قصة امرأة تمتهن الترباندو المكان : محطة حافلات بالناظور الزمان : أحد أيام غشت القائض يشرف موقع المحطة على ساحل البحر ؛ تنتشر على أطرافه حافلات في انتظار الإقلاع إلى مدن بعيدة وسط وشمال المغرب . يغشى المحطة ؛ داخلها وخارجها ؛ هرج ومرج على وقع صخب "الكورتيا" ، وضجيج مسافرين محملين بأكوام ورزم سلع تتنوع بين أكياس بلاستيكية سوداء محكمة الشد ، ومعلبات زجاجية ، وأغطية وأفرشة تزدان بهاج جنبات الأرصفة في انتظار شحنها ... يغمر الفضاء صوت هدير المحركات ، يختلط أحيانا بصراخ الكورتيا " فاس .. فاس ..باقيا بلاصا .. آجي ..آجي انْتا فاينْ غادي ...ياالله ....ياالله آحميد .. راه الكار عْمار .." يقف حميد ، يتأمل الأكياس .. والرزم .. يُقذف بها إلى باطن الحافلة ، وبعضها تكوّم بعناية تحت الكراسي ، أو الحواشي ... حميد ؛ في مقتبل العمر بطنه تتدلى من أمامه ، وتسبق خطواته ، يرتدي جاكيطة خفيفة ، تكشف عن ذراعين غليظتين ، ويدين خشنتين ملطختين بسخام أسود من فرط فحصه وتحسسه لمحتويات السلع المغبرة !.. يضع بين شفتيه سيجارة مارلبورو .. بين فينة وأخرى ينفث بدخانها ، ويعقبها بمسح شاربه الكث ... عينه لا تزيغ عن الركاب وحمولاتهم . فجأة يصعق بصوت أجش كأسد جريح " آفاين هيّ الضاويا .. الضاويا ما زالا ماجات ..؟" .. رد عليه كورتي إلى جواره " بقات ليها خْناشي دْيال الروز .. مْشاتْ تجيبْهم ..لا..لا هاهي جات .." .. التفت حميد باتجاهها ، وهو يصرخ "غادي تخلصي الروتار!" الضاوية .. في الثلاثينيات من عمرها ، ترتدي جلبابا مع بنطلون أزرق داكن ، يكشف عن ردفين عريضتين ، وقد تركت شعرها الملون مكشوفا أرسلت ببعض خصلاته على كتفيها .. عيناها منتفختان ، ومحمرتان ، ونظراتها تشي بتعب شديد . قهقهت ؛ في اتجاه حميد ؛ بفاه يكشف عن سنين مخلوعتين ، وصوت رقيق أشبه بثغاء الماعز ! قبل أن تستقل في مقعدها داخل الحافلة ، نظرت إلى حميد عبر مرآة السائق وقذفت بهذه الكلمات " دينْمّو... خلاّ عنْدو 5 دلخْناشي دلْعطْريّا و3 دلْحبّات ديال الروز ..أو شْويّا ديال البسْطاش .." كان داخل الحافلة يعبق بروائح التوابل ، وعرق أحذية السبادري أو تصببه على وجوه الركاب ، وهم يوضبون سلعهم تحت المقاعد .. أو بحواشي الجنبات . كانت الحافلة غاصة بالركاب ، أكثرهم نساء يمتهن الترباندو ... في لحظة ما صعد شخص يتأبط جريدة ، وأخذ جاهدا يبحث عن مقعد فارغ ، ولما لم يعثر عليه وقف مزمجرا "فينْ غادْيينْ نْجلْسو فالسْطح ؟! " .. سارع إليه الجريسون (الجابي) "ما تقلّقش آعمي .. خلّينا غير عْلاما نْدوزو أجّدارْميا نعْطيك بلاصْتك .." "إيوا مزيان ... إذن هذا الكار دسّلعا ماشي دْيال السّفرْ ؟!" "آسيدي ... آسيدي راك نازلْ فوسْطْ الطريق ... سكّتنا ولاّ هْبطْ عْلينا !..." "راني بورقْتي ... دبّر لي على بْلاصا أوباراكا..." نهضت الضاوية من مقعديها متوجهة صوبه : " صافي آخويا ... مكايان مشْكيل آجي لّهْنايا " اقتعد صاحب الجريدة بجوار مقعد مكدس بعلب الماروخا والبريكات .. بينما ظلت هي واقفة إلى جوار حميد السائق الذي كان يدير شريط السيدي على أنغام " واشْ جا يديرْ ... واشْ جا يديرْ آلمّيما ... واشْ جا يديرْ" صاحب الجريدة كان ممتعضا من الروائح وتكدسات السلع ، وعيون الركاب ترمقه خلف المقاعد .. ولسان حالها يقول :"..مسْكين ... حْصل .. خاصّو حتى هوّا يهزْ معاه السّلعا " إقلاع الحافلة اهتزت جنبات الحافلة وهي تشق طريقها بين كومات السلع وغاد ورائح ، وضربات أيدي الكورتيا يصرخون ..." آحميد .. ! أعْطينا رزقْنا .." فما كان من هذا الأخير إلا أن لف ورقة من فئة 50 درهما ثم رمى بها إليهم عبر النافذة ، مخلفا وراءه معركة من سيأخذ ، وكم !! ... وما هي إلا مسافة 20د من الإقلاع حتى ساد صمت رهيب ، وتعطلت الأنفاس ، وهم يحملقون عبر النوافذ . نقطة المراقبة الدركية ، تحلق من حولها أناس شداد غلاظ .. يروحون ذهابا وجيئة ، بينما كانت أعينهم مسمرة على الحافلة وسائقها . اهتزت الضاوية طربا ، وهي تزف إلى الركاب هذا النبأ " .. رحّو .. رحّو رجلْ الله إعمّارها سلْعا .. كيتْسامح ...معاكولْشي .. !" تقدم هذا الأخير إلى حميد وسأل ، ونظراته زائغتين إلى الضاوية : " آشْتمّا ...؟ " "والو ...آشّاف ... آشّاف ، كيمّا العادة ." وصافحه مصافحة خاصة ، قبل أن يأذن له بالسير ، وهو ينثر في وجه الضاوية هذه الكلمات : " آفايْناك آلضاوية .. واشْ ما زالا ... ها .. ها .. ها " عادت الأنفاس إلى حناجرها بعدما تجاوزت الحافلة نقطة المراقبة ، وانبعثت خشخشة مدوية بين جميع الركاب .. وبعد لحظة انتشرت روائح سمك التونا المعلب ، يفرغ في قطع الخبز .. أخذت تلتهمه الأفواه ، بمعية عبوات الكوكا أو البيبسي .. الكل كان يمضغ بمن فيهم حميد والضاوية .. إلا صاحب الجريدة الذي كان ؛ بين فينة وأخرى ؛ يختلس النظرات إلى الركاب ، وسحناتهم .. وسلعهم ، فأخرج من جيبه قضيب الشوكولاطة وأخذ يقضمه منخرطا في ماراطون المضغ ، وسط الركاب .. ! زغرودة .. انبعثت من موبايل الضاوية ، فردت بانزعاج " .. اللّهّايا .. راها فوقْ التلفزيون ... مْنين تعْطيها الرضاعة تبْعو ليها بالسيرو .. لّعْلى بالاك .." قفلت السكة .. وعادت تلتهم الكباب ومشروب الكوكا على نغمات " آهْيا ... آهْيا..عنْداكْ آصاحبي .." وكأن الضاوية فتحت للجميع خط الاتصالات ، فعجت الحافلة بالمكالمات من قبيل الردود ، وبأصوات مرتفعة : " جبْت خمس دلحبْات " ؛ " سير الله انعل جد مّك .." ؛ " شدّ من عندو تلتلاف ريال .." ؛ " ياالله خارجين من الناظور .. دابا قرابين لحاسي بركان " ؛ " تلاقاني بالكرّوصا .." ؛ " معايا تلاتا دلبلاط أوسبْعا دلكواش.. إكون خير .. البيسطاش طْلاع شويّا .." ؛ " إمشي إعاوادْ لك..." استأنفت الحافلة طريقها باتجاه تاوريرت ، وأخذ الجريسون (الجابي) يطوف بين الركاب مستخلصا ما بقي في ذمة بعضهم ، تبعا لبضاعته وحمولتها .. وحتى إذا جاور صاحب الجريدة سأله : " أنتا ..ما عنْداك سلْعا ..؟" " ..هاشْنو عندي .." شاهرا في وجهه صفحات جريدة مهترئة من كثرة تقلبها بين يديه والترويح بها.. ثم استطرد قائلا في نبرة الخبير في القانون : " آجي بعْدا ..هدا السّلعا .. مْنين جايْبينْها ...ياك منْ المغرب .. واشْ آعباد الله الناظور مدينة مغربية ولاّ تابْعا للسبليون ؟... أعلاشْ هدا القباحا كايْنا فالطريق معا الجّدارْميّا ..؟" غمغم الجميع .. وهم ينصتون إليه كإمام يلقي بموعظة بين الناس ، فقاطعته إحداهن وحزامها يكاد ينفجر من شدة ثقل حمولته بقطع الأثواب ..: "...آقولْها ليهمْ ... أنا جايْبا عشات أولادي 5 أو يجي إزوّلها ليكْ من فمّك .." تدخل آخر وكان يفرك يديه لتنظيفها من رائحة التونا : " آشْريف ... آشْريف شاركْ فهدا الخير .. هاكْ خودْ هدا 2 لكواشْ .. أومنينْ نواصْلو لْشي براج .. قولهم هدا الهدرا .." ضجت الحافلة بلغطهم ، وقهقهاتهم ، وتعليقاتهم على صاحب الجريدة .. وأصبحت تتقاذفه نظراتهم من بعيد ، كما لو كان معتوها صادفوه على متن الحافلة .. لكن حميد اعتاد مثل هذه السجالات فزاد في صوت الشريط ، وهو يصدح " واشْ جّا يديرْ .. آلمّيما .. واشْ جّا يْديرْ " ، وعلى وقعها كان رأس الضاوية يتمايل ذات اليمين وذات الشمال ، وقد أسلمت نفسها لنوم عميق !.. المحطة الثانية تاوريرت قبل أن يوقف المحرك خاطب الجميع عبر المرآة : "..شوفو عشْرا ددْقائق ...راني ما نعْرافْ فيها لا أمّي ولا أبّا .." ترجلت الضاوية اتجاه شخص خلف شجرة هناك ، ناولها رزمة صغيرة من ورق الكارطون ، واستتبعها بقوله بصوت خافت " باقا جْديدا ...عادْ شدّيناها لْباراح من جوجْ بْغالْ .." همست في أذنه بشيء ما قبل أن تنفحه أوراقا مالية من فئة 200 درهم .. أما حميد فقد ظل ملازما لصندوق محكم الإغلاق ، يقع خلف الحافلة محاذيا لعدة المحرك .. وفجأة تهللت أساريره وهو يرمق شخصا يقود عربة محملة ب5 براميل من سعة 20 لترا لكل برميل .. ثم انشغل بشحنها داخل الصندوق ، وهو يلتفت لما حوله بنظرات زائغة . أقفل الصندوق ثم عاد أدراجه إلى داخل الحافلة ، وأخذ يضغط على المنبه بصوت مدوي ... هرول الركاب ، وتقاطروا من جديد على البابين الأمامي والخلفي . تحركت القافلة ، ولم يبال حميد بأصوات كانت تنبهه من الداخل : " مازالا حادّا .. باقا ماجاتْ " نهاية السير !! كانت الحرارة على أشدها .. تلفح ؛ عبر النوافذ ؛ وجوها كالحة ، تسيل عرقا وقد اتكأت على جنبات المقاعد تتمايل حينا وتتهادى حينا آخر ، على وقع هدير محرك الحافلة ، وهو ينهب الطريق نهبا .. ولا أحد يبالي بالجبال والوهاد التي كانت تمر منها الحافلة .. وفجأة رن جرس هاتف الضاوية فاستفاقت من سباتها ، وهي ترد في كسل بجملة مطاطة " ..آلو... آلو راحْنا قرّبْنا .. دزْنا 4 دلباراجاتْ .. لا ..لا... لاباس .. شوفي .. واشْ جا ذاكْ المسخوط ؟ " " ألاّ مازال .." " إلى مْشا حتى طلب منك الكارو باشْ يكْمي عطيه شي طْروفا راني دايْراهمْ فالفردا دسّباط دْيالي القديمْ .. ماشفْتني ماشفْتكْ ياالله تْلاحي " .. أقفلت هاتفها ، ومالت على كتف حميد وعينها تدمع : " هْلكْني ... ْهلكْني ... فْكولشي دْيالي ..هادي 12 عام ... ولا شفت معاه شي نهار فيه الضوْ .. من النهار فاشْ وقْفوه فالمعمل ..أوهوّا كيدّيلي كولْ ما دخالتو للدار.. الفلوس والكميان .. والسبان من الفوقْ.. لْعشْرا دْلكْلابْ .." قبل أن تتابع شكواها .. إذا بصوت ينبعث من الخلف : " آحميد ... آحميد راها الرّيحا دشْياطْ عاطْيا " .. صوت آخر ينضم إليه يجلس في المقاعد الخلفية المتكئة مباشرة على حاوية المحرك " نيت الرّيحا .. راه ظهرنا قرّب إتّسْلقْ ..بالحرارة." .. " والعافية هدي ماشي الحرارة !" انتشر الذعر بين الركاب ، واشرأبت الأعناق ، وساد اللغط ، وتضاعفت درجة الرائحة ، إلا أن إحداهن زعقت واشتد رعبها ، ونادت بأعلى صوتها : " آعباد الله ... آعباد الله ... راها لحريقا ... لحريقا ..." فلم يكن من حميد ؛ وسط هذه المعمعة من الصراخ والعويل ؛ إلا أن حاول الفرملة ، بعد أن لاحظ شيئا ما يومض على لوحة البيانات أمامه .. لقد بات جهاز الفرملة شبه معطل .. حاول أخرى ، والحافلة تعبر جرفا صخريا ، فرأى من خلفه زجاج النوافذ يتهشم ، الكل يحاول النجاة بنفسه بعد أن أيقنوا أن نارا نشبت في ركن من الحافلة ، وأخذت تبعث بأدخنتها اللافحة والقاتمة ! وفي لحظة ما ؛ وبعد لأي ؛ اصطدمت الحافلة بحافة جرف ، ولدى اصطدامها تفجرت النيران ، وامتدت ألسنتها لتلتهم كل شيء ... في حين كان جل الركاب قد وقعوا أرضا ، ومن النساء من بقين عالقات ، وقد استعانوا بأكياس الرز ، ورزم الأغطية لتسعفهم في الاصطدام بالأرض .. !كان المشهد في غاية الدراما ؛ مشهد كومة نيران تلتهب إلى جوار أجساد ملقاة على الأرض ، منها ما دخل في غيبوبة ، ومنها ما كان يتململ ، ويزحف على ركبتيه ، ومنها ما لفه السكون ... المكان شبه مقفر إلا من بقرات ترعى غير بعيد من هناك على مقربة من سفوح جبال كانت تلقي بظلالها على المنطقة . تحولت الحافلة المشؤومة إلى هياكل وقضبان حديدية ظلت لوقت مديد تتقد نارا ، قبل أن تحل بالموقع سيارة إسعاف يتيمة ، بمعية رجال الدرك .. توقفت حركة السير على الطريق ، وأخذ بعضهم ينادي " آعباد الله .. آعباد الله ! غيتو الناس ." ، ولا أحد حرك ساكنا إلا من سائق سيارة مرسديس بنز ، تطوع بنقل 3 جرحى إلى المستشفى الإدريسي بفاس ، أحدهما كانت الضاوية والتي أقامت بالمستشفى شهرين كاملين على إثر كسر حاد في ساقها اليمنى ، لتغادره مستعملة عكازتين . ولجت منزلها ، واحتضنت ابنتها ذات السبعة أشهر .. فسألت جارتها ؛ التي كانت تحل محلها في رعاية الطفلة : " ..فاين هوّا الراجلْ ؟ " ، سكتت الجارة وهي تكفكف دموعها وتهز بيديها إلى السماء : " ياربي ... احْنا متّايْبين ليك ..اسمح لينا " ثم ناولتها رسالة من الشرطة القضائية مكتوب فيها : ‘‘ المرجو عاجلا من السيدة الضاوية العدلوني أن تلتحق حالا بمصلحة التحقيق ... ''