يتجاوز اللقاء الذي جمع أحمد الشرع، الرئيس السوري الانتقالي، بالجنرال الأميركي السابق ديفيد بتريوس في قمة "كونكورديا" كونه مشهدًا عابرًا إلى لحظة فارقة مشحونة بالرمزية والتاريخ. قبل أكثر من عقدين، وقف الرجلان في خندقين متقابلين على أرض العراق؛ أحدهما قاد أشرس النخب العسكرية للجيش الأميركي في غزو العراق (الفرقة 101 المحمولة جوًا)، والآخر كان مقاتلاً شابًا حمل السلاح رفقة تنظيم "القاعدة" مدفوعًا بحماس أيديولوجي ضد الاحتلال. اليوم يلتقيان على منصة حوار عالمي، يتبادلان الرأي حول مستقبل سوريا وأمن المنطقة، في صورة تختزل مسارًا طويلاً من الدماء والتحولات، وتعلن انتقال الشرق الأوسط من زمن الحرب المفتوحة إلى زمن البحث عن صياغة جديدة للتوازنات والشرعيات. في هذا المشهد تكمن مفارقة التاريخ: الرجل الذي وُضع اسمه على قوائم المطلوبين لدى المخابرات الأميركية بمكافأة تقدر بعشرة ملايين دولار، يجلس اليوم رئيسًا لدولة، ويحاوره من كان يسعى للقبض عليه أو تصفيته. ليس في ذلك تمجيد للماضي بقدر ما هو تأكيد على قدرة الزمن على إعادة تعريف الأدوار والمواقع. الشرع أو "الجولاني" سابقاً، الذي تنقل بين السجون، وخرج قبل اندلاع الثورة السورية بعامين، لم يتوقف عند لحظة الماضي ولا عند سردية الضحية أو البطولة الفردية، بل اختار أن يقدّم نفسه اليوم بصفته قائدًا سياسيًا يسعى لإعادة بناء سوريا على أساس الاعتدال، وحدة الدولة، وحصر السلاح بيد المؤسسات. وهذا التحول في حد ذاته رسالة إلى الداخل والخارج: أن من عاش تجربة العنف يدرك أكثر من غيره أن لا مستقبل للشعوب يُكتب بالدم والسلاح. من جهة أخرى، يجسّد جلوس بتريوس – الذي يخاطب الشرع بلقب "سيادة الرئيس" في مقعد المحاوِر – اعترافًا صريحًا بأن ما كان يُنظر إليه كخطر مطلق بات طرفًا في معادلة الحل، وأن واشنطن التي قادت حربًا استنزفت مواردها وأغرقت المنطقة في فوضى، تجد نفسها مضطرة إلى التعامل مع نتاجات هذه الفوضى بصيغة مختلفة. لا يعود الأمر فقط إلى رغبة في فتح قنوات سياسية، بل إلى إدراك استراتيجي أن العالم تغيّر، وأن الشرق الأوسط لم يعد يحتمل مقاربات الصراع الصفري، بل يحتاج إلى إعادة صياغة شاملة لشبكة المصالح والأمن الإقليمي. القيمة الكبرى للصورة ليست في اللقاء الحواري، بل في ما تمثله من رسائل، الأولى أن سوريا تحاول أن تعيد تعريف موقعها بعد أكثر من عقد من العزلة، ليس كطرف معزول يطالب بالنجاة، بل كدولة تعلن أنها انتقلت من منطق المواجهة إلى منطق الحوار، فالشرع لم يتحدث بلسان الماضي، بل بلسان الرئيس الانتقالي الذي يطالب برفع العقوبات، وفتح باب الاستثمار، وربط الاستقرار الأمني بالتنمية الاقتصادية. هذه مقاربة براغماتية تسعى إلى استبدال صورة سوريا الممزقة بصورة بلد يبحث عن شراكات جديدة، بينما تشير الرسالة الثانية إلى أن الحوار بين أعداء الأمس ممكن، بل ضروري، إذا أرادت المنطقة أن تتجنب دوامة جديدة من الحروب بالوكالة والانهيارات. الرسالة الثالثة تؤكد أن الاعتدال ليس مجرد شعار للاستهلاك الدبلوماسي، بل مسار يمكن أن يحمله من كان في أقصى الضفة الراديكالية يومًا، ثم اختبر بنفسه عبثية العنف. إن حضور الشرع في نيويورك بصفته رئيسًا يتحدث باسم بلده لأول مرة منذ ستة عقود في الأممالمتحدة، وظهوره إلى جانب أحد رموز القوة الأميركية في العراق، يعكس رغبة في تثبيت صورة جديدة لسوريا: بلد يسعى إلى استعادة صوته الدولي، والتأكيد أن التجربة المريرة التي عاشها لا يجب أن تعيد إنتاج نفسها، والعالم ينظر إلى هذه الصورة كاختبار لإمكانية بناء الثقة، وتجاوز لغة الاتهام المتبادل نحو صياغة واقعية للتعايش. في النهاية، لا يمكن النظر إلى جلوس أحمد الشرع وديفيد بتريوس وجهًا لوجه في لقاء حواري إلا كإعلان عن درس سياسي عميق: لا عداوة أبدية في السياسة، ولا حرب بلا نهاية، وما بدا مستحيلًا في الأمس يمكن أن يصبح واقعًا اليوم إذا تغيرت الظروف وتبدلت الأولويات. وإذا كان اللقاء قد بدا غريبًا أو غير متوقع، فإنه في جوهره يعكس منطق التاريخ: أن القوة مهما تعاظمت تؤول إلى الحوار، وأن الاعتدال، ولو خرج من رحم أقسى التجارب، يبقى هو الطريق الوحيد لبناء مستقبل لا تحكمه أشباح الماضي.