إن الحروف لا تبني في الحياة قصورا، ولا تنصب على البحار جسورا، فلماذا أكتب؟! تساءلت في قرارة نفسي وأنا أرمق القلم المتراقص بين أصابعي كما يرمق الساحر عصا كانت بالأمس صولجان مؤثرا فأضحت اليوم عودا يلفظ آخر أنفاس الجدوى. قبل حين تزاحمت في رأسي فكر حارقة ثم همدت فجأة كأنها وُضعت في كتلة من جليد. كدت أن أكتب عن حادثة من حوادث الأمس البعيد، أو تجربة من تجارب الماضي القريب، لكني توقفت. كدت أن أكتب عن شقاء الفقراء في بلدي وضنك عيشهم بين مطرقة الحاجة وسندان الواجب، أو ترف الموسرين فيه وتملكهم لأسباب الحبور الذي لا ينقضي، لكني أمسكت. كنت أريد أن أدوّن عن طموح الشعوب العربية المقهورة في اعتناق الحرية، عن جذوة الثورة المشهودة في لبنان، أو رماد النهضة في مصر، عن الناس المقموعة في ليبيا، والناس التائهة في سوريا، عن كفاح فلسطين ضد الأعداء الإخوة والإخوة الأعداء، ثم توقفت! رغبت في أن أخط عن خاشقجي ومرسي وواقعات الدهر بين موت الطبيعة واغتيال الخليقة، عن الذين يريدون أن يقولوا للورى ما يعلمون، فأصابتهم سهام الغدر والخيانة قبل أن يقولوا شيئا أو بعد قول نزر قليل. كنت أريد أن أكتب عن سهام الغدر والخيانة ذاتها وهي سائرة في الفضاء أمام ناظري، ثم امتنعت. أردت أن أكتب عن كل شيء؛ لكني لم أكتب عن أي شيء، توقفت في سبيل الكتابة عن الكتابة نفسها وجدواها. إن الكتابة تطل على البعض اختيارا بين اختيارات شتى، ثم سرعان ما تلبث لهم خيارا واحدا، هو خيار لا يحتاجونه في ساعة الأحزان والشجون، بل حتى في لحظات البهجة والسرور. فماذا إذن تجدي الكتابة لهؤلاء؟ وماذا تجدي أقلامهم؟ أتواسي النفوس السائمة المنعزلة في الدجى؟ أتكافئ المهج المترنمة في وجه الشمس؟ هل للقلم بلسم يذوب في أفئدة التعساء فيبهجهم، ويبذر في مكامن السعداء ورودا لا تبيد؟ قد كتب ألمع المفكرين والأدباء في أكثر لحظات الزمان عسرا وأشد الأمكنة ضيقا، كذا كتب غرامشي المذكرات المشهورة في زنزانته، وتعلم شكري كيف يكتب في زنزانته، ثم طفق يكتب دون انقطاع بعد خالدته الواقعية، الخبز الحافي. كذلك كتب أمثالهم بين جدران السجن وخلف قضبان الأسر، وكتب غيرهم إبان الحرب وفعل آخرون أثناء السلام. إذ كتب همنغواي وهو في ساحة القتال، وكتب جبران في الغربة، وكتب المعري في الظلام، وكتب جيفارا في الثورة، وكتبت بلاث في الجنون. إني حين أعود بذاكرتي إلى هؤلاء وآخرين وظروف كتابتهم أتساءل مرة أخرى: أتوجد الكتابة حرية في قلب القيد، ونعيما في جحور الجحيم؟ أيكون حمل اليراع أجدى من حمل السلاح في خضم الحروب؟ أهي الكتابة تجعل للسلام عمرا أطول إبان السلام؟ لكن الدعوة الأولى في القرآن إلى غير هذا، والحياة الجاهلية قبل القرآن كانت على غير هذا، فقد اعتادت الأقوام حينذاك لغة الألسنة والآذان على لسان الأقلام والعيون؛ بيد أن القسم الإلهي في القرآن كان بالقلم، واسم سورة قرآنية كاملة أتت باسم القلم، فهاتيك الدعوة إذن توحي بالكتابة أيضا، وهل تكون الكتابة سوى رعشة يحدثها الحب المتجدد للقراءة! وتلك الأقوام، هل كان تاريخها وآدابها الرفيعة وأخلاقها الفذة ستستقر في الخلود إذا لم تجد في الأصل حيزا على المخطوطات والألواح! الآن وقد طال بي التساؤل، المتخبط أحيانا، في الكتابة وجدواها أولي بصيرتي شطر التجربة الشخصية وأقول فيها أخلص القول: إن الكتابة، يا قارئي، إن لم تبن في الحياة قصورا، فهي تبني في القصور آمالا، وإن لم تنصب على البحار جسورا، فهي تمد تحت الجسور بحورا. إنها سبيل في كشف وجود الجمال، وسبيل في تخليد جمال الوجود. هي الكتابة ما يتفجر من صخور الشقاء، ونور يشع من دموع القلم، هي أمل ينبعث من ثنايا الألم، وحياة تولد من رحم الرقاد.