أخنوش: تماسك الحكومة وجديتها مكننا من تنزيل الأوراش الاجتماعية الكبرى وبلوغ حصيلة مشرفة    طنجة تحتضن ندوة حول إزالة الكربون من التدفقات اللوجستية بين المغرب و أوروبا    هل دقت طبول الحرب الشاملة بين الجزائر والمغرب؟    تسليط الضوء بالدار البيضاء على مكانة الأطفال المتخلى عنهم والأيتام    نهضة بركان تطرح تذاكر "كأس الكاف"    البيرو..مشاركة مغربية في "معرض السفارات" بليما لإبراز الإشعاع الثقافي للمملكة    مؤتمر دولي بفاس يوصي بتشجيع الأبحاث المتعلقة بترجمة اللغات المحلية    أخنوش: لا وجود لإلغاء صندوق المقاصة .. والحكومة تنفذ عملية إصلاح تدريجية    الخريطة على القميص تثير سعار الجزائر من جديد    بطولة انجلترا لكرة القدم.. مانشستر سيتي يفوز على مضيفه برايتون برباعية    أخنوش يربط الزيادة في ثمن "البوطا" ب"نجاح نظام الدعم المباشر"    أخنوش: نشتغل على 4 ملفات كبرى ونعمل على تحسين دخل المواطنين بالقطاعين العام والخاص    المغرب يستنكر بشدة اقتحام متطرفين المسجد الأقصى    رئيس الحكومة يجري مباحثات مع وزير الاقتصاد والمالية والسيادة الصناعية والرقمية الفرنسي    3 سنوات سجنا لشقيق مسؤول بتنغير في قضية استغلال النفوذ للحصول على صفقات    الأمير مولاي رشيد يترأس مأدبة ملكية على شرف المشاركين بمعرض الفلاحة    نمو حركة النقل الجوي بمطار طنجة الدولي خلال بداية سنة 2024    ''اتصالات المغرب''.. النتيجة الصافية المعدلة لحصة المجموعة وصلات 1,52 مليار درهم فالفصل اللول من 2024    الاتحاد الجزائري يرفض اللعب في المغرب في حالة ارتداء نهضة بركان لقميصه الأصلي    الدفاع المدني في غزة يكشف تفاصيل "مرعبة" عن المقابر الجماعية    التحريض على الفسق يجر إعلامية مشهورة للسجن    مهنيو الإنتاج السمعي البصري يتهيؤون "بالكاد" لاستخدام الذكاء الاصطناعي    بعد فضائح فساد.. الحكومة الإسبانية تضع اتحاد الكرة "تحت الوصاية"    السلطات تمنح 2905 ترخيصا لزراعة القنب الهندي منذ مطلع هذا العام    بلاغ القيادة العامة للقوات المسلحة الملكية    زنا المحارم... "طفلة" حامل بعد اغتصاب من طرف أبيها وخالها ضواحي الفنيدق    بشكل رسمي.. تشافي يواصل قيادة برشلونة    البطولة الوطنية (الدورة ال27)..الجيش الملكي من أجل توسيع الفارق في الصدارة ونقاط ثمينة في صراع البقاء    الأمثال العامية بتطوان... (582)    منصة "واتساب" تختبر خاصية لنقل الملفات دون الحاجة إلى اتصال بالإنترنت    تشجيعا لجهودهم.. تتويج منتجي أفضل المنتوجات المجالية بمعرض الفلاحة بمكناس    نظام الضمان الاجتماعي.. راتب الشيخوخة للمؤمن لهم اللي عندهومًهاد الشروط    حاول الهجرة إلى إسبانيا.. أمواج البحر تلفظ جثة جديدة    اتساع التظاهرات المؤيدة للفلسطينيين إلى جامعات أمريكية جديدة    الحكومة تراجع نسب احتساب رواتب الشيخوخة للمتقاعدين    3 مقترحات أمام المغرب بخصوص موعد كأس إفريقيا 2025    "مروكية حارة " بالقاعات السينمائية المغربية    عودة أمطار الخير إلى سماء المملكة ابتداء من يوم غد    في اليوم العالمي للملاريا، خبراء يحذرون من زيادة انتشار المرض بسبب التغير المناخي    خبراء ومختصون يكشفون تفاصيل استراتيجية مواجهة المغرب للحصبة ولمنع ظهور أمراض أخرى    وفينكم يا الاسلاميين اللي طلعتو شعارات سياسية فالشارع وحرضتو المغاربة باش تحرجو الملكية بسباب التطبيع.. هاهي حماس بدات تعترف بالهزيمة وتنازلت على مبادئها: مستعدين نحطو السلاح بشرط تقبل اسرائيل بحل الدولتين    وكالة : "القط الأنمر" من الأصناف المهددة بالانقراض    "فدرالية اليسار" تنتقد "الإرهاب الفكري" المصاحب لنقاش تعديل مدونة الأسرة    منصة "تيك توك" تعلق ميزة المكافآت في تطبيقها الجديد    العلاقة ستظل "استراتيجية ومستقرة" مع المغرب بغض النظر عما تقرره محكمة العدل الأوروبية بشأن اتفاقية الصيد البحري    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية مقابل الدرهم    هذا الكتاب أنقذني من الموت!    جراحون أميركيون يزرعون للمرة الثانية كلية خنزير لمريض حي    حفل تقديم وتوقيع المجموعة القصصية "لا شيء يعجبني…" للقاصة فاطمة الزهراء المرابط بالقنيطرة    مهرجان فاس للثقافة الصوفية.. الفنان الفرنساوي باسكال سافر بالجمهور فرحلة روحية    أكاديمية المملكة تعمق البحث في تاريخ حضارة اليمن والتقاطعات مع المغرب    ماركس: قلق المعرفة يغذي الآداب المقارنة .. و"الانتظارات الإيديولوجية" خطرة    قميصُ بركان    لأول مرة في التاريخ سيرى ساكنة الناظور ومليلية هذا الحدث أوضح من العالم    دراسة: تناول الأسبرين بشكل يومي يحد من خطر الإصابة بسرطان القولون    دراسة تبيّن وجود صلة بين بعض المستحلبات وخطر الإصابة بمرض السكري    في شأن الجدل القائم حول مدونة الأسرة بالمغرب: الجزء الأول    "نسب الطفل بين أسباب التخلي وهشاشة التبني"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هانئٌ في بَسْط لَغْواه: نقد "الإديولوجيا" تحت وطأة الغَواية الإديولوجية! - تتمة
نشر في هسبريس يوم 05 - 03 - 2010

-14يَدَّعي "هاني" أن اقتراح "العروي" لمصطلح "أدلوجة" يُعدُّ وجيها (لكن "هاني" لا يقول هذا حرصا على طلب الصواب، وإنما لغرض في نفسه، وإلا لكان أخذ به وعززه في كتاباته!)، في حين أن اقتراح مصطلح "الفِكْرانية" من قِبَل "طه عبد الرحمن" يقوم، في نظر "هاني"، على استسهال كبير لمشكلة المفاهيم والمصطلحات، مما يجعله يصف مذهب "طه" في الترجمة (وبالضبط في ترجمته ل"إديولوجيا") بأنه "أيديولوجي بامتياز". لكننا نحتاج، أولا، إلى معرفة اقتراح "طه" كما هو مسطر في كتابه، وهو ما لم يفعله "هاني" ولا يكاد يفعله حتى لا يُلزم نفسه بشيء، ولكي يُطلق العنان لهواه فيتقوّل كما يشتهي! يقول "طه عبد الرحمن" بعد المقطع الآنف الذكر (الفقرة السابعة أعلاه): «لذا آثرنا اشتقاق المصدر الصناعي: "الفِكْرانية"، بالقياس على صيغة "العَقْلانية"، تجنُّبا للأخذ بهذا المعنى القَدْحي المحتمل [يقصد "الإدلاج" المرتبط ب"أدلوجة" العروي]، واعتقادا بأن الباعث على استعمال هذا الاشتقاق هو واحد في المصطلحين: "العقلانية" و"الفكرانية"، فضلا عن أن اشتراكهما في هذه الصيغة يُفيد في المقارنة بينهما.» ("تجديد المنهج في تقويم التراث"، ط2، ص. 25، هامش1). هكذا نرى أن وضع مصطلح "فِكْرانية" أتى لتجنُّب المعنى القدحي المحتمل في مصطلح "أُدلوجة" عند "العروي"، وبالقياس على مصطلح "عقلانية"، ومن أجل التمكين من المقارنة بين المصطلحين من حيث اشتراكهما في الصيغة واختلافهما في المعنى. تُرى ما الذي يجعل هذا الاختيار "إديولوجيا" بامتياز؟ يقول "هاني": «يتضح ذلك من خلال الدفع بالخلاف مع المقترح العروي السابق في الزمان وفي الاشتغال، مخالفة من دون مُرجِّح، سوى الاستناد إلى التشقيق اللغوي، دون استحضار الحُمولة المفهومية والإشكالية للعبارة [؛] في حين تبقى الصيغة العروية حافظة للمضمون الإشكالي للمفهوم مع تَقيُّد مبدع في مراعاة الوزن العربي [،] وهو الاختيار المبني على وعي تاريخي وفلسفي واستيعاب للنقد الأيديولوجي.». فهل اختيار لفظ "فِكرانية" جاء لمجرد المخالفة أم لسبب دعا إليه كما بَيَّن صاحبه؟ وهل هو اختيار بدون مرجح؟ ألا يُعدُّ إمكان حَمْل لفظ "أدلوجة" على معنى قدحي مُرجِّحا كافيا؟ ألم يتم صبّ اللفظ المقترح في قالب صيغة عربية كما صُبَّ لفظ "العروي"؟ ثم، ألا يمتاز لفظ "فِكْرانية" بحفظ المعنى الأصلي في اللفظ الأجنبي ("فكر" في مقابل « idéo ») وبالدلالة على المبالغة في تقدير أهمية "الفكر" كما تُؤديه لاحقة "انية"؟ ألا يتقابل لفظ "فكرانية" مع لفظ "عقلانية" بشكل يُيسِّر المقارنة بينهما؟ يبدو أن هذا كله غاب عن الإدراك الناقد لدى "هاني"، كما غاب عنه أن لفظ "أدلوجة" يحمل معنى "الدُّلْجة" و"الإدلاج" ("السير من أول الليل" وما يرتبط به من "سواد" و، من ثم، من "عدم الوضوح") عند المتلقي العربي الذي يُفترض فيه أنه لا يعرف المقابل الأجنبي للفظ "فكرة" (« idée/idea »). نعم، لقد غاب عنه إلى حد أنه لمّا أدركه لم يجد سوى التمحُّل لدفعه بقوله إن «[محاولة اعتبار "دلج" في العربية تحمل معنى قدحيا يُعدُّ نزاعا بلا موضوع]». كيف يَصحّ ذلك في ميزان النقد؟ هل التباس لفظ "أدلوجة" بالمعنى الذي يسبق إلى ذهن المتلقي يجعل الاعتراض عليه نزاعا بلا موضوع؟ هل تَصِلُ المُنافحة عن مصطلح ملتبس، حتى بصورته الأعجمية، إلى حد طمس المعاني الأصلية في اللغة الناقلة؟ وقول "هاني" بعدُ «[إن "العروي" لم ينخرط في هذا الجدل اللغوي العقيم لأنه لا يقف موقفا قدحيا من الأيديولوجيا ولكنه يقف موقفا من غوايتها.]» يجعله يُدافع عن "العروي" كأنه هو المقصود بوضع المصطلح وليس المتلقي العربي العادي. أما موقف "العروي" من مفهوم "الإديولوجيا"، فبثّه عبر سطور كتابه، حيث إنه كان حَذِرا منذ المقدمة حيث قال: «عسى أن نستعمل في المستقبل مفهوم الإيديولوجيا في الحدود اللائقة به، إن لم نستغن عنه بالمرة.» [ص.6]. ثم هل رفض "الإديولوجيا" بما هي "غَواية" يمر دون وجود الاستعمال القدحي لها وتحقق إدراكه من قِبَل المستعمل؟ وإجمالا، بماذا يَفْضُل لفظ "أدلوجة" نظيره "فِكْرانية"؟ الأول تعريب، والثاني اشتقاق (والاشتقاق أولى من التعريب) ؛ الأول يحمل معنى غير موجود في الأصل الأجنبي ("السير في الظلام")، والثاني يحمل صراحة هذا المعنى الأصلي ("الفكر" و"أهميته" كموضوع للنظر أو كعامل أساسي في الفعل). فكيف تأتَّى للناقد النِّحْرير "إدريس هاني" أن يكتشف أن اختيار "فِكْرانية" ليس سوى تشقيق لغوي لا يستحضر الحُمولة المفهومية والإشكالية للمصطلح الأجنبي، في حين أن اختيار "أدلوجة" يَحفَظ المضمون الإشكالي للمفهوم ويُقدِّم صيغة مبدعة بمراعاة الوزن العربي ويُعبِّر عن وعي تاريخي وفلسفي وعن استيعاب للنقد الإديولوجي؟ من أين جاء بهذا كله؟ هل استخرجه من مجرد النظر في اللفظ أم أنه استنبطه بالتشهي من نفسه التي تأبى إلا أن تُسوِّل له أن "أُدلوجة" إبداع بامتياز، في حين أن "فكرانية" ليست سوى تغطية لهذا الإنجاز؟
-15يقول "هاني" إن ترجمة "إديولوجيا" بلفظ "الفِكْرانية" يُؤدي إلى "اشتراك لفظي" يَحْرِم اللغة العربية من جملة "مصطلحات/مفاهيم" مشتقة من كلمة "إيديا" (« idea ») بمعنى "فكرة" من مثل: (« idéalisme », « idéalité », « idéation », « idéalisation », etc.). وهو يُلقي بهذه الألفاظ ولا يُبيِّن كيف يمنع الاصطلاحُ على "فكرانية" من نقل المصطلحات الأخرى. وبخلاف ما يدعيه، فإننا نجد أن ترجمة "إديولوجيا" بلفظ "فكرانية" هي التي تُعطي إمكان ترجمة المصطلحات الأخرى بشكل مناسب. فلفظ "مِثالية" يُترجم (« idéalisme ») بمعنى المذهب الذي يقول بأن "الفكر" ك"مثال" ("صورة عقلية مُثلى") له الأسبقية في الوجود على "الواقع" (المادي والحسي)، بل إن "المثالية" و"الفِكْرانية" تجمعهما المبالغة في تقدير قيمة "الفكر"، إلى حد أن قاموس "أكسفورد" لعام 2009 يجعل لفظ « idealism » في معناه الأول (اعتبار "الفكر" موضوعا للإدراك الخارجي أو أنه يوجد وجودا حقيقيا في ذاته) مُساويا لمعنى لفظ « ideology » (المعنى الثالث). ومن "المثالية" يُؤخذ "الطابع المثالي" أو "الأَمْثَلِيّة" في مقابل (« idéalité »)، ومنه أيضا يُؤخذ معنى "التجريد المثالي" ك"صوْغ أو تخريج مثالي للشيء" في مقابل (« idéalisation ») الذي يستعمل له بعضهم لفظ "أَمْثَلَة" ظانا أنه يُمكن اشتقاقه من فعل "أَمثلَهُ" غير الموجود أصلا! أما "التفكير" (بما هو "تكوينٌ وترتيبٌ للفِكَر")، فهو مقابل لفظ (« idéation »). تُرى هل مصطلح "فكرانية" يعوق ترجمة أو نقل هذه المصطلحات إلا لدى من يَتعبَّد الألفاظ الأجنبية برنينها وبريقها الأعجميين؟
-16يقول "هاني" «[تبدو ترجمة "طه" في اختياره "فكرانية"، رغم تمسكه بالاستناد إلى الأصل العربي، مجرد تناول حرفي للمفهوم، فهي تترنح بين التساهل والتشديد، بحسب موقف انتقائي تتحكم فيه حالات المترجم، ومدى استيعابه للإشكالية المعرفية للمفاهيم. فأما منحى التساهل، فمثاله فرض مصطلح "فكرانية" ترجمة ل"الإديولوجيا" ؛ وأما منحى التشديد والتعقيد الذي يصل أحيانا إلى درجة الإعجاز والتعجيز، فمثاله ترجمة جملة "الكوجيتو" الديكارتي بخلاف ما تم تداوله.]». تُرى، هل اختيار "فِكْرانية" أشد حرفية وتساهلا من اختيار "أُدلوجة"؟ أليس "التعريب" أشد حرفية وتساهلا من التأصيل الاشتقاقي؟ ثم بأي سلطة تَمتَّع "طه" لفرض "فِكْرانية" وافتقدها "العروي" فلم يفرض "أدلوجة"؟ إذا لم يكن في قول "هاني" هذا من "اللغوى" ما لا قِبَل به لامرئ متعقل، فليست هناك "لغوى" في العالم كله! وأما ترجمة "الكوجيطو" على نحو بالغ التشديد والتعقيد يكاد يصل، حسب زعمه، إلى الإعجاز والتعجيز (اُنظر كيف أن لحن القول يكشف سر المعارضة!)، فهذه مسألة أخرى يأتي تناولها في الفقرات التالية.
-17عَمِل "طه عبد الرحمن" في كتابه "فقه الفلسفة: 1-الفلسفة والترجمة" (1995) على تناول علاقة الفلسفة بالترجمة، فاستشكل الصلة بينهما في الباب الأول (بفصليه) ورفع التناقض بينهما في الباب الثاني (بفصوله الأربعة) وقدّم نموذجا نظريا لترجمة النص الفلسفي إلى العربية في الباب الثالث (بفصوله الثلاثة)، وانتهى إلى إعطاء نموذج تطبيقي للترجمة العربية في الباب الرابع (بفصوله الثلاثة). وإذا كانت الأبواب الثلاثة الأولى من الكتاب تستغرق أربعة أخماسه (نحو 400 صفحة)، فإن ما يتبقى من الكتاب (الباب الرابع) يشغل نحو مئة صفحة (من ص. 407 إلى ص. 506). لكن النُّقاد (ومن بينهم "إدريس هاني") يُسقطون الكتاب بكامله (وهو كله بناء استشكالي-استدلالي) ولا يقفون إلا عند عبارة واحدة من لفظين ("اُنْظُر، تَجِدْ)، فيفصلونها عن كل ما سبقها واقتضاها (لم تَرِد العبارة إلا في ص. 491، أي في نهاية الكتاب!). وللمرء أن يتساءل بعد هذا: أي تعسُّف هذا الذي يقع فيه أدعياء النقد بين ظَهْرانَيْنا؟
-18من المعلوم أن الفيلسوف الفرنسي "ديكارت" اشتهر بعبارته « je pense, donc je suis » بقدر ما اشتهر بأنه "أبو الفلسفة الحديثة". لكن هذه العبارة أُسيء فهمها، كما أُسيء نقلها خصوصا من قبل مستعملي العربية الذين وقعوا في جملة من الأخطاء التعبيرية والتأويلية لا تكاد تُحصى (يستطيع القارئ أن يلمس أهمها في الباب الرابع من كتاب "الفلسفة والترجمة"). وعموما، فإن الثابت أن تلك العبارة صِيغَت أصلا في اللاتينية كلغة راقية وعالِمة (« cogito, ergo sum ») قبل أن ينقلها صاحبها إلى الفرنسية كلغة عامية (« je pense, donc je suis »). ومُراد "ديكارت" كله هو أن عبارة "الكوجيطو" (أُخذ الاسم من اللفظ اللاتيني « cogito »، أي "أُفكِّر") تدل على بداهةٍ واضحة ومتميزة في النفس، تُدرَك مباشرة ولا تحتاج إلى استدلال أو برهان، مما يجعلها أساس اليقين الذي يجب الانطلاق منه لبناء منهج يَكفُل البحث عن الحقيقة في العلوم والفلسفة. ذلك بأن التسليم بوجود "الشك" (التردد بين حكم الإثبات والنفي) يقود إلى ضرورة تَعيُّنه في محل (داخلي)، وتعيين هذا المحل بمنزلة تحديد شيء موجود على نحو حقيقي ويقيني، فمن يقول "أشك" كمن يقول "أفكر" أو أن يُقال: "هناك شك"، فهو نفسه أن يُقال: "هناك فكر". لكن "الشك" أو "الفكر" لا بد له من محل يُوجد فيه (لا يمكن أن يكون "الشك" أو "الفكر" في فراغ محض أو في لا شيء). إذن، "أنا محل الشك والفكر"، أي "أنا شيء مفكر"، وعليه ف"أُفكِّر" يَصحبها دائما معنى "أنا موجود". وإدراك هذا المعنى ينبثق مباشرةً في النفس على صورة "حدس" أو "استبصار" يَتَّسم بالوضوح واليقين. ولهذا، يرى ديكارت أن "الكوجيطو"، بما هو يقين، يُمثِّل أُسّ البحث عن الحقيقة. ونرى من خلال هذا أن "الذات" ك"أنا مفكر" (أو ك"جوهر مفكر" أو ك"شيء قِوامُه الفكر") هي مطلب "ديكارت" الذي "يجده" في الجزء الثاني من عبارته "أنا موجود" (« je suis » = «je suis une chose pensante » = «j'existe »)، وليس في الجزء الأول كما يُنقَل في العربية "[أنا] أفكر". فكأن عبارة "ديكارت" تقول بإيجاز: "إن كان ثمة فكر، فإن هناك شيئا يُفِكِّر"!
-19يُورد "هاني" صيغة "أنا أفكر إذن أنا موجود" ويَنسُبها إلى "محمود الخضيري". لكن الصواب هو أن صيغة "الخضيري" جاءت بالصورة التالية: "أنا أفكر إذن فأنا موجود" (أسقط "هاني" فاء الشرط قبل "أنا" الثانية). وهذه الصيغة تُمثِّل "الترجمة التحصيلية" في نموذج "طه"، وهي التي اشتغل بنقدها في الفصل الأول من الباب الرابع في نحو 26 صفحة (بين ص.410 وص. 436)، ثم هناك "الترجمة التوصيلية" التي تُمثِّلها صيغة "نجيب بلدي" ("أفكر، إذن أنا موجود") والتي اشتغل "طه" بنقدها في الفصل الثاني من الباب نفسه في نحو 28 صفحة (بين ص. 437 وص. 465)، وأخيرا "الترجمة التأصيلية" التي تُمثِّل اجتهاد "طه" ("اُنْظُر، تَجِدْ") والتي بناها واستدل عليها واختبر قيمتها وقوتها الفلسفية في الفصل الثالث من ذلك الباب الواقع في نحو 40 صفحة (بين ص. 467 وص. 506). وهكذا يستطيع القارئ أن يتبيّن أن عبارة "اُنظر، تجد" لم تأت بشكل عفوي أو عشوائي، وإنما بُنِيَت بعد بحث وتأمل واستدلال. وللقارئ أن يتعجب، أيّما تعجب، كيف أن النقاد (وعلى رأسهم "هاني") يَمُرُّون بسلام على كل ذلك ويأخذون في إرسال الكلام عواهنَ تَتْرى بعيدا عن فحص الأدلة المفصلة لصاحب تلك العبارة للتمكُّن، من ثم، من إبطالها إن استطاعوا. وهكذا، إذا لم يكن نقدُ هؤلاء نقدا مجانيا وعبثيا، وبالتالي إديولوجيا، فماذا يكون بالضبط؟!
-20يقول "هاني" إن عبارة "اُنظر، تجد" تُخالِف ما يَدّعيه صاحبها. بأي معنى تُخالِف مُدَّعى "طه"؟ إن "هاني" يُحيل إلى مناقشة أخرى من دون تعيين موضعها ولا بيان الكيفية التي ناقض فيها "طه" نفسَه وهو يأتي بتلك العبارة. أليس هذا هو اللغو بعينه؟! ثم يقول "هاني" لو سلَّمنا ب"التقريب التداولي" وسلكنا "الترجمة المعكوسة"، فسنجد أن أول معنى يتبادر إلى الذهن من تلك العبارة هو قول الفرنسي: « qui cherche trouve » التي تعني: "من بحث، وجد". لكن "هاني" بهذا القول يقع في أشنع خطإ، بحيث لا يمكن أن يقع فيه إلا من لم يفهم لا "التقريب التداولي" ولا "الترجمة التأصيلية". فعبارة "اُنظر، تجد" ترجمة تأصيلية تقتضيها حاجة المتلقي العربي حسب أصول مجاله التداولي الخاص. فهل حاجة المتلقي الفرنسي هي نفسها حاجة العربي؟ وهل مقتضيات التداول بالمجال الفرنسي هي التي أدّت "هاني" إلى قوله بأن عبارة "طه" إذا نُقلت إلى الفرنسية فستكون هي تلك العبارة المذكورة آنفا؟ ومع ذلك، فإن المرء قد يُسلِّم ل"هاني" ما ذهب إليه. فَهَبْ أن "اُنظر، تجد" هي نفسها العبارة الفرنسية المذكورة، أليس جريانها على ألسن الفرنسيين كمَثَل سائر يُعطيها قيمة تداولية تُعادل بها العبارة العربية "من جَدَّ، وَجَد" و، من ثم، عبارة "اُنظر، تجد"؟! أليس هذا دليلا آخر ينهض لإثبات صواب "الترجمة التأصيلية"؟! ألَا يعلم "هاني" أن أصل العبارة الفرنسية آية في إنجيل "لوقا" تقول: «إنْ تَبحثْ، تَجِدْ ؛ وإنْ تَطرُق، يُفتح لك.» (« Cherchez et vous trouverez, frappez, et l'on vous ouvrira », Luc : 11.9)؟ وكيف يغيب عن "هاني" أن عبارة "الكوجيطو" نفسها لها صلة بعبارة القديس أوغسطين: "أُخطئ، إذن أنا موجود" ("إن كانت ثمة خطيئة، فإن هناك من يُخطئ")؟ أَوَلَا يعلم "هاني" أن "كوجيطو" ديكارت في بنيته العميقة ليس سوى فحوى كل تلك العبارات، بما فيها عبارة "طه"؟! ألم يكن "ديكارت" ["يبحث"] عن "قطعة من اليابسة" صُلبة يضع عليها قدميه ليبدأ في "البحث عن الحقيقة"، فإذا به ["يجدها"] في عبارة "أفكر، إذن أنا موجود"؟! وبذلك فهي عبارة تقبل الرد إلى: "إن تكن مُتحيِّرا وشاكًّا وأنت تبحث عن الحقيقة، فلن تجد سوى نفسك"، أي "إنْ تبحثْ [عن الحقيقة]، تجدْها [في نفسك]"، بمعنى "إنْ تنظرْ، تجد"="اُنظرْ، تجدْ"؟ أَلَا إِنّ استسهال النقد لا يكون إلا ممن صار يعتقد في نفسه أنه دوما على الحق فلا يمكنه أن ينطق أبدا عن الهوى!
-21يقول "هاني" لو كانت صيغة "انظر، تجد" تداولية، لحضرت في الوجدان والخاطر بشكل عفوي. فهل صيغة "ديكارت" نفسها، رغم إصرار صاحبها على كونها حَدْسا، تحضر في نفس المرء بشكل تلقائي؟ ألم يعلم "هاني" بأن شرطه هذا قد تحقق في بيت شعر لابن عجيبة يقول فيه: "يا تائِهًا في مَهْمَهٍ عن سِرِّه/[انظر تجدْ] فيك الوجود بأسره" [14]؟! فهل يُذعِنْ "هاني" لهذا التصديق القادم من قرون قد خلت أم تُراه يُكابر فيختلق شرطا آخر لِقَبول ما أدت إليه ترجمة "الكوجيطو" ترجمة تأصيلية؟ وكيف يُمكنه أن يُذعن للصواب الدامغ وهو الذي اطلَّع بلا شك على نقد "طه" لكل من "علي حرب" و"محمد سبيلا" في مطلع الجزء الثاني من "فقه الفلسفة" حيث بَيَّن سُخْف اعتراضاتهم التي ليست اعتراضات "هاني" إلا صدى بعيدا لها، ومع ذلك يواصل اجترار ما لا يستقيم إلا أن تُقلَب كل الموازين؟!
-22يقول "هاني" «إن مواد التفكير ومقدمات التفلسف ومفاهيمه أمر عقلي محض مهما تلبَّست بمحمولات المجال التداولي الذي انبثقت وتكاملت داخله.». تُرى، هل هناك أمر عقلي واحد يمكن أن يُعدَّ محضا وخالصا من أي تلبُّس بشوائب ما ليس عقليا؟ وهل لا يزال ممكنا تأسيس "العقل" نفسه ك"أفكار" و"مبادئ" و"مفاهيم" خارج ما هو تداولي؟ إن "هاني" يُلقي ما يُلقي ولا يكاد يعني ما يقول، فيأتي أشياء هي محض "لغوى"!
-23يقول "هاني" إن «[الإبداع أمر جَعْلِيّ بسيط وليس مركبا. وأن المُنتَج بالجَعْل البسيط أشرف من المُنتَج بالجَعْل المركب. وهذا هو المبدأ الأول للمعرفة.]». فكيف يكون "الإبداع" بسيطا؟ بناء على أي معرفة نفسية أو تاريخية أو اجتماعية أو فلسفية يمكن القول بأن أمر الإبداع جَعْلٌ بسيط لا يَعرِف التركيب؟ لو كان الإبداع جعلا بسيطا، لصار العرب والمسلمون أشد الناس إبداعا، لأنهم –باستلهام عبارة ابن خلدون- لا يتغلبون إلا على البسائط! ولو كان مبدأ المعرفة قائما على شرف المُنتَج البسيط، لما بقيت العلوم والمعارف امتيازا للنخبة! ما هذه "الخيمياء" التي تُوشك أن تُحوِّل، بواسطة سحر "الجَعْل"، "الجُعَل" (بالمعنى المزدوج: الدُويبّة المعروفة و"الإنسان اللَّجُوج") إلى أشرف عالِم بين الناس وأكبر مُبدِع في الكون؟!
-24يقول "هاني" إن «الاستناد إلى آراء الغزالي وابن حزم وابن تيمية في بناء أيديولوجيا المجال التداولي وقواعد التقريب التداولي يعبر فقط عن موقف تراثي معين وليس عن موقف كل التراث. وفي تعميم هذه القواعد تغليب لتراث على آخر بلا مرجح، بل هذا هو نفسه التعامل الأيديولوجي مع التراث.». فهل جاءت دعوى ضرورة التناول التكاملي للتراث إلا لتجاوز النظرة التجزيئية له على أيدي أصحاب الآليات الفكرانية والعقلانية المُستهلَكة؟ كيف يَقْلِب "هاني"، بمجرد كلمات مرسلات، "المنظور التكاملي" إلى "المنظور التجزيئي" و"المنظور العلمي" إلى "المنظور الإديولوجي"؟ أليس مفهوما "المجال التداولي" و"التقريب التداولي" مفهومين جاءا لتجاوز التبسيط الإديولوجي للفكر وللإبداع بجعلهما انعكاسا مباشرا للبنيات المادية التحتية أو للنزاعات السياسية والرهانات التسييسية؟ لماذا لا يَخرج "هاني" من روغانه ويكف عن التواءاته فيُفصح عن مُضمَراته بخصوص تلك الأجزاء من التراث التي لا تَقْبَل بالفعل أن تدخل معه في علاقات التكامل لأنها قائمة (بإرادة أصحابها) على "الرفض" بلا قيد ولا شرط لأصول هذا التراث بصفته يتحدد أساسا ك"تراث إسلامي-عربي" قائم على "النهج الراشدي"؟
-25يَخْلُص "هاني" من كل ما سبق إلى أن «[طريقة "طه عبد الرحمن" هي نفسها طريقة ابن حزم (يبدو أنه نَسِي أنه نفى أن يكون معنى "التقريب" الذي يقول به "طه" متفقا مع معناه عند "ابن حزم"!) تَمثَّلَها وبالغ فيها فأتى ب"إديولوجيا التقريب التداولي" التي هي "تمسيخ" يُراد به تحويل "السيارة" إلى "جَمَل"، لأنها تتعسف على منجزات الفكر الإنساني الحديث باسم "التقريب التداولي" و"الترجمة التأصيلية". ولذا، فإن المطلوب، في نظره، هو الرُّقِي بالجَمَل إلى مستوى السيّارة، بشق الطرق ووضع نظام المرور، أي ضرورة أن ترقى "الفاهمة" إلى مستوى "المفهوم"، وليس العكس كما هو شأن "الإديولوجيا التداولية" التي تستنزل "المفهوم" وتمسخه ليوافق "الفاهمة" بشكل متعسف، إنها تفرض على المعرفة العربية أن لا تتطور نحو كُبرى الإشكالات التي يطرحها الفكر الإنساني، وأن لا تغتني بالتراكم الذي تشهده علوم الإنسان، بل إنها حالة من التداول المغلق والتمثل اللغواني والمنطقاني الصوري الدائري المفرغ من المحتوى الفلسفي والمعرفي.]». هكذا يظن "هاني" أنه أنجز مُهمته في ممارسة "النقد الإديولوجي" فكشف مستورا يتمثل في "التضليل الإديولوجي" الذي يأتيه "طه عبد الرحمن" من خلال تفلسفه القائم على "التقريب" و"التأصيل" التداوليين. لكن "هاني" في كل ما يقول لا يُبطل دليلا ولا يبني استدلالا، وإنما يخوض في غمار لعب "اللغوى" كَسَيْل من الكلام المرسل والمكرور الذي يُدخِل قارئه في دُوّامة من التلفظات ظاهرها النقد وباطنها التشغيب. إنه لا ينظر في دعوى الخصم فيُمسك بتفاصيلها ويستعرض أدلتها فيتفحص ترتُّبها واتِّساقها، بل تراه يقفز على ذلك كله فيُقدِّم نفسه مُدَّعيا يعرض دعواه بدلا من الدعوى الأصلية. ففي الوقت الذي يَقول "طه" بدعوى "التقريب التداولي" ويبني عليها، استشكالا واستدلالا، دعوى عن ضرورة "الترجمة التأصيلية" مستندا في كل ذلك إلى عطاءات تُزاوج بين المأصول والمنقول ومعتمدا على عَتاد منهجي ومعرفي ومفهومي من أكثر من مجال، نجد "هاني" ينتقي من ذلك البناء المتين نُتَفًا مناسبة لأغراضه، فيأخذ في لَوْكها وشَدِّها في كل الاتجاهات لينتهي إلى مسخها فيُخرجها للناس ممن لا دراية لهم في صورة رُكام من الكلام المُهَلْهَل والإطناب الممجوج الذي يقودك حتما إلى أن صاحبه يحترف "خطاب اللغوى" كخطاب قائم على اللغو والباطل من الكلام والفكر. ألَا تَرى كيف يذهب إلى حدِّ جعل "إبداع أدوات مفهومية" (مثل "التقريب التداولي" و"الترجمة التأصيلية") مجرد "جَمَل" يُريد له صاحبه أن يُضاهي "السيّارة" في دلالتها على ما يُبدعه الغير ويُصدِّره إلى العاجزين والكسالى عبر العالم المتخلف، غافلا باستعارته تلك عن كونه لا يفعل شيئا سوى الدعوة إلى التقليد باسم "استهلاك" أدوات الغير كما هي من دون تبديل؟! وما ما معنى الرقي بالفاهمة إلى مستوى المفهوم على غرار الرقي بالجمل إلى السيارة؟ أليس هذا هو التعسف بعينه بجعل المفهوم ضربا من "المثال" المُتعالي والمُفارِق الذي يجب على مَلَكة الفهم أن تَصَّعَّد المَرَاقي إليه؟ أليس "المفهوم" ٱبْنًا للفاهمة (المُبدِعة) ينزل من رَحِمها فلا يملك أبدا أن يَعلُو عليها، إلا أن يكون في هذا أحد أشراط الساعة حيث تصير الأَمَة رَبَّتها بفعل تربيةٍ نكداء ضمن الحداثة العمياء؟! وأيّ التوجُّهين يقف بالمعرفة العربية دون مُسايرة رَكْب التقدم العلمي في كل المجالات، توجه من يجتهد في إبداع مفاهيمه وَفْق أحدث الشروط أم توجه من يلوك "اللغوى" تعبيرا وتفكيرا من دون التحقق كفايةً بمستجدات العصر؟ ومتى كان الإحكام الأسلوبي للعبارة "لغوانية" والتزام النسقية في بناء الفكر "منطقانية"؟ أليست "اللغوانية" من شِيَم من فاته إتقان لغة بني جِلدته حتى صار أقرب إلى العِيّ منه إلى البيان؟ أوليست "المنطقانية" (« le logicisme ») اجتهادا في توسيع البناء الصوري في المنطق ليشمل كل فروع الرياضيات، في حين أن الكتابة عند "طه" اجتهاد في ترسيخ المنطق الحجاجي من أجل توسيع العقل بتجاوز حدوده البرهانية ضمن المنطق الصوري؟ أليس "التداول المغلق" من شأن من يَحصُر الأفضلية في نفسه أو يجعلها وراثية، في حين أن "التقريب التداولي" كَسْرٌ لاحتكار الأفضلية من طرف الغرب ودفع لجُمود المقلدين من العرب والمسلمين؟ فمن يا تُرى يُفرغ أقواله من كل محتوى معرفي إذ يُرسل الكلام إرسالا ويرتكس في أفكاره خارج كل ضبط منهجي إذ يتأبّى على الاستشكال والاستدلال وَفْق الطرق المقررة؟
-26من البَيِّن، إذن، أن القارئ الذي يتجشَّم قراءة ما يكتبه "هاني" إلى نهايته لن يستطيع الخروج بشيء ذي بال، اللهم إلا تَطايُر مقذوفات "اللغوى" كشُهُب من الفكر الثاقب والعلم النيِّر، لكنها ليست في الحقيقة سوى لانهائية من الشَّناعات المُحيِّرة التي تحتاج إلى تحليل طويل ومُضْنٍ حتى تبرز للعيان. ففي نهاية مقال "ما بعد الإديولوجيا" سيجد القارئ نفسه يتساءل: ما "الإديولوجيا"؟ ما خصائصها كمفهوم؟ وما وظائفها؟ وما "النقد الإديولوجي"؟ أهو نقد للإديولوجيا كزيف وتضليل أم أنه نقدٌ يتم باسم الغَواية الإديولوجية؟ وما أصول هذا النقد وآلياته وأغراضه؟ وإذا لم يكن "التقريب التداولي" سوى تضليل إديولوجي، فما هو البديل المتبصِّر علميا؟ هل هو "التبعيد التَّطاوُلي" من خلال لُعبة "التخريق" و"الترتيق" في عماء فكري وخطابي بلا ملامح أم تسوية مبدعة تُجدِّد الموروث القديم وتُؤصِّل المنقول الحديث في إطار إقامة العمل على مقتضى طلب الصلاح في العاجل والآجل؟ وإذا لم تكن شروط "التداول" مُحدِّدة للإنتاج اللغوي والفكري والثقافي على نحو يَخلُق فضاءات متمايزة ومتنازعة، بهذا القدر أو ذاك، فهل يملك الإنسان أن يَهيم في وديان الكلام المرسل خارج كل الضوابط الحاكمة للتخاطب والتحاور بين العقلاء؟
-27إن الوقوف النقدي عند كتابات "إدريس هاني"، بصفته أحد أشد مُحترفِي "خطاب اللغوى" في المجال العربي، يؤكد أن أزمة المجتمع والثقافة بهذا المجال قد صارت أثقالا مُخيفة تَشُدُّ الناس نحو دَرَكات "التعالُم" المُشْقِي و"التكالُب" المُبكي. وإذا كان ثمة من بصيص في مسلك الساعين بِكَدٍّ إلى شيء من العمل الصالح، فليس سوى القيام بِجِدٍّ لمناهضة أشكال التضليل التي تتوسل "خطاب اللغوى" وتُلبِسه زينة النقد العلمي والعقلاني في واقع صار لا يتميز بشيء بقدر ما يتميز بالنُّفُور من الاجتهاد في تحصيل أدوات الدفاع عن النفس ضد السيطرة الاجتماعية والثقافية التي لا تُكرِّس في كل مجال من عالمنا العربي-الإسلامي سوى "المُبْطلين" و"البَطَّالين" من مُحترِفي "خطاب اللغوى" الذين لا يُحسنون سوى "التضليل" و"التدجيل" باسم "التنوير" و"التحرير". ولكن، هيهات أن يُفلح المُبطل بعمل حابط ومحبط!
-----------
[1] اُنظر:
- Pierre Bourdieu et Loïc J.D. Wacquant, Réponses, pour une anthropologie réflexive, éd. Du Seuil, 1992, p. 221.
[2] فضيحة أُثيرت بعد أن نشر الفيزيائي الأمريكي "آلان سُوكال" عام 1996 مقالا مُلفَّقا بعنوان «تَعَدِّي الحدود: نحو تأويليات تحويلية في جاذبية الكوانطا» (Alan Sokal, “Transgressing the Boundaries: Towards a Transformative Hermeneutics of Quantum Gravity,” In Social Text, 46/47, pp. 217-252 [spring/summer 1996].)، ثم عاد وأعلن عن كونه أراد القيام باختبار لمعرفة مدى احتراز المجلة المعنية من التضليل. وبعد ذلك أصدر "سُوكال" و"بريكمونت" كتابهما الذي زاد من حدة النقاش وأعقبته عدة دراسات وكتب من قِبَل عدد من المتدخلين:
Alan Sokal & Jean Bricmont, Intellectual impostures, Profile Books, London, 1998 ; Impostures intellectuelles, éd. Odile Jacob, 1998 ;
[3] اُنظر:
Pierre Bourdieu, Questions de sociologie, éd. De Minuit, 1984, p. 17 et p. 37.
[4] اُنظر:
Ludwig Wittgenstein, Tractatus Logico-philosophicus, trad. Par Gilles-Gaston Granger, éd. Gallimard, coll. Tell, 1993, § 5.6, p.93.
[5] راپوپرث، مبادئ الفلسفة، ترجمة أحمد أمين، ط1، 1918؛ ط 1979، دار الكتاب العربي، بيروت، ص. 169، الهامش1.
[6] اُنظر:
Gilles Deleuze et Félix Guattari, Qu'est-ce-que la philosophie, coll. « critique », éd. De Minuit, 1991, conclusion, p. 189-206 ; François Zourabichivili, Vocabulaire de Deleuze, éd. Ellipses, coll. Vocabulaire de..., 2003, p. ; Robert Sasso et Arnaud Villani, Le Vocabulaire de Gilles Deleuze, éd. Vrin, 2004, p. 55-56.
[7] اُنظر:
- Lionel Salem (dir.), le Dictionnaire des sciences, éd. Hachette, 1990, p. 80-81.
[8] اُنظر مثلا:
- Jean-René Ladmiral, « Eléments de traduction philosophique », In : Langue française. Vol. 51 N°1, « La traduction. », pp. 19-34 ; ou : Revue philosophique, N° 4, Octobre-Décemb : « La traduction philosophique », 2005 ;
[9] اُنظر:
- Barbara Cassin (dir.), Vocabulaire européen des philosophies : Dictionnaire des intraduisibles, éd. Du Seuil, 2004.
[10] اُنظر: عبد الله العروي، "مفهوم الإيديولوجيا"، المركز الثقافي العربي، بيروت، ط5، 1993، ص.9 .
[11] انظر: علي فهمي خشيم، "هل في القرآن أعجمي؟"، دار الشرق الأوسط، ط1، 1997 ؛ ومحمد بهجت قبيسي، "ملامح في فقه اللهجات العربيات، من الأكادية والكنعانية وحتى السبئية والعدنانية"، دار شمأل، دمشق، ط2، 2000.
[12] اُنظر:
- Daniel Andler et Isabelle Stengers, D'une science à l'autre : des concepts nomades, coll. Science ouverte, Editions du Seuil, Paris,1987 ; Mieke Bal, Travelling concepts in the humanities: a rough guide, University of Toronto Press, 2002 ; Christian Lammert & Katja Sarkowsky (eds.), Travelling Concepts: Negotiating diversity in Canada and Europe, 2009 ; Joyce Goggin & Sonja Neef, Travelling conceptsI: Text, Subjectivity, Hybridity, Asca Press, 2001;
[13] اُنظر:
- Umberto Eco, Experiences in Translation, University of Toronto, translated by Alastair McEwen ; 2001 ; Umberto Eco, Dire presque la même chose : Expériences de traduction, trad. Par de litalien par Myriem Bouzaher, éd. Grasset & Fasquelle, 2007 ;
[14] ابن عجيبة، "تقييدان في وحدة الوجود"، تحقيق جان لويس ميشون، دار القبة الزرقاء، مراكش، ط1، 1998، ص. 15 (مذكور في: طه عبد الرحمن، "فقه الفلسفة: 2- القول الفلسفي، كتاب المفهوم والتأثيل"، المركز الثقافي العربي، ط1، 1999، ص.37.).


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.