يخطئ الفيلسوف النمساوي ڤيتچينشتاين حينما يقول "حدود لغتي هي حدود عالمي" أو قوله "ما لا يمكن التحدث عنه يجب السكوت عنه" فهو بذلك يغالي في جعل اللغة في خدمة المعقوليات الحسية. والصواب أن هنالك تعابير إنسانية قادرة على ترويض اللغة وتجاوز حدودها وترجمة معانيها الى صور قابلة للإدراك في ذهن المتلقي؛ الأدب واحد من هذه التعابير إن لم يكن أوحدها، وذلك لما له من سلطة النفاد الى أعماق النفس وإثارة عواطف لا نبالغ بالقول إنها لاتُثَار حصرا إلا في حضرته. لكن ما هو الأدب؟ الا تُوقعنا كل محاولة لتعريفه في مأزق المعنى؟ وهل محاولة تعريفه هذه تقع على عاتق اللغة أم هي مهمة أدبية، بمعنى أن مغامرة تعريف واستكشاف الأدب هي من صميم الأدب ذاته؟ ثم ما طبيعة الأدب الذي يهذب النفس؟ ومن يقرر حدود هذا التهذيب هل النص أم القارئ؟ اللغة عند تخوم الأدب إن أي جواب او مقاربة لفرضية التهذيب في مضمار الأدب دون استحضار مقدار التعالق بين الأدب واللغة هي مقاربة لن تتجاوز عتبة استعراض نماذج أدبية في حدود ما نعتبره تهذيبا فقط. لذا فمن الضروري القول إن طبيعة اللغة التي ينتهجها الأدب تتجاوز حدود الوظيفة التواصلية للغة، لتنسج بذلك عوالم إبداعية قد لا يُسَيجها حتى الخيال. هذا إذا استحضرنا الخيال باعتباره أحد اركان الإبداع الأدبي التي عليها شبه اجماع. كما أن الأدب هو تطويع للغة بغية التعبير عما يختلج الذات الإنسانية من ألم وتوق وأمل وهو في سبيل ذلك إنما يحطم قيود اللغة او لنقول يروضها لصالح تعابير فوق واقعية أو حسية ما ينعكس على الاستيعاب الأعمق للإنسان والعالم. إن اللغة وهي في رحاب الأدب تتسامى فوق البنى التركيبية المعتادة في التواصل لصالح تفاصيل مجازية غير معتادة تثير استبصارات المتلقي ما يجعله لا شك عميق التقدير للجمال بمختلف تعابيره. ودائم البحث عن المعنى الأعمق للعبارة سواء كانت نثرية أو شعرية... لذلك يمكن أن نقول إن الأدب يقدم نفسه كخادم للغة أكثر ما اللغة تنذر نفسها خدمةً للأدب. الأدب وإمكان التهذيب بين سلطة النص وفاعلية القارئ إذا كان الادب في عمقه هو ترجمة للخبرات الإنسانية المتنوعة وجودية كانت أو اجتماعية أو فكرية أو جمالية أو عاطفية. بلغة فوق اعتيادية لها من سلطة النفاد ما يجعلها تنساب الى أعماق النفس البشرية. فإن الوقوف في حضرة هذه التجارب والخبرات (خصوصا ذات المآسي منها) هو اتعاظ وإيقاظ للضمائر. وهذا اول درس بليغ في التهذيب. لكن على من تتوقف سلطة التهذيب وإرهاف الحس، هل على النص الأدبي الذي يحمل بين ثناياه أصداء تجارب الأخرين، أم على تأويلات القارئ وخلفياته المعرفية والوجدانية؟ لست هنا بصدد عرض مقاربات بنيوية أو ما بعدها للنص الأدبي، لأن الإمعان في اعتبار النص الأدبي "مولود ميت" هو جناية على اللغة التي كتب بها وإطلاق العنان لتأويلات القارئ، كما ان اعتبار المعاني كلها كامنة في متن النص هو إلغاء لفاعلية القارئ. ويظل رهان التهذيب رهين العلاقة التفاعلية بين القارئ والنص. ويتأتى ذلك بحضور ذاتية القارئ التي قد تتماهى مع عوالم النص الأدبي وشخصياته بما يستدعيه ذلك التماهي من إستحضار مشاعر وعواطف متعددة حسب السياقات والمعاني التي يثيرها النص. وقد تنعكس القراءة التفاعلية على إدراك ذات القارئ لذاتها وخبراتها الشعورية وكذلك توسيع افاق العلاقة الإيجابية مع الاخر. ان الغوص في عوالم الشخصيات الأدبية والتفاعل الوجداني مع تجاربها، لا شك له هامش التأثير على الذات. فالحضور الضمني لأليات التقمص والمقارنة والتوجس من طبيعة المصير. هو اكتشاف للذات أيضا ولبواعثها الواعية واللاوعية في الإقبال على الحياة. الأدب بين المحلي والعالمي: سؤال في حدود التهذيب من "الإلياذة" و "الأوديسة " الى شذرات الرواقيين ومن فرادة أبو الطيب المتنبي والمعري الى الكوميديا الإلهية لدانتي، ومن مسرحيات شكسبير الى أهات دوستويفسكي، ومن ثلاثية نجيب محفوظ الى واقعية غابرييل غارثيا ماركيث السحرية؛ يبرز سؤال التهذيب بين معايير كونية او محلية النص الأدبي، فالمحلية منها غالبا ما تكون ترجمة لسياقات محلية حاملة لخصوصيات ثقافية واجتماعية واثنية وغالبا ما يكون ذو هوية لغوية أو مناطقية (الأدب العربي الأدب الروسي الأدب اللاتيني..) يصور مختلف أصداء وملاحم وبطولات ومآسي المدن أو الأرياف ويستحضر تراثها مع ما يقتضيه ذلك من تجاوز الحدود الزمانية والمكانية. والواضح أن الأدب العالمي هو الأخر ليس في جوهره سوى أدب محلي استطاع التعبير ببراعة عن القواسم المشتركة للتجارب والخبرات البشرية. وذلك عبر الارتقاء بها من شرنقة المجال الثقافي الضيق الى سعة الكونية، ولا يتأتى ذلك الا بلغة عابرة للثقافات تذوب امامها الحواجز الاجتماعية والوجدانية. ان المحلي بمختلف دلائله الأدبية هي دعامة أساسية في خدمة الأدب العالمي، فقدرة الأخير على التهذيب تتجلى في انطلاقه من قاعدة الشواهد المحلية ووضعها في لُبوس مشترك تنتفي فيه عزلة الذات امام صور قطوف بألوان مختلفة من تجارب الغير. على سبيل الختم: الشعر عراب التهذيب نحو إعادة الشعراء الى رحاب الجمهورية يعتبر الشعر في مقدمة الأجناس الأدبية قدرة على تقليد مهام التهذيب، لما يتميز به من إيقاع لغوي، ومجاز المعنى، وبلاغة الصور، التي لها من الجبروت ما لها على اثارة المشاعر أو توجيهها. ولعلٌ هذه الأوصاف هي ما جعلت الفيلسوف اليوناني أفلاطون platoيحترس من الشعر ويستبعد أصحابه(بعضهم) من مدينته الفاضلة التي تشذرت معالمها في مختلف محاوراته خاصة الجمهورية. لكن ما مبررات أفلاطون في ذلك؟ لا يمكن استيعاب موقف أفلاطون من الشعر بمنأى عن فهم نظريته في المُثُل، فالعالم المادي المحسوس الذي نعيشه وأشيائه الناقصة هو ظلال لعالم من المُثُل الأزلية الكاملة. وبالتالي فالشعر عند افلاطون قائم على محاكاة Mimesis هي في الأصل محاكاة لواقع محاكي أصلا.ما يساهم في تشويه المشوه وابعاد الناس عن الحقيقة، ليس هذا فقط فالشعر في زعم أفلاطون (أقصى مواقفه المتطرفة) يثير تلك العواطف المدفونة ويزج بالإنسان في دوامة الإصغاء الى الانفعالات بعيدا عن فضيلة التبصر العقلي. والواقع أن أفلاطون كان شاعرا بشكل من الأشكال وهو يرافع عن لاجدوائية الشعر في مدينته الفاضلة. لكن ألا يمكن أن نغالي في المثالية ونقول عكس أفلاطون أن الشاعر لا يحاكي وانما ينتج أشعاره من موقع فائق لعالم المُثُل، وبالتالي لا يستقي الكلمات من ظلالها وانما من وقعها الحقيقي على النفس والعقل معا؟ وهنا تقتضي الإشارة أن أفلاطون وإذ كان قد انتقد الشعراء خصوصا المقلدين منهم، فقد أظهر بعض اللين تجاه الشعر خاصة في محاوراته الأخيرة (فيدروس والقوانين) حيث تخليه النسبي عن الإرث السقراطي. ما يبرز حاجة المدينة الفاضلة الى الفن والجمال. هذا اللين "المقيد" تجاه الشعر عند افلاطون في اخر معاركه الفكرية. هو ما قد يزكي مشروعية الانتقال الى تلميذه أرسطو Aristotle الذي فصل في كتابه «فن الشعر» بنيات الأخير ووظائفه مبرزا دوره في التطهير catharsis أو إجلاء المشاعر السلبية، فشعر التراجيديا عنده وهو يضعنا في قلب الأحداث المأساوية انما يحررنا بعد ذلك من سطوة الخوف والألم ويبعث فينا مشاعر الرأفة والأمل. والأمر ذاته قد يصدق على أنماط الشعر الاى الملحمي منه أو الغنائي. وإجرائيا فإن المتأمل أو القارئ لبعض نماذج الشعر العربي المعاصر خاصة أشعار "المقاومة "أو الغزل أو الرثاء. (محمود درويش أو تميم البرغوثي) يقف عند ما تثيره من صدى وجداني نظير ما تحمله من قيم ومعاني تعبر عن أوضاع الإنسان والأوطان. لقد شكل نص أرسطو في الشعر مرافعة مهمة عن جدوى هذا الأخير ودوره في التربية وتطهير النفس وتحرير المشاعر السلبية. لدرجة اعتباره أكثر فلسفية من التاريخ؛ فإذا كان الأخير يروي ما كان فالشعر قد يحيط بما هو ممكن ان يكون بالاحتكام الى دلالات المحاكاة. مراجع معتمدة: Meyer, Jim. "What Is Literature? A Definition Based on Prototypes." Work Papers of the Summer Institute of Linguistics University of North Dakota Session, January 1997 أرسطوطاليس. في الشعر. نقله من السريانية إلى العربية أبي بشر متى بن يونس القنائي. حققه مع ترجمة حديثة ودراسة لتأثيره في البلاغة العربية الدكتور شكري محمد عياد. الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1993. كرد محمد. "أفلاطون والشعر." مجلة دراسات إنسانية واجتماعية / ج وهران 02, مجلد 09, عدد 01, 16 جانفي 2020. مدرس الفلسفة بأكاديمية بني ملالخنيفرة، باحث في العلوم الاجتماعية