منذ ما قبل التاريخ ظل الإنسان يطوف بين السلم والحرب، إذ كانت ممارسة العنف الجماعي سلوكا طبيعيا، ينسجم مع تداول غايتي الدفاع والهيمنة، بدءا من الفرس والرومان والعرب مرورا بالفايكينغ والمغول والعثمانيون، وصولا إلى الإيبيريين ومن بعدهم غزاة التحضر "بلدان أوروبا الإمبريالية". وبالتالي فقد كان العنف أساس مشروع الدولة، فلا يمكن تصور قيام دولة ما، واستمرارها واستقرارها بلا ممارسة للعنف الجماعي "الحرب"، التي تُعد بمثابة قانون وجودي؛ "إذا لم تمارس العنف حتما سيمارس عليك". إلا أن نهاية القرن 18 وخصوصا سنة 1789، شكلت منعطفا تاريخيا لممارسة العنف الجماعي، حيث اندلعت شرارة الثورة الفرنسية، التي كانت مختبرا حقيقيا لفكر الأنوار، ثورة تُعد إرثا كونيا، ساهم في تنظيم العنف – الحرب، وبشكل متدرج أصبح خاضعا لمعايير وشروط ومبادئ، حيث كانت الغاية المثلى "احترام حقوق الإنسان" وعلى رأسها؛ الحق في الحياة، الحرية، وهكذا ظهر تاريخ جديد للعنف الجماعي أو بالأصح للسلم والحرب. الحركة الاستعمارية... "عنف وإبادة من أجل التحضر" أمام التحولات الاقتصادية والديموغرافية والاجتماعية التي عرفتها أوروبا الغربية، برزت حاجة ملحة إلى تصريف فائض الإنتاج الاقتصادي "أسواق جديدة" وفائض السكان "أرض جديدة" وكذلك ضمان التزود بالمواد الأولية "مناجم جديدة". في سبيل تلبية هذه الحاجات الاقتصادية والديمغرافية، عملت الدول الأوروبية المهيمنة، على تطوير المضمون القانوني للمعاهدات والاتفاقيات والمؤتمرات، بجعله ملزما للجميع عبر توظيف "إعلان الحرب" كضمانة لالتزام الجميع. مكن هذا التطور للعلاقات الدولية، من إضفاء طابع الشرعية القانونية على الحركات الاستعمارية التي هيمنت على العالم بأسره وخاصة إفريقيا التي كانت ولازالت "أثمن مستعمرة في التاريخ". لم تكتف الدول الأوروبية وخصوصا فرنسا صاحبة إرث الأنوار وإعلان حقوق الإنسان والمواطن بهذا التطور الهائل، بل اخترعت مبررا إنسانيا وحضاريا، يجعل من غزو الشعوب وإبادتهم، عملا خيريا ونبيلا، غايته مساعدة شعوب الأرض على "التقدم والتحضر". هكذا كان لا مهرب من الالتزام بهذه الرسالة الحضارية، أي إنقاذ بقية الشعوب التي تعيش التخلف والهمجية، ولو تطلب ذلك ممارسة إبادة جماعية ضد أمم بأسرها، وبالتالي فقد كانت إبادة الشعوب المقاومة للهيمنة الأوربية سواء المبكرة في أمريكا الجنوبية أو المتأخرة في إفريقيا خصوصا، سبيلا لنشر "الحضارة الغربية". فلسطين وازدواجية المعايير.. إنسان من درجة ثالثة إذا انطلقنا مما سبق يمكن الجزم أن للحرب قواعدها ومبادئها ومشروعيتها أيضا، لكن وباختصار؛ أظهر السياق التاريخي أن هذه "القواعد والمبادئ والمشروعية" تنكسر على صخرة اسمها "فلسطين"، فمنذ النكبة 1948، وبالضبط خلال الأشهر الأخيرة من سنة 1947 وحتى بداية سنة 1949، أصبح نحو 750 ألف فلسطيني لاجئين خارج الأرض التي سماها القانون الدولي "إسرائيل"، طُرد معظم هؤلاء أو فروا خوفا على أرواحهم، غادروا بلا عودة. في هذا السياق أعلنت الحكومة البريطانية عن إنهاء الانتداب على فلسطين، حدث تلقفته الأممالمتحدة التي سارعت لتبني القرار 181، والذي دعا إلى تقسيم أرض فلسطين إلى دولتين: يهودية وعربية، على أن تكون القدس تحت إدارة الأممالمتحدة. منذ هذا التاريخ، أطلقت الأممالمتحدة أخطر مؤامرة سياسية في التاريخ، تستمد هذه المؤامرة خطورتها من شيئين اثنين؛ الأول يتجلى في اعتمادها للميثولوجيا اليهودية "أرض الميعاد"، ولا شك أن هذا الاعتماد جوهره البرغماتية السياسية والاقتصادية، ويعني ذلك ضغط اللوبي الصهيوني من جهة، وزرع عضو غريب يساعد وجوده في هندسة تاريخ الشرق الأوسط وفق الرؤى الرأسمالية، أما الشيء الثاني فيتجلى في طبيعة التقسيم، الذي يُعد بمثابة طُعم جيوستراتيجي للفلسطينيين وحماتُهم من العرب. تُعد الجغرافيا من مرتكزات مفهوم الدولة، فكيف تقوم دولة ما بجغرافيا ممزقة، كحالة خريطة فلسطينالأممية. هكذا وُظف القانون الدولي لخداع الفلسطينيين، ومنذ ذلك التاريخ، والعالم المُتحضر يعمل ويُنفق بسخاء في ترويض الفلسطينيين والعرب، نجحت سياسة الترويض عبر محطات متعددة لعل أبرزها؛ اتفاقية فضّ الاشتباك في مرتفعات الجولان سنة 1974، اتفاقية كامب ديفيد سنة 1979، توقيع "إعلان المبادئ الفلسطيني – الإسرائيلي" سنة 1993، اتفاقية السلام بين إسرائيل والأردن "اتفاقية وادي عربة" سنة 1994. تكمن ازدواجية المعايير في التناقض الصارخ بين "الفعل والقول" لدى القوى العظمى، حيث أقر أبرز زعمائها آنذاك "روزفلت"، في إطار الميثاق الأطلسي، بحق الشعوب في تقرير مصيرها، لتأتي بداية الألفية الثالثة، بإعلان الأممالمتحدة بشأن حقوق الشعوب الأصلية، ويتعلق الأمر بقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 61/295، المؤرخ في 13 شتنبر 2007، حيث أقرت المادة 3 من هذا الإعلان "للشعوب الأصلية الحق في تقرير المصير. وبمقتضى هذا الحق تقرر هذه الشعوب بحرية وضعها السياسي وتسعى بحرية لتحقيق تنميتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. أين هم الفلسطينيون من هذا الحق؟ ألا يعتبروا شعوبا أصلية؟ أم الأصالة تخضع فقط للميثولوجيا الثوراتية؟ أين هي شعارات الديمقراطية والمساواة والحرية؟ لماذا تُصر الهيئة الراعية للقانون الدولي والمسؤولة عن تطبيقه على التلاعب بهذا القانون؟ التعطيش والتجويع... استراتيجية الإبادة القروسطية توج مسلسل الترويض السياسي بتبخر المشروع القومي العربي الذي ارتبط بأفول المد الشيوعي، ونهاية النظام البعثي بالعراق، مقابل نمو توجه جديد عنوانه "الدولة القُطرية" التي تسعى بكل براغماتية لتحقيق مصالحها. أنتج هذا الواقع السياسي الجديد فراغا جيوستراتيجيا واضحا، تفاقم بظهور الحركات الجهادية ودخول العراق وبعده سوريا واليمن وليبيا وبشكل أقل مصر ولبنان، دوامة الفوضى الخلاقة، التي تهدف إلى رسم خرائط جديدة، تمكن من تقاسم وتوزيع جديدان للنفوذ ومصادر الطاقة بين القوى العظمى وحلفائهم بالمنطقة. نضجت سياسة الترويض أو لنسميها ولادة البرغماتية العربية، التي أصبحت متلازمة للدولة الُقُطرية الصاعدة، على يد فارس البيت الأبيض الذي يؤمن بالفعل لا بالقول، والمقصود هنا "توقيع اتفاقيات أبراهام سنة 2020′′، والتي أحدثت صدمة وجودية لأهل غزة خصوصا، وبذلك كانت منعطفا سياسيا حاسما، أشعر الفلسطينيين بنهاية حلم الدولة ونوستالجيا العودة. جاءت شرارة الرد على يد حركة حماس التي باغتت إسرائيل يوم 7 أكتوبر 2023، بهجوم واسع سُمي بطوفان الأقصى، مغامرة عسكرية غير محسوبة النتائج، ربما استندت بدورها للميثولوجيا الإسلامية أكثر من استنادها إلى ميزان القوة العسكرية، لكن رغم ذلك أظهرت أنها قادرة على تهديد الوجود الإسرائيلي بالشرق الأوسط. بوزن صدمة الطوفان كان الرد العسكري الإسرائيلي، إذ اتخذ شكل إبادة جماعية لسكان غزة، واستهداف دقيق لقياداتها ولقيادات حزب الله بعد انخراطه في حرب إسناد، غايتها إنهاك واستنزاف الجيش الإسرائيلي، الذي اعتبره قادة محور المقاومة "جيش الحروب الخاطفة"، لكن الصدمة كانت قوية مرة ثانية، وفوجئت المقاومة بالصمود العسكري الإسرائيلي، والقدرة العجيبة على تحمل التكلفة الاقتصادية للحرب وتجاهل التكلفة الاجتماعية والوجودية – انتعاش الهجرة العكسية للإسرائيليين. رغم استماتة المقاومة وخسائرها الثقيلة من جهة، وتحمل إسرائيل للتكاليف الباهظة للحرب من جهة ثانية، تزايدت رغبة الأطراف المتحاربة في التهدئة، لإعادة ترتيب الأوراق والاستعداد لمرحلة "الشرق الأوسط الجديد"، وفي سبيل تحقيق هذه الغاية، وظفت القيادة الإسرائيلية كل مُقدراتها ومُقدرات حلفائها الغربيين، لدرجة تنصلها من كل المناشدات الدولية وتجاهلها للأوروبيين، الذين ظهروا كقوى تابعة لكيان حالم بخريطة إسرائيل الكبرى، ومستعد للمغامرة بكل شيء في سبيل تحقيق غايته التوراتية. تسير إسرائيل في حرب بلا هوادة وبلا رحمة، وبتجاهل تام للقانون الدولي، ولدعوات الأمم المتحضرة، التي ظهرت ضعيفة وتابعة، غير قادرة على حماية إرث الأنوار وما ارتبط به من مظاهر الحضارة الغربية. لم تكتف إسرائيل بالقصف العشوائي والمدمر للأرض، بل ذهبت إلى الأخطر من ذلك، جراء استمرار المقاومة في صد التدخل البري، إذ وظفت استراتيجية حروب القرون الوسطى، حيث لم تكن لا الأممالمتحدة ولا الديمقراطيات الغربية، استراتيجية التعطيش والتجويع، التي تُعد أخطر من السلاح النووي نفسه. تعتبر استراتيجية الحصار والتجويع فعالة جدا، فهي بمثابة إبادة ناعمة على عكس الإبادة باعتماد القصف المدمر، فهي حرب قاسية لكنها بلا تكلفة، وهي استراتيجية تاريخية تعود للقرون الوسطى وما قبلها، فدائما كانت أبواب القلاع والمدن تفتح أمام سيوف الغزاة على وقع الجوع والعطش، فمهما اكتنزت من طعام فهو يكفي لمدة معينة، والأخطر من ذلك هو اللجوء إلى تسميم المياه أحيانا، هذه هي حروب القرون الوسطى وما قبلها، والتي تحاول إسرائيل استعادتها كاستراتيجية حاسمة لحرب غزة. يمكن القول إن سلاح "التجويع والتعطيش" أشد فتكا من السلاح النووي، لأن الأول يحقق الأهداف ويحافظ على الأرض، وهذا طبعا ما تريده إسرائيل فلولا طمعها في الأرض وخوفها من أثر الاشعاعات النووية لعقود طويلة، لم تكن لتتجنب استعمال القنبلة النووية، لحرق الأخضر واليابس، لكنها تُريد أرضا فارغة لكنها منتجة، لذلك فالحرمان من الماء والطعام، يعد سلاحا ناعما عسكريا، عنف من نوع آخر يعود لقرون مضت. لم تجد إسرائيل أي حرج أمام حلفائها الغربيين في استعمال هذا السلاح الجديد القديم، لأن هؤلاء وبكل بساطة لهم تجاربهم الحافلة باستعماله، خلال الحروب الاستعمارية، فعلى سبيل المثال لجأت فرنسا الإمبريالية في شمال إفريقيا، عموما وبمنطقة بويبلان المغربية خصوصا، إلى قصف قطعان الماشية وحرق الحقول ومنع التحركات التجارية، والغاية كانت الضغط على بطون المقاومة وتجويعها وبالتالي دفعها لرفع الراية البيضاء. تجب الإشارة إلى أن هذه الاستراتيجية كانت شائعة بين القوى الإمبريالية، في زمن لم تكن فيه الأمم المتحضرة تتباهى بديمقراطياتها، ولم تكن هيئة الأممالمتحدة ولا إعلانها، ولا الميثاق الأطلسي ولا مجلس الأمن ولا القوى العظمى... وقبل كل ذلك؛ في زمن لم تكن الصورة متاحة كما هي الآن، كانت الإبادة تُمارس في الخفاء، أما الآن فهي تُمارس في العلن، الكل يشاهد يوميا آلاف الصور ومقاطع الفيديو، لمأساة سكان غزة "قصف، عطش، جوع"، ثلاثية قاسية لكنها غير كافية لتحريك الأمم المتحضرة لوقف الإبادة الجماعية، وغير كافية أيضا لتحريك مشاعر شعوب الأرض وخصوصا الشعوب المتحضرة التي تتغنى بحقوق الإنسان وتحاول عولمة حقوق الحيوان وخصوصا حقوق الكلاب.