اخترنا في العنوان مصطلح "دماغ"، ولم نستعمل مصطلح "عقل"، لأن بعض الناس ينعتون الأذكياء وحتى الماكرين بعبارة : "هذا دماغ" وعند الفشل أو توجهيك لتنفيذ خطة سواء في الخير أو الشر .. أو عند حثك على فهم وإدراك الخبايا، يخاطبونك بعبارة " خدم دماغك"، وهنا يمكننا أن نتساءل عن الفرق بين "العقل" و"الدماغ" .. الدماغ هو عضو مادي داخل الجمجمة، يتحكم في حركاتنا وحواسنا ووظائف أجسامنا الحيوية. أما العقل، فهو ما ينشأ داخل هذا الدماغ من تفكير وإدراك ووعي. باختصار، الدماغ آلة، والعقل هو البرنامج الذي يشغّلها، ومن دون العقل يظل الدماغ مجرد كتلة من الخلايا العصبية، ومن دون الدماغ لا يمكن للعقل أن يعمل. من الأقوال المأثورة : "عدو عاقل غير من صديق جاهل"، وأيضا : "عدو بعقله خير من عدو أحمق". مقولةٌ تتردّد في المجالس الشعبية كنوع من الحكمة المتوارثة التي تبدو للوهلة الأولى بديهية ومطمئنة .. فالعقل – في المتخيل الجماعي – يمنح الإنسان القدرة على التمييز والتحقق من فرضيات التقدير بشكل منهجي، وضبط الانفعالات، والالتزام بحدود الخصومة. أما "العدو الأحمق" فيُنظر إليه كقنبلة عشوائية، لا يمكن التنبؤ بسلوكه ولا تفادي ضرره. لكن هذه القاعدة، رغم قوتها التداولية، بعيدةٌ عن حقيقة الحالة من منظور علم النفس المعرفي والسوسيولوجيا الحديثة. فالعقل داخل لحظة العداوة لا يشتغل بالضرورة كأداة للحكمة، بل يتحول إلى آلة انحياز، تُعيد تشكيل الواقع وفق رواية ذاتية مشحونة بالعاطفة، مهما بدا صاحبها "عاقلا". الأبحاث الحديثة في الإدراك تُظهر أن الإنسان عندما يعيش حالة "عداوة"، لا يفكر بالطريقة التي يتوقعها المجتمع منه. فالخصومة لا تُفعّل منطقة التحليل البارد فقط، بل تحرك معها نظاما دفاعيا يجعل الدماغ يميل إلى : تضييق زاوية النظر نحو ما يؤكد الإحساس بالخطر، و"تشييء" الخصم وتحويله إلى "تصوّر" وليس إلى إنسان، مع اختلاق تبريرات داخلية تعطي الذات الشرعية المطلقة، مع ما يوازي ذلك من قراءة لكل سلوك من الآخر بعيون سلبية مسبقا، انتهاء بتعطيل المسافة النقدية اللازمة للفهم والحوار .. بمعنى آخر، "العقل" في حالة العداوة لا يعمل بالمسطرة والقلم، بل باللاشعور والانفعال والذاكرة الانتقائية. وهنا تتهاوى المقولة الشعبية، لأن العدو الذكي ليس دائما أقل خطورة من العدو الأحمق، فقد يكون أخطر، لأنه يحسن تبرير أفعاله وتسويقها وتوجيهها. إذ يمكن القول إن ذكاء العداوة أخطر من عشوائيتها. المجتمعات المعاصرة تُظهر أن أخطر النزاعات ليست تلك التي يقودها أشخاص مندفعون بلا رؤية، بل تلك التي يقودها أفراد يملكون قدرة على التخطيط، والتحكم في الصورة، وصناعة الخطاب، وإخفاء نواياهم خلف منطق يبدو عقلانيا، فالخصومة عندما تتغذى على عقل "حسابي"، تتحول إلى مشروع طويل الأمد، لا تُعرف حدوده ولا سقفه ولا يمكن حساب نسبة الخطر وتقليصها. وكي لا نركن إلى النظري سوف نعطي مثالا تطبيقيا لكي تتوضح الفكرة : تخيّلوا مجتمعا صغيرا حيث نشبت خلافات بين مجموعتين على موارد محدودة. العدو الأحمق من البديهي أنه سيتصرف بانفعال، سيصرخ، ويهاجم، وربما يلوّح بالعنف بدون خطة واضحة، لكن نتائجه سوف تكون محدودة، وأخطاؤه ستبدو مكشوفة للجميع، مما سيسمح للجماعة الأخرى بالاستجابة بسرعة وتقليل الخسائر .. بمعنى آخر، مخاطر العدو الأحمق عابرة ويمكن ضبطها. أما بالنسبة للعدو العاقل، فمن البديهي أيضا أنه سيخطط بهدوء وفق منهج مضبوط، ليحسب خطواته، وقد يوظف الإعلام والشائعات لتوجيه الرأي، ويخفي نواياه وراء مبررات "عقلانية"، ويصنع شبكة من التحالفات، ما سيجعل خصومه لا يعرفون متى أو كيف سيضرب، إذ لا يمكن التنبؤ بأثر تحركاته. هنا تتحول الخصومة إلى مشروع طويل الأمد، تتراكم فيه المخاطر بصمت، ويصعب تقدير سقف الضرر أو التحكم فيه. الدرس الذي يمكن استخلاصه من هذا المثال هو أن العدو الأحمق يفضحه تصرفه المندفع، أما العدو العاقل فيخفي المخاطر تحت قناع العقل والمنطق، مما يجعله أخطر بكثير من مجرد صراع عابر. وهنا يكمن الخلل في المقولة الشعبية، لأن العدو العاقل قد يتقن بناء سردية عدائية، بينما العدو الأحمق قد ينكشف في أول خطوة. من زاوية علم الاجتماع، السبب في استمرار المقولة يعود إلى حاجة المجتمع إلى تبسيط الواقع. فالجماعات البشرية تميل إلى إنتاج حُكم جاهز (جمع أحكام جاهزة)، يساعدها على التصنيف السريع : "هذا عدو يمكن التفاوض معه، وهذا عدو لا يمكن التفاوض معه". لكن التصنيف المتسرع قد يضلّلنا، لأن العقل لا يضمن النيات، بل قد يُنمّي قدرة صاحبه على إخفائها. في زمن المنصات الرقمية، تتضاعف المشكلة، فالخصومة الإلكترونية لا تعمل بالمنطق التقليدي. العداوة هنا تُحركها الصورة، والفرجة، والإيقاع السريع، و"توقع النيات" بدل التأكد منها. لهذا أصبح "العقل" داخل الصراعات الرقمية أداة لإنتاج استراتيجية، وليس أداة لاحتواء التوتر، والخلاصة هي أن "الحكمة الشعبية بحاجة إلى تحديث". القيم الجماعية لا تُنتقد لأنها خاطئة، بل لأنها قد تولد في زمن كانت فيه الخصومات بسيطة، محصورة بين أفراد أو قبائل، حيث العدو "العاقل" فعلا كان أكثر قابلية للتفاوض بسبب ضعف وقلة ومحدودية وسائل الدفاع والهجوم في الماضي. أما اليوم، فنحن أمام أشكال جديدة من العداوة، عداوة إعلامية، و رقمية، و رمزية، و اقتصادية ... كلها تستخدم العقل لتوجيه الرأي العام وليس لتهدئة النزاع. لهذا فإن مقولة "عدو بعقله خير من عدو أحمق"، تصبح غير دقيقة دون فهم السياق. فقد يكون العدو العاقل أبرع في الإيذاء الهادئ، بينما العدو الأحمق أكثر انكشافا. في الختام .. لا توجد أفضلية مطلقة بين "عدو عاقل" و"عدو أحمق". الحقيقة العلمية تقول إن العقل داخل العداوة ليس ضمانا للأمان، وإنما آلية لتبرير السلوك وفق منطق الانحياز. وإذا كانت الحكمة الشعبية تقدّم نصائح إجمالية، فإن زمن التعقيد الذي نعيشه يفرض علينا إعادة صياغة مقولاتنا، كي نرى الخصومة لا بعين العاطفة، ولا بعين التقاليد، بل بعين المعرفة والعلم.