ما كان في الأساطير فحسب . وفي الملاحم. وفي التراجيديات العظيمة. ما كان في الخيال. ما كان في القصص القديمة. وفي الأديان. وفي المعجزات. وفي حكايات الأبطال. وفي الخوارق. ما كان يروى عن الصبر. وعن المقاومة. وعن الشجاعة. وعن الصمود. وعن التضحية. هو الآن يتحقق على أرض فلسطين. وفي غزة بالضبط. هو الآن أمامنا واسمه وائل الدحدوح. هو الآن من لحم ودم. ما لم يكن يحدث أبدا في الواقع. ما لا يُتصور. ما لا يمكن أن يقع. ما لا يمكن أن نقرأ عنه سوى في الكتب. وفي الشعر. وفي ما يروى. وفي التاريخ الذي لا يقدر أحد أن يثبته. وفي الماضي السحيق. ما لا يمكن أن يرتكبه بشر في حق إنسان ارتكبته إسرائيل في حق هذا الرجل. و بعد أن قتلت ابنه ذا الستة عشر ربيعا. وصغيرته شام ذات الستة أعوام. وحفيده الرضيع...وعددا من أفراد عائلته. بعد كل هذا تقتل إسرائيل نجله. والأب هنا هو الذي ينقل ما يحدث. وهو الراوي. وهو الضحية. وهو البطل. وهو الذي يصوِّر. وهو الذي يظهر في المباشر على قناة الحزيرة. وهو الذي يكتب ملحمته الخاصة. هو الذي يصاب وينهض. وهو الذي ينجو. هو الذي يشيع أبناءه ثم يعود إلى عمله. وإلى الحياة. الأب هنا حي. مدافعا عن رسالته. وعن بلاده. وعن شعبه. والبشر كلهم شهود. البشرية كلها. ولأول مرة. تتفرج مباشرة على مأساة حية. البشرية ترى الأسطورة ولا ترغب في تصديقها. البشرية تابعت منذ البداية هذه القصة المؤلمة. لكنها لا تؤمن سوى بالأساطير التي من خيال محض. وتكفر بالأسطورة الفلسطينية. الأسطورة الحية. الأسطورة المتحققة على أرض الواقع. البشرية تغمض عيونها من هول هذه التراجيديا. ومن هول أحداثها. البشرية عمياء. البشرية تتفرج في ما يمكن أن نسميه ذروة الشر. البشرية عاجزة. وتكتفي بالفرجة. البشرية لا تقوى على متابعة تراجيديا وائل الدحدوح. هذا الصحافي الذي صار اسمه يعني كل فلسطين صار عنوانا لها ومِنْ قتل أبنائه ومن موت الأطفال والرضع ومن النعوش. ومن كل هذا الجرائم التي ترتكبها دولة إسرائيل تنهض فلسطين حية وينهض صحافي الجزيرة حيا صامدا مستمرا في نقل ملحمته ومأساته ليشاهدها العالم. لكن من يصدق الأساطير. من يصدق وجود رجل يمكنه أن يتحمل ما تحمله وائل الدحدوح. من يصدق أن هذه الإبادة تقع فعلا من يصدق أن العالم يتفرج ويكتفي بالفرجة.