إعادة رسم قواعد اللعبة السياسية من خلال الضبط الصارم وتشديد الرقابة الرقمية وتوسيع دائرة العقوبات    التقدم والاشتراكية: البلورة الفعلية للحُكم الذاتي في الصحراء ستفتح آفاقاً أرحب لإجراء جيلٍ جديدٍ من الإصلاحات    تفكيك شبكة إجرامية تهرّب الحشيش من المغرب إلى إسبانيا بواسطة طائرات مسيّرة    للا زينب تترأس حفل توقيع اتفاقية شراكة لدعم البرنامج الاستراتيجي للعصبة المغربية لحماية الطفولة    بعد ضغط أوربي... تبون يعفو عن الكاتب الجزائري الفرنسي بوعلام صنصال        البواري يتفقد الفلاحة ببنسليمان والجديدة    عامل إقليم الحسيمة يترأس لقاء تشاورياً حول برامج التنمية الترابية المندمجة (فيديو)    بنكيران يدعو لدعم إمام مغربي حُكم بالسجن 15 عاما في قضية "صامويل باتي"    أشبال الأطلس يرفعون التحدي قبل مواجهة أمريكا في مونديال الناشئين    الحكم الذاتي: من الإقناع إلى التفاوض إلى التطبيق ..    مدرب مالي: حكيمي لاعب مؤثر وغيابه مؤسف للمغرب    توقيع اتفاقية شراكة بالرباط للنهوض بالثقافة الرقمية والألعاب الإلكترونية    الرباط.. إطلاق النسخة الثالثة من برنامج "الكنوز الحرفية المغربية"    عجز في الميزانية يقدر ب55,5 مليار درهم عند متم أكتوبر المنصرم (خزينة المملكة)    فاجعة خريبكة.. بطلة مغربية في رفع الأثقال بنادي أولمبيك خريبكة من بين الضحايا    عروشي: طلبة 46 دولة إفريقية يستفيدون من منح "التعاون الدولي" بالمغرب    مجلس النواب يعقد جلسات عمومية يومي الخميس والجمعة للدراسة والتصويت على مشروع قانون المالية لسنة 2026    أمطار رعدية وثلوج ورياح قوية مرتقبة بعدة مناطق بالمملكة غداً الخميس    رياح قوية وزخات رعدية مرتقبة بعدد من مناطق المملكة    رئيس برشلونة يقفل الباب أمام ميسي    الاسبانيّ-الكطلانيّ إدوَاردُو ميندُوثا يحصد جائزة"أميرة أستورياس"    مسارات متقاطعة يوحدها حلم الكتابة    في معرض يعتبر ذاكرة بصرية لتاريخ الجائزة : كتاب مغاربة يؤكدون حضورهم في المشهد الثقافي العربي    على هامش فوزه بجائزة سلطان العويس الثقافية في صنف النقد .. الناقد المغربي حميد لحميداني: الأدب جزء من أحلام اليقظة نعزز به وجودنا    أمينوكس يستعد لإطلاق ألبومه الجديد "AURA "    عمالة المضيق الفنيدق تطلق الرؤية التنموية الجديدة. و اجتماع مرتيل يجسد الإنتقال إلى "المقاربة المندمجة"    مصرع 42 مهاجرا قبالة سواحل ليبيا    أربعة منتخبات إفريقية تتصارع في الرباط على بطاقة المونديال الأخيرة    "الكان" .. "دانون" تطلق الجائزة الذهبية    منظمة حقوقية: مشروع قانون المالية لا يعالج إشكالية البطالة ومعيقات الولوج للخدمات الأساسية مستمرة    ترامب يطلب رسميا من الرئيس الإسرائيلي العفو عن نتنياهو    مؤسسة منتدى أصيلة تفوز بجائزة السلطان قابوس للثقافة والفنون والاداب في مجال المؤسسات الثقافية الخاصة    لجنة المالية في مجلس النواب تصادق على الجزء الأول من مشروع قانون المالية لسنة 2026    استبعاد يامال من قائمة المنتخب الإسباني    اختلاس أموال عمومية يورط 17 شخصا من بينهم موظفون عموميون    مباريات الدور ال32 ب"مونديال" الناشئين في قطر    مستشارو جاللة الملك يجتمعون بزعماء األحزاب الوطنية في شأن تحيين وتفصيل مبادرة الحكم الذاتي في األقاليم الجنوبية    "الماط" يستغل تعثر شباب المحمدية أمام اتحاد أبي الجعد ويزاحمه في الصدارة    وكالة الطاقة الدولية تتوقع استقرارا محتملا في الطلب على النفط "بحدود 2030"    السعودية تحدد مواعيد نهائية لتعاقدات الحج ولا تأشيرات بعد شوال وبطاقة "نسك" شرط لدخول الحرم    ارتفاع أسعار الذهب في الأسواق العالمية    إسرائيل تفتح معبر زيكيم شمال غزة    حجز آلاف الأقراص المهلوسة في سلا    تقرير دولي: تقدم مغربي في مكافحة الجريمة المنظمة وغسل الأموال    الأمم المتحدة: الطلب على التكييف سيتضاعف 3 مرات بحلول 2050    ليلة الذبح العظيم..    "جيروزاليم بوست": الاعتراف الأممي بسيادة المغرب على الصحراء يُضعِف الجزائر ويعزّز مصالح إسرائيل في المنطقة    "رقصة السالسا الجالسة": الحركة المعجزة التي تساعد في تخفيف آلام الظهر    المشي اليومي يساعد على مقاومة الزهايمر (دراسة)    خمسة آلاف خطوة في اليوم تقلل تغيرات المخ بسبب الزهايمر    دراسة تُفنّد الربط بين "الباراسيتامول" أثناء الحمل والتوحد واضطرابات الانتباه    وفاة زغلول النجار الباحث المصري في الإعجاز العلمي بالقرآن عن عمر 92 عاما    وفاة "رائد أبحاث الحمض النووي" عن 97 عاما    بينهم مغاربة.. منصة "نسك" تخدم 40 مليون مستخدم ومبادرة "طريق مكة" تسهّل رحلة أكثر من 300 ألف من الحجاج    وضع نص فتوى المجلس العلمي الأعلى حول الزكاة رهن إشارة العموم    حِينَ تُخْتَبَرُ الْفِكْرَةُ فِي مِحْرَابِ السُّلْطَةِ    أمير المؤمنين يأذن بوضع نص فتوى الزكاة رهن إشارة العموم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



طارق بكاري: الكتابة الروائية تحتاجُ الكثير من "الصبر والموهبة"
نشر في هسبريس يوم 25 - 08 - 2019

طارق بكاري، روائي مغربي شاب من مواليد 1988، أصوله من ميدلت بجهة درعة تافيلالت، مجاز في الأدب العربي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية "ظهر المهراز" بفاس، علاوة على كونه خريج المدرسة العليا للأساتذة بالعاصمة الإسماعيلية مكناس، ويشتغل أستاذا للغة العربية بإقليم الحوز، حاصل على جائزة المغرب للكتاب سنة 2016، له عدة أعمال أدبية؛ منها رواية "نوميديا" (2015) التي وصل بفضلها إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر للرواية العربية، إلى جانب "مرايا الجنرال" (2017)، ثم أخيرا، وليس آخرا، "القاتل الأشقر" (2019).
كان لنا معه هذا الحوار، الذي نعرض الجزء الأول منه، لإلقاء الضوء على مساره الأدبي، والتطرق إلى رواياته، والحديث عن مشاريعه المستقبلية في التأليف والكتابة.
بما أن "نوميديا" أول عمل أدبي لك سنة 2016، متى فكّر طارق بكاري في تأليف رواية؟
الحقيقة أن الأمر بدأ أول ما قرأتُ أول رواية جميلة.. كنتُ قبلها أشعرُ بأن الحياة تصوبني نحو استثناء ما. لم يكن الأمر حلم طفولة بقدر ما كانَ حدسًا غدتهُ حياتي الغريبة ورؤيتي الفريدة للعالم والأشياء..كنتُ منذ فجر الطفولة أفكرُ في طبيعة هذا الاستثناء.. حين قرأت أول رواية حلوة وأول قصيدة جميلة أحسستُ بأنني أنتمي إلى الأدب، وبأن حتميةً ما تشبه القدر -أو لعلها القدر- تُعدني لأكون ما سأكون.. لكن كانت هناك مسافة مهمة جدا بين التفكير في الكتابة والشروع فيها.. مسافة من القراءة والتجربة والكثير من المحاولات التي كانت تنتهي صلبًا في سلال المهملات أو حرقًا.. الطريق إلى النضج كانت طويلةً وشاقةً..مجالُ الكتابة الروائية يحتاجُ إلى جانب الموهبة الكثير من الصبر والانضباط.
هل كنت تتوقع أن تصل يوما إحدى رواياتك إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر للرواية العربية؟
في الحقيقة الجوائز الأدبية رغم كل شيء تقدم الكثير للرواية العربية وللكاتب العربي، يكفي أنها تمنحهُ دفعة معنوية كبيرة، ومادية أيضًا! وتساهم في إيصال أعماله إلى جمهور أوسع، لكن ليست كل الأعمال التي تحصل على الجوائز جيدة دائمًا، مثلما أن الأعمال التي لا تحصلُ عليها ليست سيئة على الدوام. بخصوص نوميديا فقد كنتُ واثقًا من قوة الرواية، لذلك حين اقترحت عليّ ناشرتي ترشيح الرواية وافقت.. وصول الرواية إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية، التي تعتبر أحد أرفع جوائز الرواية في العالم العربي، هو تقدير كبير جدًا للجهد الذي بذلتهُ في هذه الرواية.. كما أن وصولي إلى القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية إلى جانب حصولي على جائزة المغرب للكتاب ساهمَا بشكلٍ كبير في انتشار أعمالي والوصول إلى جمهور أكبر.. على أن كل عملٍ جديد يولد بجمهوره التي يكبر رويدًا رويدًا.. فمثلًا يمكن أن تجد أن عددًا من قرّاء رواية الأشقر جاؤوا من خارج الأصداء الطيبة التي حققتها روايتاي السابقتان، قرّاء يكتشفونك لأول مرّة من خلال آخر أعمالك.
أكيد أن لبكاري روايتين أخريين سنعود إليهما في ما بعد، لكن ألا تخشى أن يرتبط اسمك ب"نوميديا" فقط، كما هو حال محمد شكري الشهير ب"الخبز الحافي"، رغم تأليفه عدة أعمال أخرى؟
لا أخشى الأمر إطلاقًا. محمد شكري في الحقيقة لم يكتب سوى رواية الخبز الحافي التي يمكنُ اعتبارها رواية حياتهِ أو سيرتهُ الذاتية..كل الروايات التي جاءت بعدها لم تكن في الحقيقة سوى امتداد لها، امتداد لم يأت بجديد لا على مستوى المعنى ولا على مستوى المبنى..لذلك التصق اسمهُ بالخبر الحافي لأنها الرواية الوحيدة التي تختصرُ جميعَ رواياته..وهذا أمر لا يعيبُ شكري في شيء، في الأخير عاشَ الرجل حياةً استثنائية حافلة بالمآسي والمباهج، ولم يكن ينظر إلى الرواية كأفق لابتناء عوالم جديد منفصلة عنهُ بقدر ما كانَ يرى فيها وسيلةً لتوثيق حياتهِ وتخليدها..لكن الرواية أكبر ذلك. لا أخشى أن يرتبطَ اسمي برواية نوميديا ببساطة لأنني كتبتُ بعدها نصين مهمين جدًا، لا يكرران نوميديا ولا يشبهانها، وهما بعيدًا عن قراء الجوائز والقراء الموسميين نصّان حظيا بتقدير نقدي مهم وبحضور جيد جدا في الأوساط الثقافية، لاسيمَا الرواية الأخيرة التي جاءت انطلاقتها أقوى من انطلاقة نوميديا ومرايا الجنرال، وحققت إلى حدود اللحظة نسبة كبيرة من المقروئية واهتمامًا نقديًا مهمًا وأصداء إيجابية جدًا في أوساط القراء.
ألا ترى أن عنوان أولى رواياتك "نوميديا" سبب في عدم فوزك بجائزة البوكر للرواية العربية، نظرا إلى العنوان المنتقى والتيمة المعالجة ذات الصلة بالأمازيغية؟
لا أعتقد أن عدم فوزي بالبوكر العربية سنة 2016 كان بسبب التيمة المعالجة ذات الصلة بالأمازيغية..ربمَا كانت للجنة التحكيم حسابات أخرى، لكن مسألة الحضور الأمازيغي حظيت بإشادة اللجنة، وكانَت في الحقيقة إحدى نقاط قوة هذه الرواية..اختيار الرواية الفائزة لا يعكس بالضرورة قوة هذه الرواية أو ضعف تلك، بقدر ما يعبرُ عن ذائقة اللجنة والمرجعيات الفكرية والنقدية لأصحابها داخل ظروف معينة محكومة بضغط إعلامي وبحسابات بالغة التعقيد. شخصيًا أعتبرُ أن الرواية فازت، لاسيما على مستويي الحضور والانتشار. كما أن قرّائي المشارقة أحبّوا كثيرًا الحضور الأمازيغي في أعمالي، وكانت بالنسبة لهم مناسبة لمحو الكثير من الأفكار المغلوطة عن الأمازيغ والقضايا الأمازيغية..وتصلني منهم على الدوام رسائل تعبر عن إعجابهم بحضور الثقافة الأمازيغية في أعمالي، سواء تعلّق الأمر برسم الشخصيات أو تأثيث الفضاءات وتغذيتها بالمحكي الأمازيغي أو الأساطير الأمازيغية أو أساليب تعايش الأمازيغ مع الطبيعة ومبهماتها الكثيرة. أعتقد أن الرواية ساعدتهم على تصحيح الكثير من التصورات المغلوطة ودفعتهم إلى تكوين نظرة مشرقة عن ثقافتنا وهويتنا..وهذا يعني أن الرواية قادرة على تجسير الهوة التي يخلّفها سماسرة الأحقاد وتجار الكراهية بين الثقافات والشعوب..أحيانًا ننخرطُ في حروب مجانية وتافهة جدًا فقط لأننا لا نفهمُ الآخر بما يكفي.
لنعد إلى "مرايا الجنرال"، ثاني رواياتك الصادرة سنة 2017، كيف استقبلها النقاد"؟
صدرت لي سنتين بعد نوميديا رواية مرايا الجنرال، كنتُ واعيًا بحجم الضغط الذي يفرضهُ نجاح روايتي الأولى، لذلك حاولتُ كتابةً رواية لا تشبههَا، رواية بأسلوب مختلف وتقنيات سردية مختلفة وفضاءات جديدة، والأهم أنها رواية يصعبُ أن تقارن برواية نوميديا، لأن لكل رواية تيماتها الخاصة وأسلوبها وطرائقها السردية..ولقد أشادَ الكثير من النقاد برواية مرايا الجنرال، وكتبت حولها مقالات ومراجعات مهمة، كما أنها لقيتْ استحسان جمهور القراء..وكانَ لها بعيدا عن القرّاء الموسميين وقرّاء الجوائز جمهورها الخاص.. أؤمنُ دائمًا بقدرة العملِ الجيد على إيجاد الطريق إلى قلوب القراء، كما أعتقد أنه ليس من الضروري أن يتوج هذا العمل أو ذاك بجائزة من الجوائز حتى يجدَ الطريق إلى القراء.
كيف تنظر إلى الذات الإنسانية من خلال "مرايا الجنرال" وثنائية الخير والشر؟
الذات الإنسانية في رواية مرايا الجنرال هي ذاتٌ قلقة، منتهكة، منهكة، معذبة، ومتناقضة يتعانقُ فيها الجلاد والضحية..ليس فيها خيرٌ مطلقٌ ولا شرٌ مطلق، جميعُ شخصيات الرواية جلادون وجميعهم ضحايا.. تحضر ثنائية الخير والشر من خلال الصراعات بين الشخصيات الخيرة والشخصيات الشريرة ذات النوايا الخيرة أو المدفوعة إلى شرّها دفعًا.. كما تحضرُ هذه الثنائية من خلال الصراعات النفسية التي تعترك في دواخل الشخصيات التي لا تصمدُ نواياها النبيلة أمام النزعات الشريرة الرابضة في أعماقنا كبشر. إليكَ مثلا جواهر، بطلة الرواية، المناضلة الشرسة التي تدفعها غوايات الجسد إلى الوقوع في شرك جلادها؛ إنها شخصية يدفعها نبل مواقفها إلى الوقوع في أتون الشرّ النائم في أعماقها، وتدفعها هذه الثنائية إلى ازدواجية خطيرة بين حياة سرية هي في الحقيقة مجال لإشباع نزواتها الشريرة وحياة علنية تعود فيها إلى طبيعتها.. إننا كبشرٍ نهذبُ القوة التدميرية والعنيفة في دواخلنا باسم الدين والفضيلة والأخلاق، لكن يكفي أن نستثار حتى نكشف عن حقيقتنا، بل ويحدثُ أحيانًا أن نغذي باسم الدين والفضيلة والأخلاق السواد فينا!.
تعد "القاتل الأشقر" ثالث رواية لك، صادرة سنة 2019، ما هي في نظرك نقاط الالتقاء بين الأدب والصحافة، لاعتبار السلطة الرابعة حاضرة بقوة في الرواية؟
السلطة الرابعة حاضرة بقوة من خلال شخصيتين قادتهمَا غواية مهنة المتاعب نحو سوريًا الحرب، الشخصية الأولى هي مريم التي تذرعت بتغطية الحرب في سوريا من أجل السفر إلى هناك والبحث عن حبيب قديم أنعشتْ هذه الحرب ذكراه؛ أما الشخصية الثانية فهو وليد معروف، الصحافي اللبناني المندس في تنظيم الدولة الإسلامية، والذي غررت به مجلة إنجليزية ومنّتهُ بصفقة واهمة نظير اختراقه للتنظيم..كما أنه شريك الأشقر في يومه المديد (وربما الأخير) في عين العرب في الشقة التي آويا إليها من بطش وحدات حماية الشعب الكردي، اليوم الذي سينتهي بانهيار البناية التي كانا يختبئان فيها وسيفقد إلى جانب الأشقر يده.
تلتقي الصحافة بالأدب في شخصية وليد معروف، فهو الذي سارعَ إلى توثيق حياة الأشقر ومنحه قبرًا رمزيًا من ورق..هو لم ينتقل من الصحفي إلى الأديب، بل حاول صهر كل ما جمعهُ من معطيات صحافية في بوتقة الأدب..لذلك فالتحقيق الصحافي يفرضُ نفسهُ داخل الرواية كنسق إلى جانب أنسق وخطابات أخرى. في الأخير الرواية "شكل تلفيقي" كما يرى بوريس انخباوم، أو شكل هجين مثلما ذهب إلى ذلك باختين، وهي تستمد قوتها في الحقيقة من قدرتها على احتواء الكثير من الخطابات والأجناس الأدبية..
معالجتك لقضية القتل في "القاتل الأشقر" يحيلنا مباشرة على دوستويفسكي في كتابه "الجريمة والعقاب"؛ ما الذي يمثله الأدب الروسي لبكاري؟
انفتحتُ على الأدب الروسي منذ وقت مبكر جدًا، وكنتُ، ولازالت، مولعًا بكلاسيكياته. أحب في الأدب الروسي تلك النزعة التأملية العميقة وذلك الولع بالتفاصيل والغوص في نفسيات الشخصيات، وأظن أن للأمر أثرا قويًا في أعمالي. أعتقد أن حضور "الجريمة والعقاب" معلنٌ في الرواية من خلال المقارنة بين الأشقر وراسكولينكوف، وحالة كل منهمَا بعد جريمة القتل، وكيف أن الأشقر امتصتهُ الدوامة نفسها التي امتصت بطل الجريمة والعقاب دون أن يملك مثلهُ ترف التواري والانعزال في غرفته..إن إنهاء حياة شخص آخر ومحو وجوده أمرٌ يهز الإنسان بعنف وتحولهُ حالات الهذيان والذعر من إنسان إلى شبح أو مسخ، لاسيما إذا كانَ يحملُ في أعماقه بعض القيم النبيلة، لكن تختلف رواية القاتل الأشقر عن الجريمة والعقاب في شكل الخلاص الذي سيسحبُ كل بطلٍ من دوامته النفسية القاسية؛ ففي وقت اختار راسكولينكوف التطهر من جرمه عبر الاعتراف وتقبل الألم، اختار الأشقر التطهر من ألمه بالتيه ومواجهة الندم الذي ينهضُ في أعماقه بالكثير من الأفكار العدمية! كما أن شخصية أخرى من شخصيات دوستويفسكي تحضر بشكل معلن في الرواية، وهي ناستاسيا فيليبوفنا في رواية الأبله، والتي تقارن بشخصية مريم في رواية "القاتل الأشقر" .. على أن أثر الأدب الروسي يحضرُ بشكلٍ مضمر على مستوى أسلوبية الرواية.
أغلب الروايات الشبابية اليوم تتطرق إلى الجنس كموضوع وتعالجه كتيمة؛ كيف وظف بكاري الجنس في رواياته الثلاث؟
لا أعتقد أن أغلب الروايات الشبابية تتطرق للجنس كموضوع أو تيمة، بل أعتقد أنّ هناكَ تراجعًا كبيرًا في منسوب الجرأة في الأعمال الروائية، وهو تراجع تفسرهُ التغيرات التي طرأت على المجتمعات العربية في ظل تنامي المد الوهابي وتضييق الخناق على حرية التعبير، وتغول الرقيب الداخلي لدى الكثير من المبدعين وحسابات الجوائز وغيرها من الأسباب.. شخصيًا أكتب بجرأة كبيرة ودون حسابات معقدة، ومثلمَا أن الجنس يحضرُ في حياتنا كبشر، فمن الطبيعي أن يجدَ له مكانًا فيما نكتب. ثم إن المتتبع لأعمالي يلحظُ أن الجانب النفسي يحضر بقوة في الرواية ويشكل دافعًا مهمًا للشخصيات نحوَ الفعل والاختيار؛ ومعلوم أن بنياتنَا النفسية تحكمها ترسبات الكبت التي ترتبطُ غالبًا بتدخل المجتمع في حياتنا الجنسية المبكرة، لذلك يحضر الجنس في أعمالي كردود فعل مؤجلة لأفعال انتكست في مرحلة من مراحل حياة أبطالي.. ثمّ إن هذا الحضور تمليه الضرورة الفنية بالدرجة الأولى. وكل حديث عن الجنس في الرواية هو مبررٌ بما فيه الكفاية، ففي نوميديا يحضرُ الجنس كنوعٍ من المقاومة، مقاومة الموت الذي يحف الوعل مراد من كل جانب، وفي مرايا الجنرال يحضر الجنس كردود فعل مؤجلة للتجارب الجنسية المبكرة التي اعتورت طفولة الجنرال وجواهر، أما في رواية القاتل الأشقر فالجنس يرتبطُ بحياة العهر والدعارة التي وجد البطل نفسه فيها منذ فجر طفولته، والتي أرخت بظلالها على حياته لاحقًا.
بعيدا عن أعمالك الأدبية، كيف ينظر بكاري إلى الرواية المغربية، وهل تخلصت من التبعية للرواية المشرقية؟
عمومًا الرواية المغربية بخير، هناكَ تجارب روائية تستحق الإشادة، كما أن هناك جمهورًا للرواية يكبرُ باستمرار. لا أعتقد (في حدود ما قرأت) أنَّ الرواية المغربية عاشت تبعية للرواية المشرقية حتى تتخلص منها.
بما أنك توظف الشعر في أعمالك الروائية؛ هل يفكر بكاري في كتابة ديوان شعري يوما؟
أحبٌ الشعر كثيرًا وأؤمنُ بجدواه وجدوى وجوده في حياتنَا كبشر.. وأشعر بالحزن على ما آل إليه، سواء في المغرب أو العالم العربي، باستثناء تجارب قليلة هنا وهناك. أعتقد أننا ندخلُ في مرحلة انحطاط جديدة، باسم قصيدة النثر وغيرها من التجارب الهجينة..التي فتحت أبواب القصيدة على مصراعيها لكل من هب ودب.. شعراء يولدون يوميًا من رحم لغة معطوبة وآلاف الدواوين تطبعُ بلا جمهور وبلا أمل في أن يعتقها قارئ من مقصلة النسيان، وتجار نشر يبيعون الوهم ويقبضون ثمنَ أغلفة وعناوين براقة أقصى ما يهم أصحابها أن يضموها إلى سيرهم الذاتية. هناكَ تجارب شعرية مشرقة لكنها تختفي أو تكاد في طوفان الضحالة والإسفاف.
مذ بدأتُ الكتابة وأنا أواظبُ على كتابة الشعر؛ الشعر لم يكن في تاريخي الشخصي "مسافة تسخينية" أو "تمرينًا" على الكتابة.. وحين يصحو الشاعر داخلي (وهو مزاجي إلى أبعد حد) فإنني أكتبُ بنفس الجدية التي أكتب بها الرواية. طبعًا أخطط لكتابة ديوان شعر لكن أحتاج إلى جانب المزاج الكثير من الوقت!
ما هي مشاريع بكاري المستقبلية، وهل هناك عمل روائي جديد ستفاجئ به قراءك عما قريب؟
أعملُ حاليًا على كتابة رواية جديدة، كانت قد فازت في وقت سابق بمنحة المورد الثقافي في لبنان، وهي رواية أمازيغية "بلسان عربي"! رواية لا تشبهُ أعمالي السابقة، والأهم أنهُ عملٌ أراهنُ فيه على التجديد في مبنى الرواية أو معناها.. لازالت المسافة بين ما أتخيلهُ وأخططُ له وبين ما تحقق على الورق شاسعة، لذلك فليس هناك أي مجال لتصدر عما قريب.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.