راعني كثيرًا ما تابعته في وسائل التواصل المختلفة من نقدٍ موجهٍ لأحد علماء المغرب، المشهود لهم بعلمهم وانتمائهم العضوي لقضايا الأمة والوطن، الدكتور مصطفى بنحمزة. وإذا كانت النقود المتعددة التي تُوجَّه له من طرف خصوم المشروع الإسلامي مقبولةً، من جهات تعادي كل من ينافح عن ثوابت الأمة المتعددة، فإن تناسل الكتابات المتهمة للشيخ بانحيازاته المتعددة، يحتاج إلى وقفة تنبيه وتوجيه. أنا لا أريد أن أتدخل في قضية تنظيمية لوزارة الأوقاف، وأعتبر الأمر شأنًا إداريًا أكثر منه موقفًا سياسيًا، له سوابق كان ينبغي أن ينتبه إليها سلفًا، في وزارة ظلت على الدوام خارج الزمن المغربي، وإعلامها وخطبها وحتى بياناتها "المسددة" خير دليل على ذلك، وكان من المفروض أن يكون النقاش الذي فتحته إقالة أحد رؤساء المجالس العلمية والردود الشعبية الرافضة مناسبةً لفتح هذا الملف. لكن أن يُتغافل عن جهود أحد أبرز علماء المغرب العضويين، إن لم يكن آخرهم، الذي يجمع في مسار واحد بين العلم الشرعي والانفتاح على الحديث، بين الدفاع عن الثوابت والنضال ضد كل مسٍّ بالمجتمع وقيمه، بين الإيمان بقضايا الوطن المتعددة دون الاستسهال مع خصوم الإسلام والمسلمين، فهذا أمرٌ صعب السكوت عنه. فبدل التخوين والتكفير وتوزيع وسوم الخيانة، كان من المفروض على بعض المنافحين عن القضية الفلسطينية والمشروع الإسلامي، سواء من فيلق الإصلاح أو التغيير الجذري، القيام ببعض الجهد في قراءة داخل عقل بنحمزة، أو مشروعه الذي جمع بين الاجتماعي والدعوي والأكاديمي، وفق رؤية حضارية واضحة، مما جعله أحد آخر قلاع الأمة في الجسم العلمائي، ومحاولة تشويه صورته وحصارها لن يخدم إلا خصوم الفكرة الوطنية والإسلامية. فبنحمزة لم يكن أبدًا صاحب مشروع تنظيري داخل برج عاجي مُغَيَّب عن الواقع الذي يعايشه ويعتمل فيه، ولم يضيّق مجال اهتمامه على فتاوى الطهارة والنفاس وما جاورهما، بل كان وما زال جزءًا من التغيير، موجِّهًا ومقدِّمًا البدائل الواقعية الإجرائية، وليس من خلال لوك الشعارات والعناوين البراقة، منافحًا عن قلاع المشترك المغربي أو ما تبقى منها، وهو ما يفسر ردوده الدائمة على مجموعة من التصريحات الإعلامية والقرارات الوزارية التي تمس الجوهر الإسلامي للمجتمع، وعلى بعض دعاة العلمنة الاستئصالية وأساتذتهم، وعلى كل مسٍّ بعقائد المغاربة، فرد على طالبي المساواة في الإرث، ورد على بعض الوزراء ومدبري الشأن العام، ودافع عن العربية باعتبارها لغة الدين والشريعة، ونافح عن الملكية عنوانًا للوحدة وضمانًا للأمان... مسار طويل من المقاومة والدفاع عن هذا الوطن وقيمه. فواجب الوقت في تصوره هو حماية ما تبقى من قلاع الأمة وليس هدمها، والرهان على الوحدة وليس التشظي، وأسس لذلك مسارًا بحثيًا ودعويًا بدأت تباشيره تلوح في الأفق. لذا تعب خصومه في حشره في زاوية إيديولوجية أو حزبية أو إثنية معينة دون أن يفلحوا، فكيلت له التهم المختلفة في محاولة للقضاء على مشروعه دون أن تصمد أمام قوة فكرته. لكن الواقع شاهد على إنجازاته. هل نضرب كل هذا من أجل تأويل خاص لتصريح خاص في سياق خاص جدًا؟ بعض الأساتذة من وراء الشاشة كتبوا، وهم ينتقدون، عن سبب التصريح، وعن العلة من اختيار منبر دون آخر، وهي كلها تأويلات خاصة وصلت ببعضهم إلى وصف الشيخ بوسوم الخنوع للدولة وقراراتها، بل والتطبيع مع الكيان الصهيوني. وبعضهم يصوره مثل إمام مسجد في منطقة نائية تفرض عليه طريقة الخطبة والختم والصلاة، والبعض الآخر تفنن في الانتقاء من التراث الإسلامي عناوين لإسقاطها على تجربة الشيخ، وهم لا يعلمون، أو لا يريدون أن يعلموا، أنه كرَّس حياته منذ بدايته الدعوية للمقاومة بكل أنواعها: مقاومة التفاهة، والعلمنة، والمسخ الهوياتي، والهشاشة المجتمعية، والضعف الاقتصادي. إن الصورة التي قدمها للعالم العضوي والتي يجتهد الكثيرون الآن بحسن نية أو بسوئها للمس بها صورةٌ للعالم العامل المشارك لأمته والمنتمي لوطنه ولعصره. لذا لن يفاجئك الإقبال المتزايد على فتاواه واستشاراته ومحاضراته، داخل الوطن وخارجه، وحتى عند الآخر المختلف قيميًا ومعرفيًا. فبعد صمت العلماء الطويل وانزوائهم عن المجتمع المتموج وتخصصهم في فروع النقاش الفقهي، أتى بنحمزة ليعيد للعلم وأصحابه بعض البريق المفقود، فكتب عن حقوق المعوقين، والتسامح بين المسلمين، والعداء عند الغربيين نحو الإسلام، والمرأة والمساواة، ومقاصد التربية الإسلامية، وزرع الأعضاء وتبادلها مع غير المسلمين، والوقف الذري... وغيرها كثير. وبالطبع لم تكن فلسطين غائبة عن هذا المجهود العلمي والدعوي المقاوم، بل ظلت القضية حية في مشاريعه المختلفة، دون شعارات براقة، ولا تفكير صدامي يكثر الأعداء ويحشر الأصدقاء في صف الخصوم، من خلال الدعم المادي والمعنوي، ومن خلال المنابر والسبل المتاحة. بل إن مشروعه العلمي الأكاديمي المتعدد المفاصل، والذي أنتج العديد من المسارات البحثية، مؤسس في جوهره على بعث الروح في جسد الأمة الواهن من أجل استعادة القوة، والقدس بوصلة، دون صدام مع الدولة، أو تخوينها، أو معاداة المخالفين. لذا ليس من الإنصاف أن يزايد بعض الشباب الآن على جهود الشيخ ومقاومته التي لم تكن وليدة اللحظة، وليس من الضروري أن تُدبَّج في خطب وشعارات لتثبت إيمانه بالقضية. بل إن اختيار المنابر لتصريف المواقف هو جزء من فلسفة الانفتاح على الجميع دون قوالب أو تنميطات قسرية، تُبنى على مقدمات مغلوطة في الغالب الأعم. قبل مدة كتب الأستاذ عبد الكريم غلاب: "ليس من السهل أن يكتب كاتب عن علال الفاسي إلا إذا كان من الصبر بحيث يستطيع أن يتتبع هذا الرجل في أفكاره، وتخطيطاته واتجاهاته السياسية والفكرية والاجتماعية". وهو أمر يتكرر عند مقاربة اهتمامات وانشغالات أساطين المغرب وأعلامه. وفي حالة الدكتور بنحمزة يغدو الأمر أكثر صعوبة حين تقارب رجلاً هو في الآن نفسه مشروعٌ للوطن لا يتقيد بضوابط الانتماء الإيديولوجي والإقليمي. لذا فهو يقدم صورة للعالم العامل المؤمن حتى النخاع بانتمائه وهويته وقيمه، ويؤسس لتغيير هادئ للمجتمع، مؤسس على وحدة مكوناته، ومحافظ على الوطن وثوابته السياسية والاجتماعية والعقدية، بعيدًا عن فرقعات الإعلام أو الانتظارية أو الاستعمال العرضي، لكنه دفاع مستميت عن مؤسسات الدولة وقلاع المشترك المتبقية. وما تبقى منها قليل.