عندما تنتفض الشعوب، بعد سكون وصمت، لا تستطيع أي قوة أن توقفها أو تردها.. انتفاضتها تسو نامي سياسي جامح، وزلزال اجتماعي واقتصادي شديد القوة.. لا تنفع معها المسكنات والمهدئات و التطمينات والوعود.. يرتفع فيها سقف المطالب والاحتياجات، ويعلو فيها أفق الانتظارات والتطلعات .. ولا تقبل بأنصاف الحلول، أو الحلول الوسطى، ويسقط فيها منطق التوافقات والتنازلات والتقريب، ولا يسود إلا منطق واحد هو منطق القوة والتغليب.. ولا شعار حينئذ إلا شعار: إما ... وإما... عندما تنتفض الشعوب، بعد سكون وصمت، فذلكم مؤشر قوي على نفاذ طاقة الصبر والتحمل، وعلامة على انتهاء مدة صلاحية الانتظار والترقب، ولم يعد معها ممكنا القبول بالوضع القائم، والتعايش معه والاستسلام له.. لقد طفح الكيل و بلغ السيل الزبى.. وآن لرياح ثورة الشعوب أن تنطلق وتهب، لتحقق ما عجزت عنه القوى السياسية والمدنية على مدى عقود من الزمن... عندما تنتفض الشعوب، بعد سكون وصمت، فذلكم إيذان بيقظة ضميرها الجمعي، وانطلاق عودة وعيها، ونفض الغبار عن حقيقة ذاتها، وإزالة مختلف الحواجز السيكولوجية التي رانت على قلوبها، وتراكمت على عقولها، فحجبت عنها رؤية الأشياء على حقيقتها وصورتها الطبعية، وبالتالي بداية نهاية سياسة الاستغباء والاستبلاد والاستغفال التي مورست عليها، وخضعت لها لعقود طوال خلت... عندما تنتفض الشعوب، بعد سكون وصمت، يسقط الاستبداد.. وتسقط الديكتاتورية.. وتسقط كل الأقنعة.. ويسقط الجبابرة والمستبدون كما تتهاوى أوراق الخريف، وكأني بها أهون من بيوت العنكبوت.. وتقطع أغلال القمع وسلاسل العبودية.. وتتحرر النفوس من شبح الخوف والذل والخضوع والانبطاح.. ويفتح الباب على مصراعيه أمام كل المقموعين والمكبوتين، سياسيا واجتماعيا، ليصرخوا بأعلى أصواتهم: لا للظلم.. لا للطغيان.. لا للديكتاتورية .. لا لدولة البوليس... لينعموا بدولة الحق والقانون.. وليتنفسوا نسائم الحرية والانعتاق.. ويرفعوا أعلام الكرامة والآدمية.. عندما تنتفض الشعوب، بعد سكون وصمت، فذلكم تأكيد لحقيقة تاريخية، واستجلاء لقانون اجتماعي، وهو أن الشعوب لا تموت أبدا.. وإن بدا في لحظة من اللحظات، أو فترة من الفترات أنها انتهت وفنيت، ولم يعد بإمكانها أن تنهض وتعود.. لكنها سرعان ما تحيى وتقوم من جديد.. فتنفجر كالبركان.. فلم يكن صمتها وسكونها، حتى لو طال، سوى الهدوء الذي يسبق العاصفة... فلحذر الحذر فتحت الرماد الجمر.. والحذر الحذر من هيجان الشعوب ويقظتها، فقديما قال الشاعر أبو الطيب المتنبي: هو البحر غص فيه إذا كان ساكنا على الدر واحذره إذا كان مزبدا