في فيلمه الجديد "من أعلى إلى أسفل" بدا دنزل واشنطن كمن يكابر على عمره. أكبر مما رسخ في ذاكرتنا عن ذاك الفتى الأسمر. أخلاقي أيضًا عندما يفرّط بثروته من أجل إنقاذ ابن سائقه وصديقه المسلم. لكن أداءه بدا هذه المرة أحادي النغمة مقارنة بما اعتدناه منه. الفيلم الذي أخرجه سبايك لي وُصف بأنه عمل مثير للجدل ومخيّب أيضًا. آخرون رأوه محاولة جريئة لإعادة قراءة كلاسيكيات السينما اليابانية بعدسة أميركية. فالقصة مأخوذة من رواية "فدية الملك" لإد ماكبين. وقد سبق أن قدّمها أكيرا كوروساوا في فيلم شهير، إضافة إلى مسلسل تلفزيوني. لكن لماذا يعودون لتمثيلها اليوم؟ ربما لأن الاستقطاب الأخلاقي السام صار أكثر حدّة مما كان عليه بالأمس. واشنطن يؤدي دور ديفيد كينغ، قطب صناعة الموسيقى الذي يستهدفه مخطط خطف وابتزاز. يجد نفسه أمام معضلة بين إنقاذ حياته المهنية أو مواجهة الحقيقة. لكنه يفتقر أحيانًا إلى العمق النفسي الذي ميّز أعماله السابقة مع سبايك لي. القصة تنطلق من خطف ابن صديق كينغ، الرجل المسلم المتواضع. الخاطف يطلب فدية قدرها مليون ونصف المليون دولار. أما أن يدفع المبلغ للخاطف ويخسر علامته التجارية، أو ينقذ شركة التسجيلات الموسيقية ويدمر رابطة عائلية. هنا يقف البطل أمام السؤال: هل يفرّط بهذا المبلغ لإنقاذ طفل ليس ابنه؟ القرار يأتي سريعًا. يدفع الفدية. مشهد يضعه أمام ذاته قبل المجتمع. ما أثارني كمشاهد عربي هو الأغنية التي انتهى بها الفيلم وتحمل اسمه، بصوت المغنية سولا. نهاية في رمز أغنية. قوة صوت تعبيري. لكنها تكشف أيضًا الذائقة السمعية لصانع النجوم. بل أكثر: حساسيته العالية للأصوات، لدرجة أنه يكتشف الخاطف من صوته. سبايك لي كمحلل مخضرمٌ للأثرياء والفقراء، أراد إعادة قراءة كوروساوا من منظور أميركي، حيث تتحول قضية الخطف إلى مرآة لصناعة الموسيقى الحديثة وما فيها من فساد وابتزاز وصراع على السلطة. هنا تكمن قوة الفيلم: ربط أزمة فردية بسياق اجتماعي واسع. هكذا يضعنا دنزل واشنطن أمام سؤال أخلاقي صادم: هل يمكن لثري أن يفرّط بمليون ونصف المليون دولار لإنقاذ ابن صديقه المسلم؟ المشهد الذي يصلي فيه الأب في شقة صديقه المسيحي بعد سماع قرار دفع الفدية، يختصر دهشة الإنسان أمام موقف يتجاوز المال والدين. الموسيقى هنا ليست خلفية. بل قوة روحية تدفع البطل إلى التضحية. وفي المقابل، يكشف الخاطف الشاب، المتولّع بالراب منذ طفولته، الوجه الآخر للفن حين يتحول الحلم إلى جريمة. بين ثري يفيض بالإنسانية وخاطف غارق في الوهم، يرسم سبايك لي تناقض الإنسان الأبدي. المشهد الأكثر تأثيرًا هو صلاة والد الطفل في شقة صديقه الثري. ليس مجرد فعل ديني، بل امتنان ودهشة من موقف نادر: ثري مسيحي يضع إنسانيته فوق ثروته. هنا ينفتح سؤال آخر: هل الأثرياء قادرون فعلًا على هذا القدر من الحس الإنساني؟ أم أن الموسيقى، التي تحكم حياة البطل، هي التي تدفعه إلى الأخلاق؟ الفيلم يقدّم الموسيقى كلغة عاطفية لا كخلفية. لغة تهذّب الإنسان وتدفعه نحو الخير. لكنّه يقدّم الوجه الآخر أيضًا عبر شخصية الخاطف الشاب روكي. حلم الشهرة يتحول إلى وهم. الوهم يتحول إلى جريمة. هكذا تتجلى ثنائية الفن: قوة للخير والشر معًا. هذا التناقض هو قلب الفيلم. كيف يمكن للفن أن يرفع إنسانًا ويهوي بآخر؟ كيف يصبح الثراء وسيلة لإنقاذ حياة وأداة للهيمنة أيضًا؟ وكيف يظل الإنسان إنسانًا رغم المال والسلطة؟ فيلم "من أعلى إلى أسفل" يطرح الأسئلة من دون إجابات جاهزة. يترك المشاهد أمام صورتين: ثري يفرّط بمليون ونصف المليون لإنقاذ صبي، وشاب فقير يحوّل حلمه بالموسيقى إلى خطف. بينهما مرآة تكشف هشاشة الإنسان. أداء دنزل واشنطن هنا مختلف. ليس زعيمًا ولا مناضلًا. بل ثريًا يكتشف أن إنسانيته أثمن من ثروته. جيفري رايت يقدّم دور الأب المسلم بعمق، خصوصًا في مشهد الصلاة. أما روكي فيجسد المسافة بين الحلم والهاوية. "من أعلى إلى أسفل" ليس فيلمًا عن الخطف فقط. بل عن الإنسان في مواجهة ذاته. عن القوة التي تمنحها الموسيقى. وعن الأسئلة التي نطرحها نحن أيضًا: المال، الدين، الفن، والإنسانية.