في كل مرة يُستحضر فيها مجد معركة وادي المخازن، يعود المغاربة، دون أن يشعروا، إلى تأمل سؤال وجودي لا يزال يطرق الأبواب: من نحن، نحن الذين انتصرنا حين كانت الهزيمة قدرًا للآخرين؟ لسنا بصدد استعادة حدث عسكري فاصل فقط، بل نُعيد قراءة لحظة تاريخية كاشفة، ظهر فيها المغرب، لا كأرض تحمي حدودها، بل كأمة تدافع عن رسالتها، وهويتها، وموقعها في عالم مضطرب. فهل لا نزال نعِي هذه الرسالة؟ وهل لا نزال نحمل هذا المعنى في وعينا الجماعي؟ حين تصدى المغاربة لجيوش البرتغال المدججة، لم يكونوا يتفوقون عليها عدة ولا عتادًا، لكنهم كانوا أوعى بمعنى السيادة، وأشد تماسكًا حول تصور جامع للانتماء. لقد عرفوا أنفسهم في مواجهة الخطر: دولةٌ لها عمق ديني، وقيادة شرعية، وذاكرة نضال ممتدة. أما المعتدي، فكان بلا قضية، وبلا جذور، وبلا لغة يفهم بها الأرض التي أراد إخضاعها. اليوم، وبعد أربعة قرون ونصف من ذلك الانتصار، لا تزال جذوة ذلك السؤال حية: من نحن، في زمن العولمة المائعة، والتفكك الرمزي، والاندفاع وراء أنماط عيشٍ هجينة؟ لقد تغيّرت أدوات الغزو، لكنّ رهانه على تشويش الهوية لم يتغير: رسائل تُسَوّق للعدمية، ونماذج فارغة مفصولة عن السياق المحلي، وسرديات مشوشة تُفرغ التاريخ من رسالته، وتُعلّم الأجيال كيف تُقلد، لا كيف تبتكر من داخل خصوصيتها. لكن هذه الأمة، التي انتصرت يومًا في وادي المخازن، ليست أمة منغلقة، بل أمة عظيمة: تعرف كيف تواجه حين تُفرض المعركة، وتعرف كيف تتجاوز التحديات حين تتكاثر، وتعرف كيف تقبل الواقع دون أن تستسلم له، وتعيد تشكيله بما يخدم رسالتها وقيمها. فالمغاربة، وهم يكرّمون جثمان ملك غازٍ قُتل في ساحة المعركة، لم يكونوا يعرضون أخلاقياتهم فحسب، بل كانوا يعلنون ثقة أمة لا تحتاج للثأر كي تثبت ذاتها، ولا للغلبة كي تحيا. واليوم، في عالمٍ تتكاثر فيه التحديات وتتعدد فيه صور الاستهداف، لا يأتي الخطر فقط من أدوات الهيمنة التقليدية، بل من محاولات التشويش على وحدة الشعوب وتمزيق هوياتها من الداخل، عبر كيانات وهمية تُصنع في غرف السياسة وتُغذى بأوهام التاريخ. وإن من المفارقات المؤلمة أن ينبعث صوت التفرقة لا من خصوم بعيدين، بل من جغرافيا الجوار، حيث يُستبدل منطق الإخوة بمنطق الرهانات الجيوسياسية الضيقة، ويُعاد تدوير مشاريع فشلت في التاريخ، على أمل أن تُثمر في الحاضر. لكن أمة قاومت جيوشًا صليبية على أبواب وادي المخازن، لن يربكها خيام اصطُنعت خارج حدودها، ولا شعارات انفصالية تعيش على أنفاس غيرها. معركة وادي المخازن لا تختزل في دماء ثلاث ملوك سقطوا على أرض واحدة، بل تُلخّص سؤالًا أخلاقيًا وسياسيًا ما يزال مطروحًا حتى اللحظة: كيف تحافظ أمة على نسيجها الوطني، إن أرادت أن تواجه التحديات القادمة بثقة وثبات؟ لقد تمسّك المغاربة في القرن السادس عشر بثوابتهم الحضارية، قبل أن يتصدوا للعدوان الخارجي. عرفوا ذاتهم، فتوحّدت صفوفهم، وانتصروا. واليوم، أمام تحديات العولمة الثقافية، وتيارات ما بعد الهوية، يبدو أن اللحظة تطالبنا بالعودة إلى الجواب نفسه: نحن أمة تعرف من تكون، ولذلك تعرف إلى أين تريد أن تذهب.