مرة أخرى أعود إلى "كاتبي المفضل" تيم هارفورد رغم النقد الذي وصلني لمحبتي استخدام هذا التعبير. بيد أن هارفورد سيبقى مفضلا لي لأنه لا يكتفي بصقل جوهر اللغة فيما يكتب، بل بمقدوره صناعة الأفكار حتى وإن كانت محتالة! وهكذا في مقاله الجديد ابتكر سيناريو غير موجود لطلب الاعتذار من الذكاء الاصطناعي عندما أوهمه تطبيق رقمي بموعد عشاء مع سيدة مرحة، واتضح عند وصوله إلى المطعم أن الموعد لم يكن مع امرأة وإنما كان مع أخطبوط! لتجنب أي شك، هارفورد -مؤلف عشرة كتب حققت مبيعات هائلة، وآخرها "كيف تجعل العالم منطقيًا"- ليس من مستخدمي مواقع المواعدة، ولم يكن هناك أخطبوط ينتظره في المطعم، بل كان سيناريو مُصنّعا وضعه أمام "شات جي بي تي" متسائلا عن سبب إرساله في موعد غرامي مع أخطبوط، وفوق ذلك طلب منه اعتذارا! هكذا بادر الذكاء الاصطناعي بكياسته المعهودة ولغته المهذبة بالاعتذار الشديد من هارفورد رغم أنه لم يطلب منه أي نصيحة مواعدة أصلًا. وبرر "شات جي بي تي" سبب ارتكابه لهذا الخطأ بضعف فهمه "لقواعد المغازلة البشرية". لم يكن ذلك السيناريو الذي صدقه الذكاء الاصطناعي مجرد كوميديا ارتجالية، مع أنه يستطيع القيام بالكثير من الأشياء المثيرة للإعجاب، بل كان درسا مفيدا من الذكاء الاصطناعي الذي يعتمد الارتجال على تقبّل الفكرة الأساسية ويأخذ كل ما يُلقى عليه والبناء عليه. ليس بطريقة "الزبون دائما على حق"! ألم يكن ينبغي على "شات جي بي تي" أن يجيب هارفورد بثقة "لم أرتب لك موعدًا قط، مع أخطبوط أو غيره" بدلا من أن يبادر إلى الاعتذار؟ الإجابة تأتينا من كاتبي المفضل بالقول: سيكون حينها الذكاء الاصطناعي شريكا ارتجاليا سيئا. ويتساءل: ما الدور الذي يعتقد الذكاء الاصطناعي أنه يلعبه؟ قد يُسبب الالتباس حول هذا السؤال صداعًا شديدًا بسرعة مفاجئة. لكن مقابل ذلك ثمة مزحة فلكلورية تداولها العراقيون عندما سألوا الكمبيوتر بعد أسابيع من دخوله العراق "شكو ماكو" يقال إن الكمبيوتر المسكين ارتبك واختلطت عليه الأمور فانفجر منتحرا من ضخامة السؤال الذي يسأل عن كل شيء! تلك المزحة الفلكلورية لا تليق ب"شات جي بي تي" فهو في غاية السعادة بالمساعدة والسرعة في اختيار الإجابات، بل صار بمجرد أن ألقي التحية عليه يبادر بالترحاب ويسألني ماذا لديك من أفكار جديدة كي نتحاور فيها. ووصل به الأمر إلى أن يتفهم انزعاجي عندما وبخته على ذكر مقامات أغاني بطريقة خاطئة فأعطيته درسا في الحس الإنساني مطالبا إياه بألّا يرتجل مثل تلك المعلومات وتصحيح ذاكرته المهولة بشأن أغنية ناظم الغزالي فهي ليست من مقام الحجاز كما ذكر لي، وإنما من مقام المخالف العراقي روحا وتعبيرا. لطالما شعر باحثو الذكاء الاصطناعي بالقلق بشأن ما يسمونه "مشكلة التوافق"، وهو السؤال حول ما إذا كانت أنظمة الذكاء الاصطناعي (والخوارزميات على نطاق أوسع) ستفعل ما نريدها أن تفعله، أو أنها ستسيء فهم أهدافنا الحقيقية بطريقة أو بأخرى. إشارة "شات جي بي تي" إلى "الموعد مع الأخطبوط" يمكن أن تكون رمزًا لمواقف غير منطقية أو غريبة قد نواجهها بسبب الاعتماد المفرط على التكنولوجيا. فحتى لو كانت السخرية ظاهرة واضحة في المقال، فهارفورد قد يسلط الضوء على قلقه من أن التكنولوجيا قد تأخذنا إلى أماكن غير متوقعة في حياتنا العاطفية، الاجتماعية أو حتى المهنية. ليظهر في النهاية، كيف يمكن لهذه التكنولوجيا أن تضل الطريق وأن تتحول إلى نوع من "الارتجال الفكاهي" الذي يثير قلقًا أكبر من الأمان. فطلب اعتذار من "شات جي بي تي" بسبب موعد مع أخطبوط، قد يعكس فهمًا مشوهًا لدور التكنولوجيا في حياتنا. السخرية هنا ليست فقط من الأداة نفسها، ولكن أيضًا من طريقة تفكيرنا في الذكاء الاصطناعي ككيان "يستطيع" تقديم الإجابات الصائبة والمساعدة في الأمور اليومية. ما يثير الاهتمام هو كيفية تزاوج الفكاهة مع التحليل العميق حول مسألة "المواءمة" بين الإنسان والذكاء الاصطناعي. فكما في الأساطير القديمة، ربما ننال ما نطلبه، ولكن الثمن قد يكون باهظًا أو محيرًا. فإذا أردنا لِ"الشريك الرقمي" أن يكون مفيدًا، علينا أن نعلمه حدودنا ونفهم حدوده. نحن لا نطلب من الآلة أن تكون إنسانًا. نطلب منها أن تكون أمينة في وظائفها.