لمْ يكنْ في حاجة إلى تاريخ وفاة ولا إلى قبرٍ ليزوره الرّفاق والزّوارُ، ولا إلى جنازةٍ يمشي خلفها الماشونَ من الوطنِ كما الأعْداء. المهدي بن بركة، الرَّجل المسكونُ بحبّ الوطن، الطّامحُ إلى بناء دولة الحق والقانون، كانَ أستاذاً للرياضيات ودرّس الملك الرّاحل الحسن الثاني في المدرسة المولوية، فاختلفا معاً في إيجادِ حلّ لمعادلاتِ السّياسة والإصلاح الاقتصادي وشكل النّظام الأنسب في المغرب. من الاصْطدامِ مع الملك الرّاحل الحسن الثّاني إلى التّوافق مع رفاقه في الاتحاد الوطني للقوات الشعبية على ضرورة مواجهة النّظام بُغية إصْلاحه وتقويمهِ، ثمّ بعد ذلكَ إلى مرحلة النّفي القسري خارجَ الوطن، التي ستكون محطة فاصلة في مسار "شخصية في منتهى الحيوية والذّكاء، انطلقت من جُذورها الشعبية البسيطة، وارْتمت بكل عنفوانٍ في مسار قدرها، بسرعة، وتصميم، وبجرأة وانْدفاع جعلها تذهب من ميلادها إلى لحظة الأبدية المطلقة"، كما كتبَ الأديب المغربي محمّد الأشعري، ستنقلكم جريدة هسبريس إلى عوالم "بن بركة" كما رآها وعاش تفاصيلها الكاتب الصّحافي عبد اللطيف جبرو. سنحاولُ في هذا الجزء تتبّع النشاط الذي قام به المهدي على امتداد سنة، وهي سنة كانت حافلة بالأحداث وكان من الممكن أن تكون سنة الدخول الحقيقي في عهد الديمقراطية ودولة الحق والقانون بالمغرب، لكن خصوم الديمقراطية عمِلوا في 1962 و1963 كل ما في وسعهم لفرض نظامٍ بوليسي بالمغرب. عودة المهدي وصراعه مع الملك غادرَ القيّادي اليساري المهدي بن بركة المغرب قاصداًّ العاصمة الفرنسية باريس في يناير 1960. كان الصّراع على أشدّه بين الاتحاد الوطني للقوات الشّعبية وولي العهد الأمير مولاي الحسن، الذي كانَ يسْعى لتثبيتِ حكمه خاصة بعد إقالة حكومة عبد الله إبراهيم، وحصول القوات الشّعبية على انتصارات هائلة في الانتخابات المحلية والجهوية والمهنية في ماي 1960. لم يكنْ يرق لولي العهد هذا الانتصار الجارف لليساريين، فقد كان يخْشى تزايدَ قوّة الاتحاديين، وبالتّالي خسارة الرّصيد الشّعبي للملكية لصالحِ رفاق "المهدي". عودة المهدي بن بركة إلى المغرب كانت سنة 1962، أي بعد غيابٍ دام حوالي عامين ونصف العام في المنفى الاضطراري، وهي مدة عرفت فيها البلاد عدة تطورات؛ إقالة حكومة عبد الله ابراهيم، حصول حزب القوات الشعبية على انتصارات هائلة في الانتخابات الملحية والجهوية والمهنية (ماي 1960)، وفاة الملك محمد الخامس (1961) وانتهاء بالحرب بالجزائر (1962). وكتبت جريدة "التحرير"، لسان حال الاتحاد الوطني للقوات الشّعبية، في أعلى الصّفحة الأولى وداخل إطار على ثلاثة أعمدة: "سيصلُ الأستاذ المهدي بنبركة عضو الكتابة العامة للاتحاد الوطني للقوات الشعبية إلى مطار سلا صباح يوم الثلاثاء القادم على الساعة الثامنة آتياً من سويسرا عن طريق الجو". اغتيال ولي العهد يحكي الصّحافي المغربي عبد اللطيف جبرو في كتابه "المهدي بن بركة في الرباط" قائلا: "كانت عودة المهدي أمرا وارداً منذ أن غادر المغرب في يناير 1960، ولكن كلما امتدت إقامته في الخارج كان قرار عودته يزداد صعوبة بالنظر إلى تطور الأوضاع الداخلية بالمغرب، وهي أوضاع لم تكن تسير في اتجاه الانفراج بعد التوتر الذي عرفته الحالة بالمغرب سنة 1959". وعلى إثر وفاة محمد الخامس، تراءت لقادة الاتحاد إمكانية عودة بن بركة، وخاصة بعد مبادرته المتمثلة في برقية التعزية إلى الحسن الثاني في وفاة والده وتهنئته على تولي العرش. وبقي قرار العودة موكولاً إلى المهدي بن بركة "لأن رفاقه في القيادة كانوا يقدرون جسامة "المنعطف" ويعتبرون أن عودته إلى أرض الوطن تتطلّب ما يكفي من التّروي". لم تكن الظّروف السّياسية مواتية لضمان عودة مُعارضٍ شرسٍ انتقلَ نضالهُ ضدّ الاستبداد والدّيكتاتورية من المغرب إلى ردهات مؤتمرات باريسوسويسراوالقاهرة. فتجربة اعتقال محمد البصري وعبد الرحمن اليوسفي، باعتبار الأول مدير جريدة "التحرير" والثاني رئيس قلم تحريرها، بتهمة القذف في المقدسات ومحاولة اغتيال ولي العهد الحسن الثّاني، كانت مازالت حاضرةً في الأذهان. بالإضافة إلى مسؤولية اليوسفي والبصري في جريدة "التحرير" وفي قيادة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، فهما قبل كل شيء من قادة حركة المقاومة والتحرير. وبحسب شهادات جبرو، "امتدت حملة الاعتقالات لتشمل في يناير 1960 العشرات من رفاقهما في المقاومة وجيش التحرير، ولكن التهمة لم تبق بالنسبة لهؤلاء مجرد مس المقدسات، بل قيل إن الدّرك الملكي اكتشفَ محاولة لاغتيال ولي العهد الأمير مولاي الحسن". كل هذه الأشياء انتهت أو كادت أن تنتهي مع نهاية ماي 1960، حيث أصدر قاضي التحقيق لدى المحكمة الإقليمية بالرباط قراراً بعدم متابعة عبد الرحمان اليوسفي. ورغم أن محمد البصري اعتقل بالتهمة نفسها، فإنه لم يخرج من سجن لعلو بقرار عدم المتابعة، بل خرج بعد عفو ملكي صدر بمناسبة عيد الأضحى. خرج الفقيه رفقة رفاقه رجال المقاومة الذين كان الدرك الملكي قد وجه إليهم تهمة خطيرة. حدث آخر كان له وقعٌ كبير على تسلسل الأحداث يتجلى في تزامن عودة المهدي مع تفكيك السّلطة الحاكمة في المغرب جيش التّحرير الذي كان مرابطاً على حدود الصحراء التي تحتلها إسبانيا في الساقية الحمراء ووادي الذهب، وتخلى المغرب والحالة هذه عن واحدة من أهم أوراق معركة الوحدة الترابية للمملكة. ومع إقالة حكومة عبد الله ابراهيم وعبد الرحيم بوعبيد، عادَ الرجلان لممارسة دورهما في قيادة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، بينما أصبح الملك محمد الخامس رئيس الحكومة وولي عهده الأمير مولاي الحسن نائباً لرئيس مجلس الوزراء في الحكومة التي تم تنصيبها يوم الخميس 26 ماي 1960. بن بركة يراسلُ الحسن الثّاني بعد وفاة الملك محمد الخامس يوم الأحد 26 فبراير 1961، تربّع الأمير الحسن الثاني على العرش العلوي وأصبح بالتالي رئيسا للحكومة، فبعث له المهدي بنبركة برقية تعزية وتهنئة من العاصمة الفرنسية باريس. يحكي جبرو بخصوص هذه النقطة أنّ "المهدي بن بركة كان أكثر القادة الوطنيين الذين ظلوا على علاقات متينة بالأمير مولاي الحسن، سواء في فترة الكفاح من أجل تصفية الاستعمار أو خلال السنوات الأولى من عهد الاستقلال... ولكن لم يسبق أن حدث لقاء أو اتصال مباشر ما بين الأمير مولاي الحسن بصفته الملك الحسن الثاني وبين المهدي بن بركة". ظلّت أواصر التّرابط قوية بين الملك ومن كان أستاذا له بالمدرسة المولوية. ويحكي جبرو أنّ "السّي المهدي سبق له مثلا أن التقى في القاهرة أحد قدماء أصدقائه الرباطيين الذين كان في مهمة رسمية بالعاصمة المصرية بوصفه عضواً بالديوان الملكي في مطلع سنة 1962". ويسترسلُ جبرو: "على مائدة غداء جمعتهما بأحد المطاعم المصرية، طلب السي المهدي من صديقه القديم بأن يحمل رسالة إلى مولاي الحسن مفادها أن المغرب غائب في الساحة الإفريقية وهذا خطر على مستقبل مكانة بلادنا وإشعاعها، ولهذا يجب تدارك الموقف لضمان حضور حقيقي للمغرب في القارة". كما أوصى بن بركة الحسن الثّاني بمراجعة علاقة المغرب مع باريس، بحيثُ "لا يجب أن تبقى على الوضع الذي يترك لفرنسا ممارسة المزيد من الهيمنة على بلادنا، كما لا يعقل أن تبقى علاقات الرباط بمدريد في حالة لا هي زواج ولا هي بالطلاق". ونقل جبرو انطباع الحسن الثّاني من فحوى رسالة المهدي التي بعث بها إليه من القاهرة، حيث يقال بأن تعليقه جاء فيه أن "المهدي بن بركة ليس خاطئا بصفة كاملة ومطلقة، وليس كذلك على صواب بصفة كلية". "المهم هو القيام دائما وفي كل الظروف بأية مبادرة يرى أنها تساير تصوره للمكانة التي يجب أن تجعل المغرب قويا وله ما يكفي من الإشعاع في الداخل والخارج" يضيف جبرو. وهكذا، سواء كان السي المهدي قريبا من أجهزة الدولة أو جعلته الظروف السياسية بعيداً عن مراكز القرار، وسواء كان في الوطن أو خارج البلاد، ففكره ينصبُّ دائماً على ضمان مناعة الوطن. ولم يتردّد بن بركة في تقديم مقترحاته للعاهل المغربي الرّاحل الحسن الثاني كلّما كانت الفرصة متاحة له. ولا أحد يعرف بالضبط إلى أي حد كان يمكن أن تكون هناك علاقة لما قاله المهدي في القاهرة بشأن إسبانيا بمبادرة للعاهل المغربي جعلته يتوقف بمطار باراخاس لما كان عائداً من باريس حيث كان اللقاء الثاني الذي جمعه بالجنرال ديغول بعد انتهاء الحرب بالجزائر؟ ففي يوم السبت 6 يوليوز 1963، يكشف جبرو أن الحسن الثاني اجتمع مع الجنرال فرانسيسكو فرانكو كبداية لمحاولة سياسية ترمي إلى قيام توازن في العلاقات بين باريس ومدريد. "الفديك" لترسيخِ قوة "القصر" بعد عشرة أيّام من عودته، جلسَ وسط إخوانه في قيادة الاتحاد الاشتراكي بمنصة رئاسة المؤتمر الوطني الثاني، الذي بدأ أشغاله تحت شعار "المغرب العربي"، قبل أسابيع معدودة من إجراء شكليات الاستفتاء الذي أدّى إلى إعلان استقلال الجزائر. رافق حزب الاستقلال الاتحاد الوطني للقوات الشعبية إلى المعارضة، ولم يبق محسوباً على "مكونات المخزن"، لأنّ الدولة أرادت أن يكون لها حزب من صنع القطاع العام السياسي، وهذا ما دفع الوزراء إلى تأسيس حزب خاصٍ بهم اسمه "الفديك"، أو جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية، التي فازت بالأغلبية في البرلمان بعد انتخابات الجمعة 17 ماي 1963. لكن هذا الانتصار، يسردُ جبرو، لم يشفِ غليل أصحاب الحل والعقد فاتخذوا كل الإجراءات ليكون الانتصار 100% في كل الانتخابات الأخرى، ولتصبح كل البلديات والغرف المهنية وكذا مجلس المستشارين تحت مراقبة جهاز الدولة من خلال حزب الدولة، فعرف المغرب جواً من الرعب والإرهاب لإحداث فراغ سياسي تقوم الدولة بسده بواسطة الفديك". في هذه الأجواء، غادر المهدي بنبركة المغرب مرة أخرى يوم 15 ماي 1963 بعد أن بقي فيه مدة ثلاثة عشر شهراً.