لم تَعُد إسرائيل تكتفي باستهداف المدنيين في غزة، ولا بالقضاء على قادة المقاومة داخل الأرض المحتلة، بل تجاوزت حدود المعركة الجغرافية والسياسية، ووجّهت رسائلها الصاروخية إلى قلب الدبلوماسية الإقليمية، حين قصفت الدوحة، العاصمة التي كانت ولا تزال تحتضن جهود الوساطة بين حماس وتل أبيب منذ اندلاع الحرب في أكتوبر 2023. الضربة الجوية التي استهدفت قياديين في حركة حماس على الأراضي القطرية، وأدت إلى مقتل ستة أشخاص بينهم عنصر في الأمن القطري، لم تكن مجرد تصعيد عسكري، بل إعلان واضح بأن إسرائيل لم تعد تعبأ بسيادة الدول، ولا بقواعد الاشتباك السياسي، ولا حتى بتعقيدات التوازنات الدولية. إنها ضربة استعراضية تحمل في طياتها رسالة مفادها: لا أحد محصّن، حتى أولئك الذين يسعون إلى الحل. لكن الأسوأ من الغطرسة العسكرية، كان في الصمت الغربي المريب، الذي لم يخرج عن دائرة "التحفظ الدبلوماسي". وعلى الرغم من الإدانات التي صدرت من عدد من العواصم، من بينها باريس ولندن وبرلين، فإن مستوى الخطاب ظل دون ما تقتضيه خطورة الاستهداف: قصف دولة ذات سيادة تلعب دورًا محوريًا في الجهود الرامية إلى وقف إطلاق النار، وفي ملف الرهائن، وفي منع انزلاق المنطقة إلى هاوية لا قرار لها. ما فعلته إسرائيل هو استهداف مباشر للوسيط، وللمفاوضات، ولما تبقّى من غطاء سياسي لأي اتفاق محتمل. إنها تقصف طاولة التفاوض قبل أن تقصف العدو المفترض، وتخوض معركتها لا ضد السلاح، بل ضد أدوات الحل. أما الرسالة الأوضح، فهي أن الدولة العبرية لم تعد تحتمل حتى المساعي التي قد تُفضي إلى تهدئة أو تسوية، ما لم تكن هذه المساعي مشروطة بالكامل بإملاءاتها. ولهذا، فإن استهداف الدوحة لا يُقرأ فقط كخرق سافر لسيادة دولة، بل كتمرد مفضوح على النظام الدولي برمته، واحتقار لما تبقّى من قواعد اللعبة الدبلوماسية. الردّ القطري، الذي جاء واضحًا وصارمًا، أكّد أن "الوساطة جزء من الهوية"، وأن الدوحة "تحتفظ بحق الرد"، وهي تصريحات نادرة في لهجتها، تعبّر عن نقطة تحوّل في الموقف الخليجي، الذي بدا أكثر انسجامًا في هذه الحادثة. لكن الأزمة الحقيقية ليست فقط في القصف، بل في سؤال الشرعية الأخلاقية: أي دولة هذه التي تستبيح سيادة الآخرين، وتستهدف المفاوضين، وتُفلت في كل مرة من العقاب؟ أي نظام دولي هذا الذي يُدين القصف بالكلمات، ويستمر في تزويد المعتدي بالسلاح؟ ما فعلته إسرائيل في الدوحة هو لحظة مفصلية، ليس لأنها أطلقت صواريخ خارج نطاق المواجهة المعتادة، بل لأنها وضعت نفسها في مواجهة مع كل من يحاول أن يقرّب بين المتقاتلين. لقد استهدفت الوسيط، فهل تنتظر من هذا الوسيط أن يعود إلى الطاولة خاضعًا؟ أم أنها ببساطة تحاول إسقاط فكرة الوساطة من أساسها، تمهيدًا لفرض حلٍّ أحاديٍّ بالقوة؟ إن الردّ الحقيقي على هذا النوع من الغطرسة لا يكون فقط ببيانات التنديد، بل بتحويل هذه اللحظة إلى فرصة لإعادة تعريف العلاقة الدولية بإسرائيل: ليس ك"دولة طبيعية"، بل كقوة عدوانية مارقة، لا تعبأ بالحدود، ولا بالعهود، ولا بالشرعية. وفي حين يحاول صقور إسرائيل تبرير الضربة بأنها استهداف ل"إرهاب" أو "تهديد محتمل"، فإن استهداف فريق تفاوضي أثناء محادثات وقف إطلاق نار، هو في ذاته تجسيد دقيق للإرهاب السياسي، لا يُمارس بالسلاح فقط، بل بمنطق فرض الصمت بالقوة. لقد قُصفت الدوحة، لكن الرهان الإسرائيلي خاسر. فالوسيط لم يسقط، والمفاوض لم يغادر، والعالم – برغم صمته – تلقّى الرسالة، وسيُسأل عنها عاجلًا أو آجلًا.