مقدمة يعد نظام التقادم في المادة الضريبية أحد أهم المرتكزات التي تقوم عليها العلاقة بين الإدارة الجبائية والملزم، لما يتيحه من ضبط للزمن الجبائي وتحديد للمدى الزمني لممارسة كل من سلطة الفحص والتأسيس من جهة، وسلطة التحصيل من جهة أخرى. وتنبع أهمية هذا النظام من كونه يُترجم عملياً مبدأ الأمن القانوني، ويضمن استقرار المراكز الجبائية للملزمين، كما يعكس ضرورة عقلنة تدخل الإدارة ومنع امتداد المنازعات الجبائية والتحصيل إلى آجال غير منتهية. وبالنظر لازدواجية الإطار القانوني المنظم للتقادم بين المدونة العامة للضرائب ومدونة تحصيل الديون العمومية، فإن القراءة المتأنية لهذه النصوص تُبرز أن المشرع حاول التوفيق بين متطلبات فعالية الإدارة وحقوق الملزم. ومن هنا تنبثق الإشكالية المركزية الآتية: إلى أي حد استطاع المشرع المغربي من خلال نظام التقادم في المدونة العامة للضرائب ومدونة تحصيل الديون العمومية أن يحقق التوازن بين ضمانات الأمن الجبائي وفعالية إدارة التحصيل؟ يمثل هذا السؤال محور النقاش حول جدوى التقادم وطرق تطبيقه، وما يثيره من تأثيرات على الحكامة المالية والثقة بين الملزم والإدارة. المحور الأول: التقادم في التأسيس الجبائي بين ضمانات الأمن القانوني ومتطلبات المراقبة يشكل التقادم في مرحلة التأسيس الجبائي إحدى الضمانات الأساسية التي تنظم العلاقة بين الإدارة الجبائية والملزم، إذ يحدد الإطار الزمني الذي يسمح للإدارة بمراجعة التصريحات وإعادة تقدير الوعاء الجبائي. وقد اعتمدت المدونة العامة للضرائب مبدأ التقادم الرباعي كقاعدة عامة، بحيث لا يجوز للإدارة إعادة فحص الوضعية الجبائية إلا داخل أجل أربع سنوات تحتسب ابتداء من السنة الموالية للسنة التي أصبح فيها الدين مستحقاً. ويهدف هذا الأجل إلى تحقيق التوازن بين ضرورة تمكين الإدارة من ممارسة صلاحياتها الرقابية، وبين ضمان استقرار المراكز القانونية للملزمين حتى لا يبقوا عرضة للمراقبة إلى ما لا نهاية. ومع ذلك، أدرك المشرع أن بعض حالات الغش والتملص الجبائي تتجاوز في طبيعتها هذا الإطار الزمني، مما يستدعي تمديد فترة المراقبة. ولهذا تم التنصيص على إمكانية رفع مدة التقادم إلى عشر سنوات عندما يثبت غياب المحاسبة، أو تزويرها، أو إخفاء رقم المعاملات، وهي حالات تُعتبر ذات خطورة عالية على النظام الجبائي وعلى الموارد العمومية. غير أن هذا التمديد يظل استثناءً لا يُعمل به إلا وفق شروط دقيقة حتى لا يتحول إلى قاعدة تفرغ الحماية الممنوحة للملزم من مضمونها. ويترتب عن انتهاء مدد التقادم سقوط حق الإدارة نهائياً في مراجعة السنوات المشمولة به، بحيث يكتسب الملزم حماية قانونية ويستقر مركزه الجبائي. ويُعد هذا السقوط أحد تجليات الأمن الجبائي الذي أصبح اليوم مطلباً استراتيجياً لتحسين مناخ الاستثمار وضمان الشفافية واحترام مبدأ اليقين الضريبي. إن التقادم في التأسيس لا يضبط فقط السلطة الزمنية للإدارة، بل يشكل أيضاً رسالة قانونية واضحة للملزم بأن التزاماته الجبائية ليست مفتوحة زمنياً، مما يشجعه على الامتثال الطوعي ويعزز الثقة في النظام الجبائي. المحور الثاني: التقادم في تحصيل الديون العمومية بين فعالية الاستخلاص وحماية الملزم ينظم المشرع المغربي التقادم في مرحلة التحصيل من خلال مدونة تحصيل الديون العمومية، التي تشكل المرجع الأساسي لتحديد الآجال والمساطر المتعلقة باستخلاص الضرائب والرسوم. وتنص المادة 123 من هذه المدونة على أن الديون العمومية تتقادم بمرور أربع سنوات ابتداءً من تاريخ الشروع في التحصيل. ويهدف هذا الأجل إلى جعل الإدارة ملزمة بالتحرك داخل مدة زمنية معقولة، وعدم ترك الملزم عرضة لمطالبات جبائية قديمة تستنزف قدراته المالية وتضعف استمرارية نشاطه الاقتصادي. ويمتاز التقادم في مرحلة التحصيل بخاصية "القطع"، إذ إن أي إجراء من إجراءات التحصيل—مثل الإنذار بدون صائر، أو الحجز لدى الغير، أو الحجز التنفيذي على الممتلكات—يعيد فتح أجل جديد مدته أربع سنوات. ويمنح هذا النظام الإدارة مرونة كبيرة في متابعة الديون، لكنه في الوقت ذاته يُخضعها لواجب اليقظة، إذ إن أي تقاعس أو تراخٍ يؤدي إلى سقوط حقها في التحصيل بقوة القانون. وما يميز التقادم في التحصيل هو أنه يقوم على مقاربة مزدوجة: فهو من جهة يكرس مبدأ فعالية الإدارة وقدرتها على حماية المال العام عبر اتخاذ الإجراءات الضرورية في الوقت المناسب، ومن جهة أخرى يضمن حماية الملزم من الملاحقة المستمرة وغير المؤطرة زمنياً. فالمشرع لا يسمح بأن تبقى الديون العمومية مسلطة على الملزم إلى أجل غير محدد، لأن ذلك يتعارض مع مبادئ الأمن الجبائي والاستقرار الاقتصادي. وتتجلى القيمة القانونية لهذا النظام في كونه يعيد تنظيم التوازن الضروري بين الدولة والملزم؛ فالدولة، رغم حاجتها الملحة للموارد، تظل مقيدة بحدود زمنية واضحة، بينما يُمنح الملزم ضمانات تحميه من التعسف، وفي الوقت نفسه تشجعه على أداء التزاماته داخل الآجال. خاتمة يظهر تحليل نظام التقادم في المادة الضريبية، سواء في مرحلة التأسيس أو التحصيل، أنّ المشرع المغربي حاول بناء منظومة جبائية متوازنة تستجيب لمطلبين جوهريين: حماية حقوق الدولة في تعبئة الموارد العمومية من جهة، وتكريس الأمن الجبائي واستقرار المراكز القانونية للملزمين من جهة ثانية. وقد منح هذا النظام، من خلال المزج بين الآجال المضبوطة والإجراءات القاطعة للتقادم، إطاراً زمنياً واضحاً يحدّ من التعسف ويُرغم الإدارة على احترام قواعد النجاعة واليقظة في ممارساتها اليومية. إن التقادم الجبائي، بما يحمله من فلسفة قانونية وتنظيمية، لم يعد مجرد آلية إجرائية ذات طابع شكلي، بل تحوّل إلى مكوّن استراتيجي في الحكامة المالية، إذ يسهم في تعزيز الامتثال الطوعي، وتجويد عمل الإدارة، ورفع منسوب الثقة بين الدولة والفاعلين الاقتصاديين. كما يشكل عنصراً حاسماً في تحسين بيئة الاستثمار، لكونه يضمن للملزمين أن علاقتهم الجبائية محكومة بقواعد زمنية شفافة، لا تمتد إلى ما لا نهاية ولا تُفتح وفق تقديرات غير منضبطة. وبالرغم من أهمية المقتضيات القانونية المنظمة للتقادم، فإن تطويرها يظل رهيناً بتعزيز الرقمنة، وتحديث مساطر التبليغ والتحصيل، وتوحيد التأويلات الإدارية والقضائية، بما يضمن تطبيقاً منسجماً يعلي من قيمة الأمن الجبائي باعتباره ركيزة أساسية لدولة الحق والقانون. وهكذا يتبين أن التقادم الجبائي ليس فقط وسيلة لتنظيم الزمن الضريبي، بل هو أيضاً آلية لضمان العدالة الجبائية وتحقيق الفعالية المالية في خدمة التنمية الاقتصادية والاجتماعية. -أستاذ باحث بجامعة مولاي إسماعيل بمكناس