روسيا تشيد بدور جلالة الملك رئيس لجنة القدس من أجل التسوية السلمية للقضية الفلسطينية    ولد الرشيد يجري مباحثات في مالابو    السعدي يحفّز الحوار الاجتماعي القطاعي    بورصة البيضاء ترتفع بنسبة 1,31 بالمائة    الصحف الشيلية تحتفي بإنجاز المغرب    نادي نهضة بركان يحط الرحال بالقاهرة    كأس العالم 2026.. بيع أكثر من مليون تذكرة خلال مرحلة البيع المسبق لحاملي بطاقات "فيزا"    مونديال الشيلي لأقل من 20 سنة.. "الأشبال" يدخلون التاريخ كأول منتخب عربي يتأهل إلى النهائي منذ 44 سنة    أمن طنجة يوقف مبحوثًا عنه في حالة تلبس بسرقة دراجة نارية باستعمال العنف والسلاح الأبيض    مراكش تحتضن المؤتمر الدولي للشبكة الفرنكفونية للمجالس العليا للقضاء    الدريوش تعطي انطلاقة أشغال الورشة الدولية حول: "الأسماك السطحية الصغيرة في ظل الإكراهات المناخية والصيد المفرط.."    مربّو الدجاج بالمغرب يتهمون لوبيات القطاع بالاحتكار ويحمّلون الحكومة مسؤولية فشل الإصلاح    كل شيء جاهز لاحتضان المؤتمر    إحباط محاولة تهريب 400 كيلوغرام من مخدر الشيرا بمعبر الكركرات الحدودي    بوريطة في موسكو... وحدة التراب المغربي خط أحمر لا يُمَسّ    "هيومن رايتس ووتش" تطالب السلطات بالاستجابة لمطالب شباب "جيل زد" والتحقيق في الوفيات والانتهاكات    المندوبية السامية للتخطيط: تحسن سنوي في ثقة الأسر المغربية    في مداخلة أمام اللجنة الرابعة للجمعية العامة للأمم المتحدة .. عمر هلال: بعد 50 عاما على استرجاعها، الصحراء المغربية أضحت واحة سلام وقطبا للاندماج الإفريقي والتنمية المشتركة    محمد وهبي: سنواجه الأرجنتين بنفس الحماس لانتزاع كأس العالم    مرصد التربية الدامجة ينتقد "مغالطات وتناقضات" وزير التعليم حول تمدرس الأطفال في وضعية إعاقة    تهم اقليم الحسيمة ومناطق اخرى .. نشرة انذارية تحذر من امطار رعدية قوية    محمد سلطانة يتألق في إخراج مسرحية والو دي رخاوي    عاصمة البوغاز على موعد مع الدورة أل 25 من المهرجان الوطني للفيلم    أبناء الرماد    قطاع غزة يتسلم جثامين من إسرائيل    لوكورنو ينجو من تصويت بحجب الثقة    "جنان الجامع" يحترق في تارودانت    توقعات بإنتاج 310 آلاف طن من التفاح بجهة درعة-تافيلالت خلال 2025    إسطنبول… حجيرة يؤكد انخراط المملكة في شراكة هيكلية بين إفريقيا وتركيا تقوم على التضامن والتنمية المشتركة    توقعات أحوال الطقس غدا الجمعة    "الزمن المنفلت: محاولة القبض على الجمال في عالم متحوّل"    مواقع التواصل الاجتماعي تفسد أدمغة الأطفال وتضر بشكل خاص بذاكرتهم ومفرداتهم اللغوية    دراسة: مواقع التواصل الاجتماعي تفسد أدمغة الأطفال وتضر بشكل خاص بذاكرتهم ومفرداتهم اللغوية    نتانياهو: "المعركة لم تنته" في غزة والمنطقة    إجراءات ‬جديدة ‬لتسهيل ‬دخول ‬المغاربة ‬إلى ‬مصر ‬دون ‬تأشيرة    الرباط تحتفي بوقف العدوان الإسرائيلي على غزة وتجدد المطالب بإسقاط التطبيع    مجموعة "سافران" الفرنسية تثمن بيئة الاستثمار في المغرب وتوسع أنشطتها بالنواصر    رفع التصنيف السيادي للمغرب محطة مفصلية للاقتصاد الوطني    فرحة عارمة بمدن المملكة بعد تأهل المنتخب الوطني لنهائي مونديال الشيلي    زلزال بقوة 6,6 درجات يضرب إندونيسيا    في ‬تقرير ‬رسمي ‬للمندوبية ‬السامية ‬للتخطيط    كيوسك الخميس | أزيد من 36 ألف شاب مستفيد من دعم السكن    الأمم المتحدة.. المغرب يجدد تأكيد دعمه "الثابت والدائم" لسيادة الإمارات العربية المتحدة على جزر طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى    "إيزي جيت" تراهن على المغرب بإفتتاح أول قاعدة لها في إفريقيا بمطار مراكش عام 2026    "الأشبال" أمام الأرجنتين بنهائي المونديال    كنز منسي للأدب المغربي.. المريني تكشف ديوانا مجهولا للمؤرخ الناصري    ريتشارد ديوك بوكان.. رجل ترامب في الرباط بين مكافأة الولاء وتحديات الدبلوماسية    قصص عالمية في مهرجان الدوحة    الدين بين دوغمائية الأولين وتحريفات التابعين ..    هل يمكن للآلة أن تصبح مؤرخا بديلا عن الإنسان ؟    414 مليار درهم قيمة 250 مشروعا صادقت عليها اللجنة الوطنية للاستثمار    ممارسة التمارين الرياضية الخفيفة بشكل يومي مفيدة لصحة القلب (دراسة)    "الصحة العالمية": الاضطرابات العصبية تتسبب في 11 مليون وفاة سنويا حول العالم    العِبرة من مِحن خير أمة..    حفظ الله غزة وأهلها    الأوقاف تعلن موضوع خطبة الجمعة    رواد مسجد أنس ابن مالك يستقبلون الامام الجديد، غير متناسين الامام السابق عبد الله المجريسي    الجالية المسلمة بمليلية تكرم الإمام عبد السلام أردوم تقديرا لمسيرته الدعوية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قرى "باكِية" في أزيلال تعيش على مواجع الماضي ومِحن الحاضر

قرى تعيسة تحتضر وسط أعالي جبال أزيلال، محكومة بدائرة من المأساة والوجع، تعيش على الترقب والانتظار مع تناسل أحلام الناس والمطامح الآخذة في الكبر؛ ما جعل الساكنة معزولة عن كل أشكال التمدن، لتغرق بذلك في مأساة اجتماعية يستحيل وصف بشاعتها.
تنظر أمامك فتُطالعك وجوه كئيبة حزينة، تختزن بين تجاعيدها حكايات قرى تصرخ بالإهمال.. تجول بعينيك فيرتد البصر خائبا وهو حسير من فرط الوجع الذي يستبد بالمنطقة، التي تخيّم عليها رائحة التهميش التي تنبعث على بُعد كيلومترات من جبال أزيلال الشاهقة، نتيجة الحصار الطبيعي الذي جعلها خارج الزمن الإنساني.
أنت هنا.. في قرى تاريخية مهمشة على مدى ارتفاع يفوق ال3000 متر، تربعت في نخوة وشموخ على تلك المرتفعات الخالدة التي شهدت معارك ضارية خاضها أبناء المنطقة من أجل نيل الحرية، التي لطالما كانت رديفا للإنسان الأمازيغي، لتكتب بذلك جزءا من التاريخ التليد للمغرب بالدم.
لكن موكب الزمان يمر بجانبها، فلم يلتفت إليها بجديد أو تجديد، إذ تغير السكان وتغيرت حياتهم، لكن القرى لم تتغير أبدا، لأن كلمة "التهميش" تتطاير من كل الأفواه في تلك المناطق.
شقت هسبريس جبال أزيلال، وحطت الرحال في مجموعة من الدواوير القروية، هي"اسْم السوق" ودوار "تالمست" التابعين لجماعة "زاوية أحنصال"، ثم دوار "تيميت" ودوار "آيت زيري" بجماعة "تبانت" في منطقة آيت بوكماز.
أوجاع الماضي ومأساة الحاضر
على بُعد ثمانين كيلومتراً من إقليم أزيلال، تنتصب قرية "اسم السوق" بتضاريسها الجبلية القاسية، التي تنوء بأوجاع تاريخ مفعم بالكفاح ضد المستعمر الفرنسي وحاضر يستبد به التهميش والفقر والجوع. اذخرهم القدر للنضال فقط، فبعدما عاشوا ويلات الاستعمار لا يعرفون حاليا سوى المزيد من البؤس الشديد، مُقدَّمون دائما في النضال ومؤخرون في الاستفادة من الثروات الطبيعية للبلد.
لقد تحالفت الظروف الطبيعية القاسية، وتجبّر أعوان السلطة ضد كرامة الإنسان الأمازيغي القابع في التهميش المُتوارث، وضاق أفق الاختيارات، فلم يتبق سوى أمرين: انتظار مساعدات شحيحة من قبل الدولة، أو الهجرة إلى ما وراء الجبال بحثاً عن حياة أفضل.
يْشّو، خمسيني، أحد سكان المنطقة، يعترمه غضب شديد من غياب المدارس بالمنطقة، قائلا بلهجة ملؤها السأم: "يضطر أبناؤنا إلى قطع أزيد من خمسة كيلومترات بصفة يوميا، وحينما ينسدل الظلام فإن أطفالنا قد يتيهون بين مرتفعات الجبال أو يتعرضون لأي مكروه"، مسترسلا: "لما تتساقط الثلوج ينقطع التلاميذ عن المدرسة لمدة تتجاوز ال15 يوما".
ويضيف يْشو، في حديثه لهسبريس، "لا نتوفر على المدارس اللازمة.. كلّ ما يروج في الإعلام العمومي بخصوص المدارس القروية مجرد إشاعات واهية، دون إغفال المستشفيات العمومية الغائبة أيضا في المنطقة، فحينما يسقط شخص ما طريح الفراش فمن المحتمل جدا أن يموت وسط مرتفعات الجبال، بسبب المسالك الوعرة، بل الأكثر من ذلك فرضت علينا البطالة الإجبارية، إذ لا نتوفر على ما نُطعم به أطفالنا".
للوصول إلى دوار "اسم السوق" عليك المرور من طريق ضيقة محفرة طوال ساعات، صعودا عبر مسالك جبلية تشق في التواءاتها الكثيرة غابة شاسعة تبدو بمنتهى الروعة على اليمين والشمال؛ لكن القرية طالها النسيان وسيطر عليها التهميش، وأي وصف سوداوي يخطر على بالك يمكن أن ينطبق على تلك التضاريس الوعرة.
في هذا الصدد، يورد الطفل عمر، (16 سنة)، بعض شذرات حياته اليومية في الدوار، "نعاني كثيرا في وقت البرد، بحيث تتحول المنطقة إلى ثلاجة متجمدة؛ ذلك أن المدارس لا تتوفر على أي وسيلة للتدفئة، إلى جانب غياب وسائل النقل الدائمة.. تفترق العائلة في الصباح الباكر، بين من يذهب للمدرسة ومن يجمع الحطب ومن يعمل إلى حين اقتراب موعد العشاء"، قبل أن يقول في لحظة صادمة: "لا نعرف ما هي لعبة كرة القدم!" .
بعيدا عن المنطقة، صادفنا محمد، ثمانيني أثقلته الأوجاع والهموم، يعيش جحيما لا يطاق بفعل الأمراض التي اخترقت جسده العليل، لتتحول حياته إلى دراما سوداوية، قائلا بصوت موجوع: "لا أنام كل ليلة.. يصل بي الأمر إلى الصراخ". نداء العجوز لم يلقَ آذانا صاغية، وحتى عند سماع هذه الكلمات التي يعتصر معها الفؤاد ألماً، فإن أي محاولات لإنقاذه لم تعد مُجدية، لأن الرجل قد توفي، للأسف، أياماً بعد زيارة هسبريس له.
تهميش لا يعترف بالزمن
كان النهار قد طلع منذ ساعات بحرارة مبكرة.. حوالي الساعة الثانية عشرة زوالا، شددنا الرحال صوب دوار "تالمست" الذي يبعد عن قرية "اسم السوق" بساعات عدة، على طول طريق جبلية صعبة يتم إعادة إصلاحها، بحيث يُدرك الزائر لهذه المنطقة منذ الوهلة الأولى حجم البؤس والشقاء الذي يتخبط فيه السكان، إذ يتجرعون مرارة العيش وصعوبته في ظل انعدام أدنى شروط العيش الكريم، ليتساءل معها الزائر عن دوافع حتمية زمن الانتظار الذي تعيشه قلعة النضال في انتظار أفق تنمية بعيدة المنال.
الخوف من المجهول يشحذ حواس السبعينية يْزَّة ويشحنها بأسوأ الاحتمالات، قائلة بصوت خفيض لاهث: "يُهاجر الرجال إلى المدن الكبرى، مثل الرباط والدار البيضاء وأكادير، فمن يتوفر على أي إمكانات مالية فإنه يرسل المساعدات إلى أسرته، ومن لا يستطيع فإنه يترك أبناءه يواجهون حتمية الموت".
وتابعت: "لا نتوفر على أي مستشفيات بالمنطقة.. تبقى المرأة الحامل مرمية في المنزل إلى أن يحين أجلها، فضلا عن انعدام الطرق خلال الثلوج، ما يحتّم على الأطفال الانقطاع عن الدراسة طوال تلك الفترة، نتيجة المسالك الوعرة والمحفرة؛ قهرتهم ظروف العيش القاسية، إذ يموت عشرات الأطفال كل سنة جراء الموت، في حالة لم يتم تخزين المؤونة الضرورية قبل حلول موسم الثلوج الذي يحاصر الدواوير الجبلية، دون إغفال المعلمين الذي يواجهون شبح الموت أيضا جراء غياب وسائل التدفئة".
كلمات يْزّة لم تشذّ عن السياق العام لشهادات أهالي دوار "تالمست"، فكل الشهادات تطفح ألما وربما حقدا تجاه ما أجمع السكان على اعتباره "تهميشاً" و"احتقاراً" لأهلها من قبل المسؤولين على مدى عقود من الزمن.
في هذا السياق، يقول إبراهيم، راعي غنم، "معضلتي الوحيدة هي العلف، بسبب قلة الأمطار طوال السنة، حيث وصل سعره إلى نحو 350 درهما للقنطار الواحد".
ويمضي مسترسلا بلكنته الأمازيغية القحّة: "لقد تأثرنا كثيرا بقلة الأمطار في الحقيقة؛ لأن مدخولنا رهين بما نُدره من بيع الأغنام، وهي الحرفة الوحيدة التي نتقنها في المنطقة، حيث تحولت إلى مهنة متوارثة بين العائلة"، مردفا: "نطالب بإحداث مستشفى في المنطقة أو أي مصلحة للتطبيب".
أوضاع قديمة.. جديدة
أمام غياب سيارات الإسعاف في دوار "تالمست"، وكذلك صعوبة وصولها إلى المنطقة خلال فترة الشتاء التي تشهد ظروفا مناخية صعبة للغاية، يستعين السكان بالنعوش لحمل المرضى طوال طريق ممتدة على آلاف الكيلومترات، وما يُرافق ذلك من خطر موت الجميع، لأن العملية قد تستغرق ساعات عديدة وسط الثلوج.
"كنت قد عدت إلى المنزل في حوالي الساعة الرابعة زوالا، لكنني أحسست بآلام شديدة تعتصر جسدي خلال الليل، ما أجبرني على لزوم الفراش لمدة لا تقل عن ثلاثة أيام، لنقوم باستدعاء سيارة الإسعاف التي لم تستطع الوصول إلينا، لأن علو الثلج تجاوز المتر والنصف.. كنت شبه ميت في البيت، لولا مساعدة أزيد من 23 شخصا حملوني على النعش"، بهذه الكلمات حدّثنا إسماعيل جابر.
ويضيف الشاب العشريني، الذي أشرف بنفسه على تشييد الطريق المؤدية إلى دواره، في ظل "استقالة" السلطات المحلية عن أداء أدوارها، قائلا: "لا نتوفر على أي مستشفى محلي.. حينما يمرض شخص من الدوار، يجب أن نقطع ما يزيد عن 75 كيلومترا لإيصاله إلى المستشفى الإقليمي، فلتتصورا الأمر في أذهانكم فقط!".
ويختم حديثه مع جريدة هسبريس بالقول: "أوضاع التعليم مأساوية أيضا، لأن التلميذ يجب أن يقطع ستة كيلومترات لبلوغ المدرسة القروية، أي ما يعادل ساعتين من الزمن، فيكف يمكن لطفل صغير أن يذهب إلى المدرسة بالله عليكم؟". ما ذهب إليه محدثّنا لم يكن محض رأي شخصي بقدر ما كان خلاصة لقاءات عديدة جمعتنا بالعشرات من أهالي الدوار.
على مقربة من إسماعيل، اقترب منّا رجل يدعى محمد الخنفر، مُعاتبا المنتخبين المحليين بلهجة شديدة: "لا نرى المرشحين سوى في وقت الانتخابات.. لم نرهم أبدا منذ ذلك الوقت، أي كل خمس سنوات"، مردفا: "يعيش السكان مشاكل عويصة تستدعي تدخل الدولة لإنهائها في أقرب وقت".
ما هي المشاكل التي تؤرق الساكنة؟ سؤال طرحناه على الخنفر، فكان بمثابة القطرة التي أفاضت كأس الصبر: "يهاجر أزيد من خمسين في المائة من سكان الدوار، رغم المؤهلات الطبيعية الرائعة التي نتوفر عليها. لا يمكن الإحساس بمشاعرنا حينما يهمّ أحد جيرانك الذي كبرت معه بالهجرة.. يمكن اعتباره ميّتا منذ لحظة رحيله، لا يسعك سوى دفن ذكرياته، حتى البكاء لم يعد يريحنا"، يتحدث بنبرة يغلب عليها الألم.
ويضيف: "نواجه مشاكل متعددة المجالات؛ من قبيل الصحة والتعليم والبنيات التحتية والفلاحة وغيرها، بل حتى المسالك الطرقية نقوم بتشييدها بأنفسنا، إلى جانب الطريق الجبلية الرئيسية التي أنجزها الاستعمار الفرنسي فقط. كما أن التلاميذ يتابعون دراستهم في مؤسسة شُيدت منذ 1986، تبعد عنا بنحو ساعتين، ما يستدعي على الأم مرافقة ابنها الصغير الذي قد يتعرض لخطر الكلاب الضالة".
نساء كَسرْن الحِصار الطبيعي
كانت هذه آخر كلمات ساكنة "تالمست" بزاوية أحنصال، قبل أن نغادرها ونشد الرحال صوب دوار "تيميت" بآيت بوكماز، بعدما بدأ الظلام يستوي على المكان، وفي الذهن تجول أسئلة حائرة لم نجد لها إجابات شافية، في انتظار وصول قطار التنمية للخروج من أنقاض الحرمان والخصاص.
فاطمة، تقطن في القرية المدفونة وسط أعالي جبال الأطلس، تحكي عن تمفصلات أيامها بالقول: "أستيقظ كل صباح، حيث أقوم بتسخين المياه وأعمل على إعداد الخبز، ليتم بعدها تنظيف المنزل والتفرغ لصنع الصوف. حينما يحل النهار، أعمد إلى جمع الحطب وإشعال النار لتحضير الخبز وهكذا دواليك".
وتتابع: "ما أتحصل عليه من موارد مالية، نتيجة صناعة الصوف، أصرفه على أبنائي الذين يتابعون دراستهم؛ لكنهم لا يتقاضون أي دعم أو منحة مالية لمساعدتنا على تكفل أعباء الدراسة، بل إننا نقترض من الناس من أجل تأدية واجبات النقل المدرسي الذي يصل سعره إلى 110 دراهم".
فعلا ما أشبه اليوم بالأمس كما يقال، فكل شيء ينطق بالأسى. وبين هذه الصور الممزوجة بغيض المتساكنين وغضبهم الجارف ينقاد بصرك إلى تعاونيات فلاحية صغيرة تحدت تلك العوامل مجتمعة.
وعلى الرغم من الظروف القاسية التي تكابدها نساء المنطقة، فإنهن استطعن تحدي الحصار الطبيعي، حيث عملن على إنشاء تعاونيات فلاحية صغيرة من أجل كسب قوتهن اليومي، لا سيما أن آيت بوكماز يتوافد عليها السياح الأجانب لممارسة هواية تسلق الجبال؛ لكن قلة الدعم المالي يُجهض العديد من المشاريع الذاتية.
تعاونيات تبوح ببعض أسرارها
فاطمة أمزين، صاحبة تعاونية تدعى "ثلاتين"، متخصصة في صناعة الزرابي والأعمال اليدوية، تورد بأن "النساء عاطلات عن العمل في الدوار، مقابل تنامي رغبات الاستهلاك وتزايد مصاريف العيش، ما يُحتم عليهن ضرورة البحث عن مورد رزق. من هنا جاءت فكرة تأسيس التعاونية".
وتشدد، في حديثها مع هسبريس، على أن "معظم أزواج نساء التعاونية لا يتوفرون على أي مدخول شهري قار، بحيث يشتغلون في مهن البناء ورعي الغنم وبعض المناسبات فقط، ما يدفع النساء إلى مضاعفة عملهن للحصول على المزيد من الموارد المالية، حتى يساعدن أزواجهن في الحياة المعيشية".
وبخصوص مشاركتها في المعارض السياحية، ترى المتحدثة أنها "شاركت في معرض وحيد بمدينة بني ملال ذات سنة، لكنها لم تقم ببيع أي منتوج، كما تمت المناداة علينا في معرض آخر بمدينة أكادير، لكننا لم نستجب للدعوة، نتيجة بُعد المدينة وغياب مصاريف التنقل".
مليكة واخومي، مؤسسة تعاونية "تيكينيوين" التي نشأت سنة 2007، قالت إن الجمعية "تشتغل على مشتقات الكركاع والحليب والتفاح وزراعة الزعفران، علما أنها أول تعاونية نسوية تتأسس بمنطقة آيت بوكماز برمتها، حيث نحقق نتائج إيجابية من سنة إلى أخرى، فبعدما بدأنا بعشر نساء وصل عددنا حاليا إلى 33 امرأة".
وتبرز المتحدثة أن "التعاونية تعاني من ضيق المقر، ما يُحتم ضرورة إيجاد وحدة ملائمة لجودة المنتج، وكذلك إشكالية النقل؛ لأن بعض العاملات يتحدرن من مناطق أخرى، على اعتبار أن المنطقة مترامية الأطراف"، معتبرة أن "التعاونية لا تجد أي مشكل في التسويق، لأن المنطقة تمتاز بالسياحة الأجنبية".
"نشارك في المعارض ونبيع أيضا في المدن الكبرى، لأن المعرض بالنسبة إلي وسيلة لإشهار المنتج والمنطقة فقط، إلى درجة أننا نتوصل بطلبات لا نستطيع توفيرها بسبب ضيق المقر، ما يجعلنا لا نوجد كثيرا في المكان"، بتعبير واخومي، مشيرة إلى كونها "اشتغلت في المجال منذ 2002، حيث استفادت من تجارب الآخرين قبل إحداث التعاونية، كما ساعدتني منظمة فرنسية في مجال التسيير المالي والإداري ودراسة السوق".
عوز تسويق المؤهلات السياحية والفلاحية
جماعة "تبانت" التابعة لمنطقة آيت بوكماز ليست غريبة على مسامعنا، لأنها كانت تحتضن أول مركز للسياحة في شمال إفريقيا، خُصّص أساسا لتخريج أفواج من المرشدين السياحيين بعدما تبنّته جمعية فرنسية، لكن جرى إغلاقه فيما بعد، حيث أحدثت الدولة مركزا آخرا للتكوين المهني في مدينة ورزازات.
في هذا السياق، يورد محمد أيت أزروال، طالب جامعي عاطل عن العمل في الدوار، أن "السياحة تراجعت قليلا بسبب النهج الخاطئ الذي سارت عليه الوزارة الوصية على القطاع في السنوات الماضية، ولا يمكن تفسير التراجع بعوامل البيئة أو التموقع الجغرافي أو الساكنة، بل الأمر مرده إلى المنطق الجديد للخدمات السياحية القائم على الكماليات".
ويضيف محمد: "تم الاستغناء عن السياحة الجبلية، بفعل إيلاء الوزارة الأولوية للسياحة الشاطئية عوض الجبال، الأمر الذي جعلها تفقد بريقها في السنوات الأخيرة، على أساس أن المركز السياحي الفرنسي السابق كان يُكون الشباب في مهن عدة؛ منها تربية النحل، والنجارة، والإرشاد والجبلي واللائحة طويلة"، داعيا المسؤولين إلى استغلال الموارد الطبيعية للترويج للمنطقة.
على غرار المشاكل السياحية بدوار "تيميت"، يشكو الفلاحون في دوار "آيت زيري" من انعدام الدعم المالي من قبل الوزارة الوصية على القطاع، نتيجة ارتفاع أسعار الأسمدة والأدوية المخصصة لمحاربة الحشرات التي تُتلف محاصيلهم الزراعية، إلى جانب مشاكل التسويق الخارجي بسبب الطرق الجبلية المحفرة.
هكذا، يُصرح رشيد أحنصال، فلاح في القرية، بقوله: "حصلنا على بعض الأشجار من قبل جمعية في وقت سابق، لنقوم بزرعها بأنفسنا على أساس تأديتها لنسبة معينة"، مضيفا: "نعاني من معضلة التسويق بفعل صعوبة الطرق الجبلية، ما يستدعي إصلاح الطرقات حتى نتمكن من إيصال منتجاتنا إلى المدن الكبرى".
الزمن لم يرأف بوجوه ساكنة قرى أزيلال التي تعيش على وقع الذكريات.. ذكريات المحن والمواجع. على هذه المسالك الجبلية المهترئة، عزف الزمن سمفونية العذاب التي وقع الأهالي ضحيتها، ليُصبحوا بسببها فريسة لهواجس القلق، بعدما قذفت بهم العزلة الأزلية في غياهب النسيان، متسائلين بمرارة: "متى ينتهي هذا العذاب وتنْتهي معه مسيرة معاناة القرى الباكية؟".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.