية الإستراتيجية، وإدارة السياسة الخارجية بشكل يتلاءم وهذه المعيقات البنائية. فالفعل السياسي والجيوستراتيجي لإيران يتأثر بالأبنية والعمليات السياسية والجيوستراتيجية للقوى العالمية والإقليمية. ويعني ذلك أن الفعل الإيراني مشروط بالظواهر البنائية للسياسة القوى العظمي في المنطقة، فإيران لا تعمل ضمن فراغ .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.