المدارس الثانوية والتربية على المشاركة السياسية تُعد المدرسة إحدى أهم مؤسسات التنشئة الاجتماعية، إذ تضطلع بمهمة تربية الناشئة وتعليمهم وتأهيلهم للاندماج الإيجابي في المجتمع والمساهمة الفاعلة في تنميته. فهي لا تقتصر على نقل المعارف وتنمية المهارات، بل تتجاوز ذلك إلى بناء شخصية مستقلة قادرة على التفكير النقدي وتحمل المسؤولية والمشاركة في الحياة السياسية. وتعتبر المشاركة السياسية جميع الأشكال التي يُعبّر من خلالها الشباب عن آرائهم ويسعون للتأثير في سياسات الشأن المحلي. وتشمل: المشاركة السياسية المؤسسية (كالتصويت، الانخراط والعمل من داخل الأحزاب، المشاركة في برلمان الطفل...) وغير المؤسسية (كالمساهمة في التنمية المجتمعية عبر جمعيات المجتمع المدني، الحركات الشبابية، النقابات العمالية...). وبما أن المدرسة جزء لا يتجزأ من النسيج المجتمعي، فإنها مطالبة بالتفاعل مع التحولات السياسية والاجتماعية التي تعرفها البلاد، والقيام بدورها القيمي والسياسي في إعداد المتعلمين والمتعلمات لفهم واقعهم واستيعاب قضاياه، والمشاركة في تطويره عبر قنوات مدنية وسياسية مشروعة، كالجمعيات والأحزاب والمنظمات الشبابية. مما يتطلب تمكين التلاميذ والتلميذات من رصيد معرفي وقيمي ومهاري يؤهلهم للوعي بالحقوق والواجبات وتمثل أدوارهم في المساهمة الواعية في الشأن العام. غير أن التراجع الذي شهده قطاع التعليم خلال السنوات الأخيرة، بسبب ضعف المردودية الداخلية وتدني مستوى التحصيل الدراسي، جعل السياسات التربوية تنحو نحو الاهتمام بالمؤشرات الكمية، ولا سيما نسب النجاح، على حساب الوظيفة الجوهرية للمدرسة المتمثلة في التربية على المواطنة وتنمية الوعي السياسي والاجتماعي. فالمدرسة، في جوهرها، تمثل صورة مصغّرة للمجتمع، يتعلم فيها التلميذ قيم العمل، المبادرة، المسؤولية والمواطنة. كما يتعرف من خلالها على المؤسسات الدستورية، اختصاصات المجالس المنتخبة، دور الفاعل السياسي في تحقيق الأهداف التنموية... كما أن الضغوط الإدارية والبيداغوجية التي تعاني منها المؤسسات التعليمية، إضافة إلى إكراهات الواقع المأزوم، جعلت هذه المهمة تتراجع أمام هاجس الرفع من مؤشرات النجاح، فصار التعليم في كثير من الأحيان وسيلة للحصول على الشهادات بدل أن يكون أداة لبناء الفكر النقدي وتعزيز الانتماء الوطني وتشجيع المشاركة السياسية الواعية. كما انعكس هذا التحول أيضا على وعي وقناعات المتعلمين، حيث تراجعت الدينامية الثقافية والسياسية داخل المؤسسات التعليمية مقارنة بالأجيال السابقة، التي كانت تتخذ من المدارس فضاءات للحوار والنقاش المجتمعي والسياسي وتبادل الأفكار عبر الأنشطة الموازية وإحياء المناسبات الوطنية والدينية، التي كانت تغذي روح الانتماء والاعتزاز بالوطن والهوية الوطنية. أما اليوم، فقد أدت كثافة المقررات وضيق الزمن المدرسي وانشغال الأساتذة بتنفيذ البرامج الرسمية إلى تقليص فرص الأنشطة التربوية والثقافية والقيمية، لتتحول المدارس إلى فضاءات يغلب عليها الطابع التحصيلي البحت، في سباق محموم نحو تحسين النتائج الكمية بدل دعم قيم المواطنة والتحفيز على اتخاد مواقف إيجابية من المشاركة السياسية. وتُعد المناهج الدراسية من أهم الوسائل لترسيخ قيم المواطنة والمشاركة السياسية، خصوصًا من خلال مواد الاجتماعيات، الفلسفة والتربية الاسلامية، التي يُفترض أن تتخلل مضامينها مفاهيم: المواطنة، الوعي السياسي، الحقوقية والواجبات، الأدوار الدستورية للمؤسسات السياسية وآليات وحدود اشتغالها، الحكامة الجيدة، مبادئ التعاقد السياسي، المسؤولية الوطنية واحترام القانون. غير أن الطابع النظري الجاف الذي يميز تدريس هذه المواد، واعتمادها على الحفظ بدل التحليل، إلى جانب ضعف المستوى الدراسي للمتعلمين، يجعل أثرها محدودًا. كما أن تخوف بعض الأساتذة من تجاوز مبدأ الحياد التربوي يجعلهم يتفادون مناقشة القضايا الراهنة وربطها بالمنهاج الدراسي، ما يفقد هذه المواد صلتها بالواقع المجتمعي ويحد من قدرتها على بناء وعي سياسي مسؤول. وعلى مستوى الممارسة اليومية، تُعد المدرسة مجالًا حيويًا للتمرن على الفعل السياسي والممارسات الديمقراطية من خلال انتخاب ممثلي التلاميذ بالمجالس التلاميذية ومجالس المؤسسة والمشاركة في التدبير اليومي للمؤسسات التعليمية وتنشيط الأندية التربوية وتنظيم الندوات والنقاشات الثقافية. غير أن هذه الممارسات غالبًا ما تبقى شكلية بسبب غياب سلطة حقيقية للتلاميذ في اتخاذ القرار، إضافة إلى المشاكل البنيوية التي تعاني منها المؤسسات، كالعنف المدرسي، قلة الوسائل التعليمية، الاكتظاظ، هشاشة البنية الاجتماعية المحيطة بالمدارس، غياب دور الأسرة ومؤسسات المجتمع المدني في التربية والتنشئة الاجتماعية، كلها عوامل تحد من فعالية هذه التجارب التربوية. ويؤثر "المنهاج الخفي" بدوره في تشكيل المواقف والقيم السياسية لدى المتعلمين، إذ تساهم التجارب اليومية التي يعيشونها داخل المدرسة وخارجها: كالفقر، والهشاشة المجالية، والعنف الرمزي، والإقصاء المعرفي، وضعف الدعم التربوي، والمشاكل المدرسية التي تنشأ بين التلاميذ والأساتذة بسبب التوتر الناتج عن ضعف المستوى الدراسي وعدم احترام القانون الداخلي للقسم والمؤسسة، في توليد مشاعر الحقد والاغتراب واللامبالاة تجاه المؤسسات التعليمية، مما يؤدي في أحيان كثيرة إلى نشوء مواقف سلبية وعدوانية تجاه المجتمع والممتلكات العامة على اعتبار أن المدارس تمثل امتدادا للمؤسسات العمومية. ورغم المكانة المحورية التي تحتلها المدرسة، فإنها تواجه عدداً من التحديات البنيوية والبيداغوجية التي تعيق اضطلاعها بأدوارها التربوية والتكوينية. من أبرز هذه التحديات ضعف تكوين المدرسين في مجالات التربية على القيم وتنمية مهارات التواصل وتنشيط الأندية التربوية، إضافة إلى تقليص الزمن المخصص للأنشطة الثقافية والموازية، واستمرار هيمنة الطرائق التلقينية في التدريس التي تعجز عن الوصول للمتعلمين. ولكي تتمكن المدرسة من أداء أدوارها، يتعين العمل على تقليص الفوارق المجالية والاجتماعية بما يضمن للتلميذات والتلاميذ شروط العيش الكريم، ومراجعة المناهج والممارسات التربوية لتحقيق التوازن بين المعارف والقيم من جهة، وبين الواقع الاجتماعي والسياسي المحلي من جهة أخرى. كما يجب إحياء الحياة المدرسية والثقافية داخل المؤسسات التعليمية عبر تنشيط الأندية التربوية وتنظيم الأنشطة الحوارية التي تتيح فضاءات للتعبير الحر وتنمّي الحس النقدي وروح المواطنة المسؤولة. وفي السياق نفسه، يستحسن استثمار الوسائط الرقمية والتقنيات الحديثة لجذب الشباب وتحفيزهم على الانخراط في العمل السياسي، انطلاقًا من القناعة بأن كل فعل سياسي فعّال يقوم أساسًا على مشاركة الشباب، سواء في الإطارات الرسمية أو في المبادرات التطوعية ذات الطابع المجتمعي. إن المشاركة السياسية للشباب لا تقتصر على كونها مسألة وعي فردي بالحقوق، بل تمثل وعياً جماعياً بالمسؤولية تجاه إشراك هذه الفئة في تدبير الشأن السياسي. وفي هذا الإطار تضطلع المدرسة بدور أساسي في تنمية هذا الوعي، من خلال ترسيخ قيم المشاركة والمسؤولية والعدالة الاجتماعية، وإتاحة فضاءات للتعبير والحوار تمكن المتعلمين من الإحساس بقدرتهم على التأثير والمبادرة. كما تسهم في تهيئة الشباب للانخراط الواعي في تدبير الشأن الحزبي والعام، بما يجدد النخب السياسية ويعزز الارتباط الفعلي بقضايا المجتمع وتطلعاته. فالمدرسة التي تُعلّم الحق والواجب، الحرية والمسؤولية وتمنح فرصا للتعبير لتلاميذها، هي القادرة على بناء جيل جديد من المواطنين المؤمنين بالاختلاف والتعددية والقادرين على المشاركة في التنمية المجالية، والمساهمين في ترسيخ قيم الديمقراطية وبناء مجتمع متضامن ومبدع يصنع مستقبله المشترك. ويجب ألا تركز السياسات التعليمية على "تغيير سلوك الشباب"، بل على تغيير نظرة المجتمع إليهم وخلق مساحات ومبادرات حقيقية تتيح للشباب التعبير والمبادرة حتى يتمكن الجميع من فهم اهتماماتهم وتطلعاتهم.