الصيادلة يعودون للاحتجاج ويحملون الحكومة مسؤولية تهديد الأمن الدوائي    فتح الله ولعلو: المغرب والصين تقاسما شرف المساهمة في انتصار الحلفاء    السكتيوي: مباراة الكونغو الديمقراطية ستكون قوية وفاصلة    بورصة البيضاء .. أقوى ارتفاعات وانخفاضات الأسبوع                    مريدو "البودشيشية" يؤكدون استمرار منير القادري على رأس الزاوية    الحرارة المفرطة تفاقم أزمة المياه بالمغرب.. حوض ملوية في وضع حرج    صفقتان لتأهيل مطاري تطوان والحسيمة استعدادًا لكأس العالم 2030    حموني: سنة 2026 ستكون "بيضاء" على مستوى إصلاح أنظمة التقاعد والمقاصة    بالسجادة الحمراء .. ترامب يتيح لبوتين عودة لافتة إلى الساحة الدبلوماسية    شركة غوغل تطرح أداة جديدة لحجز رحلات منخفضة التكلفة بالذكاء الاصطناعي    برنامج "نخرجو ليها ديريكت" يناقش تحديات الدخول السياسي والاجتماعي المقبل    بوليف: التحويلات المالية لمغاربة العالم ينبغي ترشيد استثمارها ويجب إشراك الجالية في الانتخابات التشريعية    لفتيت يقضي عطلته بمراكش    طنجة تتصدر الوجهات السياحية المغربية بارتفاع 24% في ليالي المبيت    أسعار النفط تسجل خسائر أسبوعية    تغيرات متوقعة في طقس السبت بعدد من مناطق المملكة    اتلاف كمية من الفطائر (السفنج) الموجة للبيع في الشواطئ لغياب معايير الصحة    منظمة الصحة العالمية تحذر من استمرار تدهور الوضع العالمي للكوليرا    ابتكار أول لسان اصطناعي قادر على استشعار وتمييز النكهات في البيئات السائلة    في بلاغة الغياب وحضور التزييف: تأملات في بيان حزب الأصالة والمعاصرة بالعرائش !    عادل شهير يوقع أحدث أعماله بتوقيع فني مغربي خالص    ملتقى الثقافة والفنون والرياضة يكرم أبناء الجالية المغربية بمسرح محمد الخامس بالرباط    كيف أنسى ذلك اليوم وأنا السبعيني الذي عايش ثلاثة ملوك    غاب عن جل الأحزاب    أوجار: مأساة "ليشبون مارو" رسالة إنسانية والمغرب والصين شريكان من أجل السلام العالمي    تطوان تحتضن انطلاقة الدورة الثالثة عشرة من مهرجان أصوات نسائية    السكتيوي: مواجهة الكونغو حاسمة وفرصة لإثبات جاهزية المنتخب المحلي    سفارة الصين بالرباط تحتفي بالذكرى الثمانين لانتصار الحلفاء بعرض وثائقي صيني    الواحدي يقود جينك للفوز بثنائية في الدوري البلجيكي    النصر يعلن ضم كومان من بايرن ميونخ حتى 2028    طلبة الأقسام التحضيرية يلوحون بالاحتجاج رفضا لطريقة توزيع مقاعد مدارس المهندسين    صحيفة أرجنتينية تسلط الضوء على عراقة فن التبوريدة في المغرب    "الغارديان": هل مهد الإعلام الألماني الطريق لقتل الصحفيين الفلسطينيين في غزة؟    فوز مثير لليفربول على بورنموث برباعية في مستهل المشوار بالدوري الإنجليزي    مشروع قانون يثير الجدل بالمغرب بسبب تجريم إطعام الحيوانات الضالة    النقابات تستعد لجولة حاسمة من المفاوضات حول إصلاح نظام التقاعد    الدفاع الحسني الجديدي لكرة القدم يختم موسمه الرياضي بعقد الجمع العام العادي    مأساة وادي الحراش في الجزائر... دماء الأبرياء تكشف كلفة سياسات عبثية    راب ستورمي وحاري في "رابأفريكا"    دورة سينسيناتي لكرة المضرب: الكازاخستانية ريباكينا تتأهل لنصف النهاية على حساب بسابالينكا    زيلينسكي يلتقي ترامب في واشنطن    كيوسك السبت | البطاطس المغربية تعود بقوة إلى الأسواق الدولية في 2025    موسم مولاي عبد الله... تكدّس، غياب تنمية، وأزمة كرامة بشرية    نائبة رئيس محكمة العدل الدولية: الرب يعتمد عليّ للوقوف إلى جانب إسرائيل    كينيدي يخوض معركة جديدة ضد صناعة المكملات الغذائية في أمريكا    القصر الكبير: التنسيقية الجمعوية المحلية تدق ناقوس الخطر حول الوضع البيئي المقلق بالمدينة    الحكومة تراهن على "التوازن" بين رعاية الحيوانات الضالة والأمن العام    اختتام المؤتمر العالمي الخامس للتصوف بفاس بإعلان تأسيس "التحالف العالمي لأهل التصوف"    "كارثة طبية" أدت لوفاة العشرات في الأرجنتين    "بعيونهم.. نفهم الظلم"    بطاقة «نسك» لمطاردة الحجاج غير الشرعيين وتنظيم الزيارات .. طريق الله الإلكترونية    هنا جبل أحد.. لولا هؤلاء المدفونون هنا في مقبرة مغبرة، لما كان هذا الدين    الملك محمد السادس... حين تُختَتم الخُطب بآياتٍ تصفع الخونة وتُحيي الضمائر    المغاربة والمدينة المنورة في التاريخ وفي الحاضر… ولهم حيهم فيها كما في القدس ..    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قرى "باكِية" في أزيلال تعيش على مواجع الماضي ومِحن الحاضر

قرى تعيسة تحتضر وسط أعالي جبال أزيلال، محكومة بدائرة من المأساة والوجع، تعيش على الترقب والانتظار مع تناسل أحلام الناس والمطامح الآخذة في الكبر؛ ما جعل الساكنة معزولة عن كل أشكال التمدن، لتغرق بذلك في مأساة اجتماعية يستحيل وصف بشاعتها.
تنظر أمامك فتُطالعك وجوه كئيبة حزينة، تختزن بين تجاعيدها حكايات قرى تصرخ بالإهمال.. تجول بعينيك فيرتد البصر خائبا وهو حسير من فرط الوجع الذي يستبد بالمنطقة، التي تخيّم عليها رائحة التهميش التي تنبعث على بُعد كيلومترات من جبال أزيلال الشاهقة، نتيجة الحصار الطبيعي الذي جعلها خارج الزمن الإنساني.
أنت هنا.. في قرى تاريخية مهمشة على مدى ارتفاع يفوق ال3000 متر، تربعت في نخوة وشموخ على تلك المرتفعات الخالدة التي شهدت معارك ضارية خاضها أبناء المنطقة من أجل نيل الحرية، التي لطالما كانت رديفا للإنسان الأمازيغي، لتكتب بذلك جزءا من التاريخ التليد للمغرب بالدم.
لكن موكب الزمان يمر بجانبها، فلم يلتفت إليها بجديد أو تجديد، إذ تغير السكان وتغيرت حياتهم، لكن القرى لم تتغير أبدا، لأن كلمة "التهميش" تتطاير من كل الأفواه في تلك المناطق.
شقت هسبريس جبال أزيلال، وحطت الرحال في مجموعة من الدواوير القروية، هي"اسْم السوق" ودوار "تالمست" التابعين لجماعة "زاوية أحنصال"، ثم دوار "تيميت" ودوار "آيت زيري" بجماعة "تبانت" في منطقة آيت بوكماز.
أوجاع الماضي ومأساة الحاضر
على بُعد ثمانين كيلومتراً من إقليم أزيلال، تنتصب قرية "اسم السوق" بتضاريسها الجبلية القاسية، التي تنوء بأوجاع تاريخ مفعم بالكفاح ضد المستعمر الفرنسي وحاضر يستبد به التهميش والفقر والجوع. اذخرهم القدر للنضال فقط، فبعدما عاشوا ويلات الاستعمار لا يعرفون حاليا سوى المزيد من البؤس الشديد، مُقدَّمون دائما في النضال ومؤخرون في الاستفادة من الثروات الطبيعية للبلد.
لقد تحالفت الظروف الطبيعية القاسية، وتجبّر أعوان السلطة ضد كرامة الإنسان الأمازيغي القابع في التهميش المُتوارث، وضاق أفق الاختيارات، فلم يتبق سوى أمرين: انتظار مساعدات شحيحة من قبل الدولة، أو الهجرة إلى ما وراء الجبال بحثاً عن حياة أفضل.
يْشّو، خمسيني، أحد سكان المنطقة، يعترمه غضب شديد من غياب المدارس بالمنطقة، قائلا بلهجة ملؤها السأم: "يضطر أبناؤنا إلى قطع أزيد من خمسة كيلومترات بصفة يوميا، وحينما ينسدل الظلام فإن أطفالنا قد يتيهون بين مرتفعات الجبال أو يتعرضون لأي مكروه"، مسترسلا: "لما تتساقط الثلوج ينقطع التلاميذ عن المدرسة لمدة تتجاوز ال15 يوما".
ويضيف يْشو، في حديثه لهسبريس، "لا نتوفر على المدارس اللازمة.. كلّ ما يروج في الإعلام العمومي بخصوص المدارس القروية مجرد إشاعات واهية، دون إغفال المستشفيات العمومية الغائبة أيضا في المنطقة، فحينما يسقط شخص ما طريح الفراش فمن المحتمل جدا أن يموت وسط مرتفعات الجبال، بسبب المسالك الوعرة، بل الأكثر من ذلك فرضت علينا البطالة الإجبارية، إذ لا نتوفر على ما نُطعم به أطفالنا".
للوصول إلى دوار "اسم السوق" عليك المرور من طريق ضيقة محفرة طوال ساعات، صعودا عبر مسالك جبلية تشق في التواءاتها الكثيرة غابة شاسعة تبدو بمنتهى الروعة على اليمين والشمال؛ لكن القرية طالها النسيان وسيطر عليها التهميش، وأي وصف سوداوي يخطر على بالك يمكن أن ينطبق على تلك التضاريس الوعرة.
في هذا الصدد، يورد الطفل عمر، (16 سنة)، بعض شذرات حياته اليومية في الدوار، "نعاني كثيرا في وقت البرد، بحيث تتحول المنطقة إلى ثلاجة متجمدة؛ ذلك أن المدارس لا تتوفر على أي وسيلة للتدفئة، إلى جانب غياب وسائل النقل الدائمة.. تفترق العائلة في الصباح الباكر، بين من يذهب للمدرسة ومن يجمع الحطب ومن يعمل إلى حين اقتراب موعد العشاء"، قبل أن يقول في لحظة صادمة: "لا نعرف ما هي لعبة كرة القدم!" .
بعيدا عن المنطقة، صادفنا محمد، ثمانيني أثقلته الأوجاع والهموم، يعيش جحيما لا يطاق بفعل الأمراض التي اخترقت جسده العليل، لتتحول حياته إلى دراما سوداوية، قائلا بصوت موجوع: "لا أنام كل ليلة.. يصل بي الأمر إلى الصراخ". نداء العجوز لم يلقَ آذانا صاغية، وحتى عند سماع هذه الكلمات التي يعتصر معها الفؤاد ألماً، فإن أي محاولات لإنقاذه لم تعد مُجدية، لأن الرجل قد توفي، للأسف، أياماً بعد زيارة هسبريس له.
تهميش لا يعترف بالزمن
كان النهار قد طلع منذ ساعات بحرارة مبكرة.. حوالي الساعة الثانية عشرة زوالا، شددنا الرحال صوب دوار "تالمست" الذي يبعد عن قرية "اسم السوق" بساعات عدة، على طول طريق جبلية صعبة يتم إعادة إصلاحها، بحيث يُدرك الزائر لهذه المنطقة منذ الوهلة الأولى حجم البؤس والشقاء الذي يتخبط فيه السكان، إذ يتجرعون مرارة العيش وصعوبته في ظل انعدام أدنى شروط العيش الكريم، ليتساءل معها الزائر عن دوافع حتمية زمن الانتظار الذي تعيشه قلعة النضال في انتظار أفق تنمية بعيدة المنال.
الخوف من المجهول يشحذ حواس السبعينية يْزَّة ويشحنها بأسوأ الاحتمالات، قائلة بصوت خفيض لاهث: "يُهاجر الرجال إلى المدن الكبرى، مثل الرباط والدار البيضاء وأكادير، فمن يتوفر على أي إمكانات مالية فإنه يرسل المساعدات إلى أسرته، ومن لا يستطيع فإنه يترك أبناءه يواجهون حتمية الموت".
وتابعت: "لا نتوفر على أي مستشفيات بالمنطقة.. تبقى المرأة الحامل مرمية في المنزل إلى أن يحين أجلها، فضلا عن انعدام الطرق خلال الثلوج، ما يحتّم على الأطفال الانقطاع عن الدراسة طوال تلك الفترة، نتيجة المسالك الوعرة والمحفرة؛ قهرتهم ظروف العيش القاسية، إذ يموت عشرات الأطفال كل سنة جراء الموت، في حالة لم يتم تخزين المؤونة الضرورية قبل حلول موسم الثلوج الذي يحاصر الدواوير الجبلية، دون إغفال المعلمين الذي يواجهون شبح الموت أيضا جراء غياب وسائل التدفئة".
كلمات يْزّة لم تشذّ عن السياق العام لشهادات أهالي دوار "تالمست"، فكل الشهادات تطفح ألما وربما حقدا تجاه ما أجمع السكان على اعتباره "تهميشاً" و"احتقاراً" لأهلها من قبل المسؤولين على مدى عقود من الزمن.
في هذا السياق، يقول إبراهيم، راعي غنم، "معضلتي الوحيدة هي العلف، بسبب قلة الأمطار طوال السنة، حيث وصل سعره إلى نحو 350 درهما للقنطار الواحد".
ويمضي مسترسلا بلكنته الأمازيغية القحّة: "لقد تأثرنا كثيرا بقلة الأمطار في الحقيقة؛ لأن مدخولنا رهين بما نُدره من بيع الأغنام، وهي الحرفة الوحيدة التي نتقنها في المنطقة، حيث تحولت إلى مهنة متوارثة بين العائلة"، مردفا: "نطالب بإحداث مستشفى في المنطقة أو أي مصلحة للتطبيب".
أوضاع قديمة.. جديدة
أمام غياب سيارات الإسعاف في دوار "تالمست"، وكذلك صعوبة وصولها إلى المنطقة خلال فترة الشتاء التي تشهد ظروفا مناخية صعبة للغاية، يستعين السكان بالنعوش لحمل المرضى طوال طريق ممتدة على آلاف الكيلومترات، وما يُرافق ذلك من خطر موت الجميع، لأن العملية قد تستغرق ساعات عديدة وسط الثلوج.
"كنت قد عدت إلى المنزل في حوالي الساعة الرابعة زوالا، لكنني أحسست بآلام شديدة تعتصر جسدي خلال الليل، ما أجبرني على لزوم الفراش لمدة لا تقل عن ثلاثة أيام، لنقوم باستدعاء سيارة الإسعاف التي لم تستطع الوصول إلينا، لأن علو الثلج تجاوز المتر والنصف.. كنت شبه ميت في البيت، لولا مساعدة أزيد من 23 شخصا حملوني على النعش"، بهذه الكلمات حدّثنا إسماعيل جابر.
ويضيف الشاب العشريني، الذي أشرف بنفسه على تشييد الطريق المؤدية إلى دواره، في ظل "استقالة" السلطات المحلية عن أداء أدوارها، قائلا: "لا نتوفر على أي مستشفى محلي.. حينما يمرض شخص من الدوار، يجب أن نقطع ما يزيد عن 75 كيلومترا لإيصاله إلى المستشفى الإقليمي، فلتتصورا الأمر في أذهانكم فقط!".
ويختم حديثه مع جريدة هسبريس بالقول: "أوضاع التعليم مأساوية أيضا، لأن التلميذ يجب أن يقطع ستة كيلومترات لبلوغ المدرسة القروية، أي ما يعادل ساعتين من الزمن، فيكف يمكن لطفل صغير أن يذهب إلى المدرسة بالله عليكم؟". ما ذهب إليه محدثّنا لم يكن محض رأي شخصي بقدر ما كان خلاصة لقاءات عديدة جمعتنا بالعشرات من أهالي الدوار.
على مقربة من إسماعيل، اقترب منّا رجل يدعى محمد الخنفر، مُعاتبا المنتخبين المحليين بلهجة شديدة: "لا نرى المرشحين سوى في وقت الانتخابات.. لم نرهم أبدا منذ ذلك الوقت، أي كل خمس سنوات"، مردفا: "يعيش السكان مشاكل عويصة تستدعي تدخل الدولة لإنهائها في أقرب وقت".
ما هي المشاكل التي تؤرق الساكنة؟ سؤال طرحناه على الخنفر، فكان بمثابة القطرة التي أفاضت كأس الصبر: "يهاجر أزيد من خمسين في المائة من سكان الدوار، رغم المؤهلات الطبيعية الرائعة التي نتوفر عليها. لا يمكن الإحساس بمشاعرنا حينما يهمّ أحد جيرانك الذي كبرت معه بالهجرة.. يمكن اعتباره ميّتا منذ لحظة رحيله، لا يسعك سوى دفن ذكرياته، حتى البكاء لم يعد يريحنا"، يتحدث بنبرة يغلب عليها الألم.
ويضيف: "نواجه مشاكل متعددة المجالات؛ من قبيل الصحة والتعليم والبنيات التحتية والفلاحة وغيرها، بل حتى المسالك الطرقية نقوم بتشييدها بأنفسنا، إلى جانب الطريق الجبلية الرئيسية التي أنجزها الاستعمار الفرنسي فقط. كما أن التلاميذ يتابعون دراستهم في مؤسسة شُيدت منذ 1986، تبعد عنا بنحو ساعتين، ما يستدعي على الأم مرافقة ابنها الصغير الذي قد يتعرض لخطر الكلاب الضالة".
نساء كَسرْن الحِصار الطبيعي
كانت هذه آخر كلمات ساكنة "تالمست" بزاوية أحنصال، قبل أن نغادرها ونشد الرحال صوب دوار "تيميت" بآيت بوكماز، بعدما بدأ الظلام يستوي على المكان، وفي الذهن تجول أسئلة حائرة لم نجد لها إجابات شافية، في انتظار وصول قطار التنمية للخروج من أنقاض الحرمان والخصاص.
فاطمة، تقطن في القرية المدفونة وسط أعالي جبال الأطلس، تحكي عن تمفصلات أيامها بالقول: "أستيقظ كل صباح، حيث أقوم بتسخين المياه وأعمل على إعداد الخبز، ليتم بعدها تنظيف المنزل والتفرغ لصنع الصوف. حينما يحل النهار، أعمد إلى جمع الحطب وإشعال النار لتحضير الخبز وهكذا دواليك".
وتتابع: "ما أتحصل عليه من موارد مالية، نتيجة صناعة الصوف، أصرفه على أبنائي الذين يتابعون دراستهم؛ لكنهم لا يتقاضون أي دعم أو منحة مالية لمساعدتنا على تكفل أعباء الدراسة، بل إننا نقترض من الناس من أجل تأدية واجبات النقل المدرسي الذي يصل سعره إلى 110 دراهم".
فعلا ما أشبه اليوم بالأمس كما يقال، فكل شيء ينطق بالأسى. وبين هذه الصور الممزوجة بغيض المتساكنين وغضبهم الجارف ينقاد بصرك إلى تعاونيات فلاحية صغيرة تحدت تلك العوامل مجتمعة.
وعلى الرغم من الظروف القاسية التي تكابدها نساء المنطقة، فإنهن استطعن تحدي الحصار الطبيعي، حيث عملن على إنشاء تعاونيات فلاحية صغيرة من أجل كسب قوتهن اليومي، لا سيما أن آيت بوكماز يتوافد عليها السياح الأجانب لممارسة هواية تسلق الجبال؛ لكن قلة الدعم المالي يُجهض العديد من المشاريع الذاتية.
تعاونيات تبوح ببعض أسرارها
فاطمة أمزين، صاحبة تعاونية تدعى "ثلاتين"، متخصصة في صناعة الزرابي والأعمال اليدوية، تورد بأن "النساء عاطلات عن العمل في الدوار، مقابل تنامي رغبات الاستهلاك وتزايد مصاريف العيش، ما يُحتم عليهن ضرورة البحث عن مورد رزق. من هنا جاءت فكرة تأسيس التعاونية".
وتشدد، في حديثها مع هسبريس، على أن "معظم أزواج نساء التعاونية لا يتوفرون على أي مدخول شهري قار، بحيث يشتغلون في مهن البناء ورعي الغنم وبعض المناسبات فقط، ما يدفع النساء إلى مضاعفة عملهن للحصول على المزيد من الموارد المالية، حتى يساعدن أزواجهن في الحياة المعيشية".
وبخصوص مشاركتها في المعارض السياحية، ترى المتحدثة أنها "شاركت في معرض وحيد بمدينة بني ملال ذات سنة، لكنها لم تقم ببيع أي منتوج، كما تمت المناداة علينا في معرض آخر بمدينة أكادير، لكننا لم نستجب للدعوة، نتيجة بُعد المدينة وغياب مصاريف التنقل".
مليكة واخومي، مؤسسة تعاونية "تيكينيوين" التي نشأت سنة 2007، قالت إن الجمعية "تشتغل على مشتقات الكركاع والحليب والتفاح وزراعة الزعفران، علما أنها أول تعاونية نسوية تتأسس بمنطقة آيت بوكماز برمتها، حيث نحقق نتائج إيجابية من سنة إلى أخرى، فبعدما بدأنا بعشر نساء وصل عددنا حاليا إلى 33 امرأة".
وتبرز المتحدثة أن "التعاونية تعاني من ضيق المقر، ما يُحتم ضرورة إيجاد وحدة ملائمة لجودة المنتج، وكذلك إشكالية النقل؛ لأن بعض العاملات يتحدرن من مناطق أخرى، على اعتبار أن المنطقة مترامية الأطراف"، معتبرة أن "التعاونية لا تجد أي مشكل في التسويق، لأن المنطقة تمتاز بالسياحة الأجنبية".
"نشارك في المعارض ونبيع أيضا في المدن الكبرى، لأن المعرض بالنسبة إلي وسيلة لإشهار المنتج والمنطقة فقط، إلى درجة أننا نتوصل بطلبات لا نستطيع توفيرها بسبب ضيق المقر، ما يجعلنا لا نوجد كثيرا في المكان"، بتعبير واخومي، مشيرة إلى كونها "اشتغلت في المجال منذ 2002، حيث استفادت من تجارب الآخرين قبل إحداث التعاونية، كما ساعدتني منظمة فرنسية في مجال التسيير المالي والإداري ودراسة السوق".
عوز تسويق المؤهلات السياحية والفلاحية
جماعة "تبانت" التابعة لمنطقة آيت بوكماز ليست غريبة على مسامعنا، لأنها كانت تحتضن أول مركز للسياحة في شمال إفريقيا، خُصّص أساسا لتخريج أفواج من المرشدين السياحيين بعدما تبنّته جمعية فرنسية، لكن جرى إغلاقه فيما بعد، حيث أحدثت الدولة مركزا آخرا للتكوين المهني في مدينة ورزازات.
في هذا السياق، يورد محمد أيت أزروال، طالب جامعي عاطل عن العمل في الدوار، أن "السياحة تراجعت قليلا بسبب النهج الخاطئ الذي سارت عليه الوزارة الوصية على القطاع في السنوات الماضية، ولا يمكن تفسير التراجع بعوامل البيئة أو التموقع الجغرافي أو الساكنة، بل الأمر مرده إلى المنطق الجديد للخدمات السياحية القائم على الكماليات".
ويضيف محمد: "تم الاستغناء عن السياحة الجبلية، بفعل إيلاء الوزارة الأولوية للسياحة الشاطئية عوض الجبال، الأمر الذي جعلها تفقد بريقها في السنوات الأخيرة، على أساس أن المركز السياحي الفرنسي السابق كان يُكون الشباب في مهن عدة؛ منها تربية النحل، والنجارة، والإرشاد والجبلي واللائحة طويلة"، داعيا المسؤولين إلى استغلال الموارد الطبيعية للترويج للمنطقة.
على غرار المشاكل السياحية بدوار "تيميت"، يشكو الفلاحون في دوار "آيت زيري" من انعدام الدعم المالي من قبل الوزارة الوصية على القطاع، نتيجة ارتفاع أسعار الأسمدة والأدوية المخصصة لمحاربة الحشرات التي تُتلف محاصيلهم الزراعية، إلى جانب مشاكل التسويق الخارجي بسبب الطرق الجبلية المحفرة.
هكذا، يُصرح رشيد أحنصال، فلاح في القرية، بقوله: "حصلنا على بعض الأشجار من قبل جمعية في وقت سابق، لنقوم بزرعها بأنفسنا على أساس تأديتها لنسبة معينة"، مضيفا: "نعاني من معضلة التسويق بفعل صعوبة الطرق الجبلية، ما يستدعي إصلاح الطرقات حتى نتمكن من إيصال منتجاتنا إلى المدن الكبرى".
الزمن لم يرأف بوجوه ساكنة قرى أزيلال التي تعيش على وقع الذكريات.. ذكريات المحن والمواجع. على هذه المسالك الجبلية المهترئة، عزف الزمن سمفونية العذاب التي وقع الأهالي ضحيتها، ليُصبحوا بسببها فريسة لهواجس القلق، بعدما قذفت بهم العزلة الأزلية في غياهب النسيان، متسائلين بمرارة: "متى ينتهي هذا العذاب وتنْتهي معه مسيرة معاناة القرى الباكية؟".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.