في وقت كانت تتلى على أمواج التلفزة المغربية برقية التهنئة التي بعثها الملك محمد السادس إلى الرئيس الجزائري بمناسبة "الفاتح من نونبر المجيد"، كانت الأقلام الجزائرية، خاصة تلك الموالية للنظام، تتناول بكثير من التضخيم تداعيات الحادث المؤسف الذي راح ضحيته مواطن مغربي بمدينة الحسيمة. ما كان لافتا في تغطية الإعلام الجزائري هو تناوله للموضوع بكثير من التشفي والحقد تجاه الجارة الغربية الشقيقة، خاصة ما أعقب الحادث المأساوي من مسيرات احتجاجية في بعض المدن المغربية؛ وحالة التماهي أيضا مع الأحداث، إلى درجة وصلت إلى ما يمكن اعتباره أحلام يقظة باندلاع ثورة شعبية بالمغرب وحدوث حالة انفلات أمني. التحليلات الصحافية أيضا، خاصة تلك التي تناولتها صحيفتا الخبر والشروق المقربتان والممولتان من النظام الجزائري، ذهبت كلها في اتجاه صب مزيد من الزيت على النار، وإذكاء شرارة الاحتجاجات، من خلال البحث بكل السبل عما يمكنه أن يحقق هذا المبتغى، ولو عبر استضافة من تعتبرهم معارضين "مغاربة". ما يثير الاستغراب أيضا في الإعلام الجزائري الموالي للنظام هو اعتبار المغرب، وفي كل المناسبات، مادة دسمة لأخباره كيفما كانت الوقائع. وعندما تندلع أحداث الشغب ومسيرات الاحتجاج داخل بعض المدن الجزائرية يعمد النظام الجزائري إلى تجييش صحافته المكتوبة والمسموعة والمرئية من أجل التحامل على المغرب واعتباره المحرك الرئيسي لكل الأحداث التي تعيشها البلاد. وخلال الأحداث الأخيرة التي عرفها المغرب تحرك إعلام النظام نفسه من أجل تضخيمها وإعطائها أبعادا وأوصافا أكبر بكثير مما جرى على أرض الواقع، ما يعبر حقيقة عن إفلاس هذا النظام وعبثيته. الحقيقية أن ما ذهبت إليه بعض الصحف الجزائرية لا يعكس في حقيقية الأمر التوجه العام للإعلام الجزائري، الذي يغلب عليه طابع المهنية والمصداقية، بل يعكس بكل وضوح إيديولوجية النظام الجزائري وموقفه المتوجس من النموذج الديمقراطي المغربي، خاصة بعد نجاح الانتخابات التشريعية الأخيرة، التي كرست تميز هذا النظام وتماسكه داخل المنطقة العربية التي تعيش وضعا هشا، كما كرست أيضا شرعية المغرب وسيادته على أقاليمه الجنوبية، بعدما شكلت نسبة انخراط ساكنة هذه الأقاليم في الانتخابات أعلى نسب المشاركة على الصعيد الوطني. وحتى نكون منصفين مع النظام الجزائري، فتميز النموذج الديمقراطي المغربي وتفرده لا يشكل مشكلا في حد ذاته بالنسبة لصناع القرار داخل هذا النظام، لكن المشكل الحقيقي يبرز كلما صدرت دراسات وتقارير دولية تقارن بين النموذجين المغربي والجزائري، خاصة في مجال الديمقراطية ومؤشرات الاستقرار السياسي والاجتماعي، وتؤكد تميز الأول وتفوقه على الثاني. نتيجة هذه المقارنة غالبا ما تصيب النظام الجزائري بحالة من السعار، وكلما استطاع المغرب استقطاب مشاريع استثمارية ضخمة، ما جعله يبحث بكل الوسائل عن كل ما من شأنه أن يطعن في صحة هذه التقارير، وربما وجد في أحداث المغرب الأخيرة فرصة مواتية لتقليص هذه الفوارق. في هذا السياق، صدر في الأيام الأخيرة تقريران أمريكيان، كلاهما يتعلقان بطبيعة العلاقة المتوترة بين الجزائر والمغرب؛ الأول صدر عن مركز "كارنيغي للشرق الأوسط"، وشبّه العلاقات المغربية الجزائرية ب"الحرب العربية الباردة"، خاصة في ظل الصراع ما بين الرباطوالجزائر حول لعب دور الأخ الأكبر بإفريقيا، وكذلك ما تعرفه العلاقات من تجاذب ما بين البلدين بخصوص ملف الصحراء؛ والثاني صدر عن مركز "أنتربرايز"، ورسم صورة قاتمة عن أوضاع المغرب الحالية وحذره من سيناريو سوريا على حدوده، مشيرا إلى أن الجزائروموريتانيا تعانيان من عدم الاستقرار، وأن موجة الربيع العربي الثانية ستشملهما. وأضاف التقرير ذاته أيضا أن موريتانيا ستصبح أول دولة غير مستقرة في القريب العاجل، تتبعها في عدم الاستقرار الجمهورية الجزائرية. بعيدا عن نظرية المؤامرة، فإن التحليل الهادئ والعميق، والربط بين مضامين التقريرين الأمريكيين، يشي بأن هناك مخططات حقيقية ربما تسير في اتجاه تأزيم العلاقات المغربية الجزائرية أكثر مما هي عليها الآن، وربما كان وصولها إلى مرحلة متقدمة من التأزم كلمة السر في تنزيل ما تم التخطيط له. ربما سيكون صعبا على الجارتين اللتين تقتسمان روابط اللغة والدين والتاريخ والجغرافيا تحقيق التقارب المنشود، على الأقل في الأمدين القريب والمتوسط؛ لكن بإمكانهما بشكل انفرادي وسيادي أن يهتما بشؤونهما الداخلية وأن يسخرا الطاقات والموارد المتاحة لفائدة شعبيهما، عوض توظيفها في إذكاء النزاعات بينهما وشراء الذمم والولاءات؛ وعوض أن تقدم إحداهما دروسا في الديمقراطية وحقوق الإنسان للأخرى، خاصة في المحافل الدولية ذات الصلة، فلتعمل على تفعيل ذلك على أرض الواقع مع شعبها، الأحق بالرعاية والاهتمام. النظام الجزائري يقحم في كل مناسبة إعلامه المسخر وصحافته المأجورة، وأكاديمييه ونخبته المثقفة؛ في ما يعتبره هو حربا باردة مع المغرب؛ وحري به أن يترك هذه المكونات مستقلة وحيادية، فلربما جاء الوقت ذات يوم لتلعب دورا في إعادة المياه إلى مجاريها بين الدولتين الشقيقتين. لا أحد يريد اليوم أن يرى مشاهد القتل والاغتصاب والتنكيل لا بالمغرب ولا بالجزائر، فبالأحرى أن يعيشها. في العالم الذي نعيشه اليوم، ومن خلال الأحداث التي نسمعها ونراها، أصبح جليا أن الحدود والحواجز لا يمكنها بتاتا أن تحمي دولة من ويلات وكوارث ما يجري في الدول المجاورة، والأمثلة شاهدة على ذلك من الشرق والغرب..أصبح جليا أيضا أن الفتن والحروب يمكن إشعالها حينما يراد ذلك، لكن لا أحد يمكنه إخمادها، فهي تأتي على الأخضر واليابس. وبالتالي لا مجال أمام الجميع سوى العمل على إرساء مبادئ التعاون المشترك، أو على الأقل في الوقت الراهن احترام حسن الجوار. [email protected]