إسبانيا تسجل أشد موجة حر في تاريخها.. أكثر من ألف وفاة وحرائق تأتي على مئات آلاف الهكتارات    توقيف تركي مبحوث عنه دولياً في قضايا الكوكايين    ترقيم البيض مطلب عاجل لتطويق الفوضى في الأسواق    "رحلتي إلى كوريا الشمالية: زيارة محاطة بالحرس ومليئة بالقواعد"    إسرائيل تقصف الضواحي الشرقية والشمالية لمدينة غزة، وارتفاع حصيلة القتلى قرب مراكز المساعدات إلى ألفين    نيجيريا: سلاح الجو ينقذ 76 مخطوفا وسقوط طفل في العملية    لمسة مغربية تصنع فوز ريال مدريد بثلاثية نظيفة    المنتخب المغربي يتوجه إلى أوغندا لخوض نصف نهائي "الشان"    أمرابط على أعتاب "الكالتشيو" من جديد    افتتاح الدورة 82 لمعهد القانون الدولي بالرباط برئاسة مغربية    الأمم المتحدة تحذر من من خروقات البوليساريو في الصحراء    أمن مطار محمد الخامس يوقف تركيا مطلوبا لدى الأنتربول    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الاثنين    هام للمغاربة.. تحديد موعد وعدد أيام عطلة عيد المولد النبوي    شقيق شيرين عبد الوهاب يثير الجدل برسالة غامضة عن "لوسي"    "مهرجان الشواطئ اتصالات المغرب" يضيء سماء المدن الساحلية في دورته ال21    الصحة النفسية: كيف يمكن أن يقودنا التهويل والتفكير السلبي إلى عوالم مظلمة؟    تحت شعار "ذكاء المرافق".. الرياض تحتضن أكبر حدث دولي في إدارة المرافق    الشرقاوي: الملك يهتم بأجيال فلسطين    "أسيست دياز" يسهم في فوز الريال    توقيف مختل عقلي بالبيضاء جراء نشره فيديو يهدد فيه بارتكاب جنايات ضد الأشخاص بمسجد الأندلس بمنطقة أناسي    الخارجية الفرنسية تستدعي السفير الأمريكي بسبب اتهامات معاداة السامية    تجارب علمية تبعث الأمل في علاج نهائي لمرض السكري من النوع الأول    رحيل الرئيس السابق للاتحاد الوطني لطلبة المغرب المناضل عزيز المنبهي    المغرب بحاجة إلى "عشرات العزوزي" .. والعالم لا يرحم المتأخرين    "أسود البطولة" يتوجهون إلى أوغندا لمواجهة السنغال في نصف نهائي "الشان"    إختتام مهرجان نجوم كناوة على إيقاع عروض فنية ساحرة    العيناوي يؤكد الجاهزية لتمثيل المغرب    الملك محمد السادس يبعث رسالة إلى زيلينسكي    السلطات المغربية تطرد ناشطتين أجنبيتين من مدينة العيون    عادل الميلودي يدافع عن الريف ويرد بقوة على منتقدي العرس الباذخ    القناة الأمازيغية تواكب مهرجان الشاطئ السينمائي وتبرز إشعاع نادي سينما الريف بالناظور    حكمة العمران وفلسفة النجاح    موجة حر استثنائية تضرب إسبانيا وتتسبب في أكثر من ألف وفاة خلال غشت    بعد الهزيمة.. جمال بنصديق يتعهد بالعودة في أكتوبر ويكشف عن سبب الخسارة    سابقة علمية.. الدكتور المغربي يوسف العزوزي يخترع أول جهاز لتوجيه الخلايا داخل الدم    طفل بلجيكي من أصول مغربية يُشخص بمرض جيني نادر ليس له علاج    تبون خارج اللعبة .. أنباء الاغتيال والإقامة الجبرية تهز الجزائر    الجنرال حرمو يؤشر على حركة انتقالية واسعة في صفوف قيادات الدرك الملكي بجهتي الناظور وطنجة    قال إن "لديه خبرة وغيرة لا توجد لدى منافسيه".. أسامة العمراني ينضاف لقائمة نخب تطوان الداعمة للحاج أبرون    قتيلان بغارات إسرائيلية على اليمن    السدود المغربية تفقد 792 مليون متر مكعب بسبب الحرارة وتزايد الطلب    أزمة القمح العالمية تدق ناقوس الخطر والمغرب أمام تحديات صعبة لتأمين خبزه اليومي            المغرب ضيف شرف الدورة ال19 للمعرض الوطني للصناعة التقليدية ببنين    جاكوب زوما: محاولة فصل المغرب عن صحرائه هو استهداف لوحدة إفريقيا وزمن البلقنة انتهى    موجة غلاء جديدة.. لحم العجل خارج متناول فئات واسعة    ناشطات FEMEN يقفن عاريات أمام سفارة المغرب في برلين تضامنا مع ابتسام لشكر    الصحافة الكويتية تسلط الضوء على المبادرة الإنسانية السامية للملك محمد السادس لإغاثة سكان غزة    الجديدة تحتضن الدورة الأولى لمهرجان اليقطين احتفاء ب''ڭرعة دكالة''    أمريكا: تسجيل إصابة بمرض الطاعون وإخضاع المصاب للحجر الصحي    جدل واسع بعد الإعلان عن عودة شيرين عبد الوهاب لحسام حبيب    "بعيونهم.. نفهم الظلم"    بطاقة «نسك» لمطاردة الحجاج غير الشرعيين وتنظيم الزيارات .. طريق الله الإلكترونية    هنا جبل أحد.. لولا هؤلاء المدفونون هنا في مقبرة مغبرة، لما كان هذا الدين    الملك محمد السادس... حين تُختَتم الخُطب بآياتٍ تصفع الخونة وتُحيي الضمائر    المغاربة والمدينة المنورة في التاريخ وفي الحاضر… ولهم حيهم فيها كما في القدس ..    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هكذا لامست جرأة مواضيع "الأغنية الملتزمة" شغاف قلوب المغاربة
نشر في هسبريس يوم 28 - 11 - 2019

ارتبطت الأغنية الملتزمة (أو السياسية) في الوطن العربي بنضالات الحركات التحررية، سواء من ربقة الاستعمار أو لمواجهة قمع سلطات الاستقلال التي كانت تنتهك حقوق الإنسان وتدوس على كرامة المواطنين.
وهكذا، انتشرت الأغنية الملتزمة، والتي صنفها الباحث سعيد الوجاني بالتقدمية، على امتداد الوطن العربي؛ "ففي لبنان، الذي كان ولا يزال مسرحا لأخبث جريمة تقترف ضد الإنسانية، أطل علينا مارسيل خليفة بأغاني مأساة الإنسانية الذي يواجه قوى الاستغلال والاستعمار في مقطوعات غنائية رفيعة وجد متطورة على المستوى الفني مثل "جواز السفر" و"ريثا".
وفي فلسطين، تفجر صوت مصطفى الكرد مطلقا صرخات التحدي ومعلنا عن تشبثه بأرضه وشعبه وبندقيته، وغالبا ما اتخذت أغاني الكرد طابعا حماسيا نظرا لطبيعة الظروف التي يعيشها الشعب الفلسطيني في مواجهة العدو الصهيوني العنصري، بحيث تكون أغانيه بمثابة تحريض لهذا الشعب لحمل السلاح، والاستمرار في الكفاح المسلح إلى غاية تحرير الأرض.
وفي تونس، طالعنا الهادي كله بأغان تعبر عن بؤس الإنسان الكادح، وخاصة العمال المهاجرين في أوروبا الغربية. وفي مصر، نجد تجربة الشاعر أحمد فؤاد نجم وزوجته عزة ورفيقه الشيخ إمام؛ وهي تجربة متطورة ومتجذّرة، لأن نجم وإمام كانا يخاطبان الجماهير بلغتها وتراثها المتنور مع العمل على تنوير هذه الجماهير بمضامين ثورية خلاقة مصاغة صياغة تعليمية وتوجيهية إلى الجماهير التي كانت متحمسة لمثل هذا العطاء الفني الذي شغل الساحة المصرية والعربية طيلة السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي.
بل وأكثر من هذا، فقد تمكن نجم وإمام، عبر تجربتهما الخاصة، من فضح نوايا الإمبريالية الأمريكية عراب دولة آل صهيون "شرفت يانكسون بابا" و"فاليري جيسكار ديستان"، كما شرح آخر ما وصل إليه كفاح الشعوب المسلح ضد الرجعية والاستعمار والاحتكارات "جيفارا مات"، عبر مقطوعة غنائية شعبية تستطيع التغلغل بسهولة في الوجدان الجماهيري، ومن ثم تكون أغاني أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام بديلا موضوعيا للأغنية الرسمية السائرة في عهد السادات وحسني مبارك.
وقد تأثرت الأوساط الطلابية بهذه الأغاني السياسية المشرقية، حيث كان يتم ترديدها في التجمعات الطلابية التي كان ينظمها الاتحاد الوطني لطلبة المغرب وتعاضدياته، وضمن الفصائل اليسارية التي كانت تعتقد أنها تحمل الهم الوطني والشعبي. وفي هذا السياق، برز اسم سعيد المغربي كأحد مؤسسي الأغنية السياسية بالمغرب التي تناولت قضايا تهم الاعتقال السياسي، والتغني بالمقاومة.
الأغنية الملتزمة والتنديد بمظاهر الاعتقال السياسي
منذ بداية فترة الاستقلال، اتخذ الصراع حول السلطة منحى دمويا؛ فقد أطلق النظام الجنرال أفقير وبعده الكولونيل الدليمي ليبطش بأي تمرد أو انتفاضة والتي عكستها بعض الأغاني الشعبية، فحول انتفاضة "أولاد اخليفة" بنواحي إقليم سطات؛ والتي كانت مسبوقة باجتماعات ومشاورات متعثرة بين أفراد هذه القبيلة والسلطات المحلية، ركب الفرسان خيولهم في يوم 28 نونبر 1970 وحملوا البنادق ودخلوا في مواجهة مباشرة مع قوات الأمن، فخلفت الأحداث خمسة قتلى وستة عشر جريحا. بعد ذلك، خرجت إلى الوجود أغنية تقول، في مطلعها، إحدى الشيخات: "وافرحي يا الخليفية/ ولدك دار امزية/ في النار داري مرمية/ ...
كما أنه بعد إعدام بعض الجنرالات المتهمين في محاولة الانقلاب الأولى؛ انتشرت أغان عديدة تغنت ببعض هؤلاء العسكريين خاصة في منطقة الأطلس المتوسط؛ كالأغاني التي تغنت بالجنرال حمو مما دفع بالسلطة إلى اعتقال مجموعة من المطربين الشعبيين الذين تعرضوا لأنواع التعذيب قبل أن يطلق سراحهم.
وبهذا الصدد، صرح الفنان الشعبي محمد مغني، جوابا عن سؤال صحافي بشأن اعتقاله بعد أن غنى عن الجنرال حمو أحد المتورطين في محاولة الانقلاب العسكري على الملك الراحل الحسن الثاني، بما يلي: "كان ذلك في السبعينيات بعد محاولة الانقلاب العسكري. الناس تغنت ببعض الأسماء العسكرية من الذين أعدموا، وكان الرعاة والجميع يغني تلك الأغاني، ونحن أيضا غنينا نفس الكلام.
لقد غنيت أنا عن الجنرال حمو، لأنه شخص كان الأمازيغيون يحبونه، قلنا: يلا مات حمو خلا الهم في الناس/// مات ذاك الكبير الذي كان يقصده الأمازيغيون. هناك من غنى عن أسماء أخرى، وقد اعتقلنا نحن، لكن هناك من لم يعتقل. اعتقل احساين ويامنة عقا وأعبشوش وأنا، قالوا لي ماذا غنيت؟ وأين؟ ولمن غنيت؟ فقلت لهم غنيت للقائد أمهروق وللمحجوبي أحرضان.
قضينا 18 يوما في التعذيب والمعاناة بمكناس. كانوا يعذبوننا بالضرب نهارا، ونتعذب ليلا بسبب المنحرفين والمجرمين، الذين كانوا يأتون بهم إلى مكان اعتقالنا، لأنهم يمنعوننا من النوم. بعد ذلك طلبوا منا جمع أمتعتنا فظننا أنه سيطلق سراحنا، لكنهم نقلونا إلى الرباط، وهناك بدأت مرحلة جديدة من التعذيب، "التعلاق والقتيلة" هلكونا، حيث كانوا يبدؤون بتعذيبنا بعد الواحدة ليلا. بعد هذا العذاب الجهنمي، قلت لهم إنني غنيت عن الجنرال حمو وقدور غنى البقية، هكذا صفينا المسألة، فبدؤوا باستنطاقنا حول الحضور فأخبرتهم عن ذلك، فجاؤوا بالبعض ولم يستدعوا البقية. وقد بقينا 13 يوما بكوميسارية الرباط قبل أن يطلق سراحنا".
وعلى الرغم من محاولة نظام الملك الحسن الثاني قلب صفحة جديدة بعد تصفية الجنرال محمد أوفقير بعد اتهامه بتورطه في المحاولة الانقلابية الفاشلة ل16 غشت 1972؛ وفتح حوار مع كل من حزب الاستقلال والاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية لوضع قواعد لعبة ديمقراطية مغايرة بعد الإجماع الذي حصل حول قضية استرجاع الأقاليم الصحراوية، فقد واصل النظام محاصرة مكونات اليسار الماركسي اللينيني نظرا لخلافاتها حول توجهات النظام سواء السياسية أو الاقتصادية.
وبالتالي، فقد شن النظام حملة اعتقالات واسعة بين صفوف هذه المعارضة من خلال اختطاف قيادييها ومناضليها ونقلهم إلى مخافر سرية؛ وعلى رأسها كوميسارية درب مولاي الشريف، ليتعرضوا هناك لكل أنواع التعذيب والاستنطاق.
وبهذا الصدد، أعلنت السلطة عن هذه الاعتقالات من خلال تعليق إذاعي بتاريخ 28 يناير 1977 جاء فيه: "تتابع بالبيضاء محاكمة الأشخاص المتهمين في قضية المس بالأمن الداخلي للدولة والاعتداء وإثارة القلاقل والمؤامرة ضد النظام القائم والتزوير واستعماله في تأسيس منظمات سرية. وقد تم تسليط الضوء على القضية حين قامت مصالح الأمن الوطني باكتشاف مناشير ووثائق وخطط للتخريب.
وعند ذلك تمت التحريات في مدن ومناطق عديدة بالبلاد، مما مكن من إماطة اللثام عن خلايا محكمة التأطير ذات أهداف متعددة؛ منها: نشر الماركسية اللينينية داخل الأوساط الطلابية والطبقات الكادحة، وكذا وضع ميثاق بين العمال والفلاحين، وتكوين مجموعات مسلحة ومدربة في مركز عسكري سري، والقيام بأعمال تخريبية من شأنها التطور إلى حرب شعبية وذلك بهدف الاستيلاء على السلطة بالعنف...".
ومن أجل الحصول على المساندة المادية أو المعنوية، عمد هؤلاء الأشخاص إلى عقد اتصالات مع منظمات أجنبية معروفة على الصعيد العالمي بتشجيعها لأعمال التحريض والعنف. وبناء عليه، فقد كان بين المتهمين عدد من الأجانب تمكنوا من الهرب قبل أيام من اكتشاف جريمتهم..
إننا نلاحظ إذن وجود مجموعة من المتطرفين يجهرون أمام المحكمة بحمل أفكار ليس لها علاقة مع ديننا ومقدسانا. وأكثر من ذلك أن المسألة تتعلق بعناصر تشيع نظريات مناقضة للإجماع الشعبي حول استكمال وحدتنا الترابية، ومهما يكن من أمر فإن الشعب المغربي يتبرأ من هذه الكمشة من المتآمرين الذين يصرون على خدمة الماركسية اللينينية وما يسمى بالمبادئ التقدمية الكونية".
"وانطلاقا من هذه الحقائق، فإننا نلمس خطورة المؤامرة، كما نكشف خاتم الأيادي الأجنبية والدعاية التي تساند العناصر التي فضلت التفرقة على الوحدة والحرب الأهلية على السلم الاجتماعي والماركسية اللينينية على تعاليم الإسلام والذي لاشك فيه أن هذه الكمشات المكونة من خلايا لا هدف لها سوى زرع الرعب والفوضى والقلاقل، توجد كذلك في بلدان عديدة حباها الله بموقع استراتيجي مهم وبموارد ضخمة أو بنظام يحرم حركة التفكير والتجمع والممارسة الدينية. لقد وجدنا دائما نفس الخلايا ونعني الأيادي الأجنبية متواطئة مع مرتكبي الاعتداءات ومختطفي الطائرات وباعثي القلاقل في الأوساط الطلابية والقائمين بالاختطافات والجرائم ضد الأبرياء".
وهكذا؛ فقد عرض أعضاء حركتي إلى الأمام و23 مارس، بعد اعتقال نظري بمخافر الشرطة؛ واعتقال احتياطي ببعض سجون المملكة، على قاضي التحقيق لدى محكمة الاستئناف بالدار البيضاء الذي أحالهم على المحاكمة. وخلال جلسات هذه المحاكمة، واجه المعتقلون الأحكام القاسية والثقيلة التي صدرت ضدهم بترديد نشيدهم النضالي:
لنا با رفيق لقاء غدا سنأتي ولن نخلف الموعدا
وهذي الجماهير في صفنا ودرب النضال يمد اليدا
فلا السجن يوقفنا والخطوب وليس يهدم عزم الشعوب
طغاة النظام مضي عهدهم وشمسهم آذنت بالغروب
لكن بالإضافة إلى هذه الأناشيد النضالية التي كانت تردد بين نشطاء هذه الحركات؛ عكست أغاني سعيد المغربي جزءا من النضالات التي خاضتها هذه المعارضة والاضطهاد السياسي الذي عانى منه أعضاؤها من طرف الأجهزة الأمنية لنظام الحسن الثاني والانتهاكات والتجاوزات التي ارتكبت في حق هذه التنظيمات اليسارية.
وهكذا، بدأ هذا الفنان أغانيه حول الاعتقالات السياسية التي كان يتعرض لها المناضلون اليساريون؛ والأوضاع المزرية التي كانوا يعانون منها داخل السجون مما دفع ببعضهم إلى الدخول في سلسلة من الإضرابات عن الطعام خلفت ضحايا عديدين؛ من بينهم المناضلة سعيدة المنبهي التي توفيت بعد أربعين يوما من الإضراب عن الطعام.
ولتجسيد هذا الوضع القمعي والتشهير بهذه التجاوزات، كتب الشاعر عبد الله زريقة قصيدة بعنوان (سعيدة امرأة أحبت الضوء) ليلحنها ويغنيها سعيد المغربي. وفي هذا السياق، كتب هذا الأخير ما يلي: "الأوضاع في السجون المغربية ليست على ما يرام في سنة 1977، الإضراب غير محدود للمعتقلين السياسيين اليساريين (المحاكمات الصورية، الاعتقالات المتواصلة والمتابعات، والتعذيب المتواصل...). المغرب في هذا الزمن بالذات يئن تحت وطأة القمع وشراسة الاعتداءات الانتهاكات.
انتشر الخبر في كل أنحاء البلاد: "امرأة استشهدت تحت التعذيب...". بل توفيت من فرط كبريائها وصمودها؛ لأنها آمنت بجدية قضيتها بعد أربعين يوما من الإضراب عن الطعام هي ورفاقها – حتى النساء يمتن من هول عناد السلطات وجبروت سياستها – ذاع الخبر بشكل لافت للنظر، وفي الوقت نفسه بشكل ينبئ بشيء مريب وبحادث رهيب يجرح.
وصلتني حينها، في الأسبوع نفسه الذي استشهد فيه (سعيدة)، قصيدة من الصديق الشاعر عبد الله زريقة، تحت عنوان "سعيدة امرأة أحبت الضوء"، لحنت القطعة بسرعة البرق، كانت تحفة موسيقية من حيث خروجها عن السياقات الموسيقية التي استدرجتها التجربة من قبل، لحن تصويري بامتياز، تداخل بين الأداء الغنائي التعبيري المرهف والنشيد الحماسي، كل السياقات اللحنية اجتمعت في هذه الأغنية. تزامن حادث استشهاد سعيدة لمنبهي وإعدادي لأغنية عن الحادث، مع تنظيم الأسبوع الثقافي لجمعية المدرسة المحمدية للمهندسين بالرباط الذي شاركت فيه. عند بداية الحفلة، وفي جو مشحون بالغضب والخوف والتحدي، فاجأت الجمهور بالأغنية التي تقول كلماتها ما يلي: "أربعون يوما مرت على ضحكتها/بحثت عنها في الألوان/ وجدتها لونا أحمر، عانق الشمس، عانق العينين.../ سألت عنها الأمهات/ قلن لي: سعيدة وطن مسجون.../ بربكم، لا تسألوني عنها/ هل هي امرأة؟/ هل هي وطن؟/ اسألوني: سعيدة سجن ثار/ سعيدة وطن ثار.../ سعيدة مدرسة سجينة/ سعيدة وطن مسجون/ سعيدة طفل فقد أباه في شوارع البيضاء.../ يا وطن الجياع – يا وطن الفقراء / يا وطن الفقراء والمعتقلين / يا وطن الصمود / موتك صمود / دمك صمود / أربعون يوما مرت على سعيدة / تتحدى الجوع تحدى الردة/ تتحدى الجوع والجلاد/ تتحدى تتحدى: وطن القهر/ وطن القمع / وطن الاستشهاد".
وقد تفاعل جمهور هذا الحفل بكلمات هذه الأغنية، حيث "بكى الجمهور سعيدة من خلال مسحة الأغنية الدرامية، فعندما أنتهي من أدائها وقف الجمهور لمدة طويلة يصفق ويرفع شعارات سياسية قوية مطالبا بالحرية والديمقراطية والعدالة ويطالبني بإعادة الأغنية. لقد شكلت هذه الأغنية منعطفا حاسما في مشواري الفني سياسيا وموسيقيا.
فبعد هذه الحفلة استدعيت من طرف تعاضدية الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، وكانت الفرصة مجددا لأداء هذه القطعة في الكنيسة الكبرى بمدينة الدار البيضاء. حيث ساد نفس الحماس والقبول والشعارات. وعندما قررت أمهات المعتقلين السياسيين إحياء أربعينية سعيدة لمنبهي في بيتها بمراكش، استدعيت لأداء الأغنية أمامهن في جو رهيب، منحني فيه الرجال والنساء والشباب كل العطف والحب،
وأنا لازلت شابا في سنة الباكالوريا. ومن هذه الفترة تعودت على أن يشاركني الجمهور أداء الأغاني التي تسمح بذلك، فأصبحت لا أتردد في تلبية رغباته في غناء قصائد وأغان من أدب السجون، ومختلف قضايا الناس مع ما يصاحب ذلك من تطلعات سامية لمغرب منتفض وقتذاك".
وبالإضافة إلى أغاني هذا الفنان حول ظروف الاعتقال السياسي بقساوتها وما تضمن ريبورتوار سعيد المغربي أغان تغنى فيها حول شهداء المعارضة اليسارية ضحايا قمع النظام من خلال أغنية (إلى أمهات الشهداء) للشاعر الإسباني نيرودا يقول فيها:
لم يموتو فإنهم وسط البارود واقفون
كضلالات مشتعلة
أيتها الأمهات
أيتها الأمهات
أمواتكن صامدون
أمواتكن منصبون
كشمس الظهيرة كشمس الظهيرة
على الحقول الواسعة
لم يموتوا فإنهم وسط البارود واقفون
كظلالات
أيتها الأمهات
أيتها الأمهات
اخلعن أثواب الحداد
واجمعن دموعكن
واجعلن منها بنادق
واجعلن منها معادن
معادن وبنادق
وبنادق
الأغنية الملتزمة والتغني بعذابات المنفى السياسي
أمام الملاحقات الأمنية والتصفيات الجسدية التي شنها النظام ضد معارضيه، لجأ البعض منهم إلى بلدان أجنبية، خاصة فرنسا هروبا من بطش السلطة وتعسفاتها؛ فقد لجأ الفقيه محمد البصري وغيره من نشطاء ومناضلي الاتحاد الوطني للقوات الشعبية إلى الجزائر في البداية لينتقلوا فيما بعد إلى دول عربية كسوريا وليبيا ومصر قبل أن يستقروا في بعض الدول الأوروبية التي سبق أن استقر بها عبد الرحمان اليوسفي وغيره من معارضي النظام.
وإذا كان هؤلاء المعارضون من خلال اختيار المنفى قد ضمنوا الإفلات من قبضة أجهزة النظام، فهم بالمقابل عانوا من آلام الغربة والعيش بعيدا عن الوطن بكل ما يمثله ذلك من دفء عائلي وإنساني وإحساس جماعي واحتفال مشترك بمناسبات دينية وغيرها. وقد عانى الفنان سعيد المغربي شخصيا من مرارة المنفى ومعاناة الغربة عندما كان لاجئا بفرنسا. وبهذا الصدد، صرح لإحدى الأسبوعيات المغربية بأنه قد جمعته باليسار حساسية سياسية؛ وعانى كغيره من اليساريين من المنفى؛ حيث أجاب في هذا الشأن بما يلي:
"كنت كتغني على النضال ولكن عمرك ما كنت مناضل. علاش؟
_ أنا كنت فنان أعبر عن رأي المواطن. صحيح عندي حساسية سياسية
يسارية. ولكني ساهمت أيضا في تأسيس مجموعة من المنظمات والجمعيات بحال "جمعية الدفاع عن حقوق الإنسان"، وساهمت في تأسيس الحركة القاعدية في المغرب. وزايدون تا واحد ماعندو بوحدو لاكارط ديال اليسار وخاصة حنا ديل ديك الزمان.
مشيتي لفرنسا هارب، واش كنتي خايف من الاعتقال؟
هربت من بعد حصار ومتابعات ومنع من مغادرة التراب الوطني صدر فحقي. وكنت في اللائحة السوداء ديال الناس الأكثر خطرا وكان معايا فاللائحة فتح الله ولعلو حتى هو.
كيفاش بعدا هرب.
القضية را فيها بزاف ديال الأساطير. واش عن طريق مليلية ولا الجزائر؟
هروبي نظمه مجموعة من رفاقي المناضلين في الناظور. جي بالعود ديالي وطلبنا من رجال القوات المساعدة اللي على الحدود يدوزوني على أساس أنني عندي شي عرس. أما الجزائر فما عندي بها علاقة وما كنحملهاش. صحيح الشعب غزال ولكن الدولة مفلسة".
وبالتالي، فقد عكست بعض أغاني سعيد معاناة المعارضين بالمنفى وإحساسهم الفظيع بقساوة الابتعاد عن دفء العائلة وصحبة الأهل والأصدقاء، والحنين إلى الوطن. وهكذا، تغنى هذا الفنان في أغنية بعنوان (رسالة في جزيرة المنفى) لعذابات المناضلين المنفيين الذين استقروا ببلاد المهجر هروبا من بطش السلطة وملاحقاتها القمعية؛ حيث تضمن نص هذه الأغنية الكلمات التالية:
أماه فلا تبكي
فوحيدك سوف سوف يعود
أماه لا تبكي
غدا سيعود
مع الرياح والعواصف والرعود
مع الحمائم المهاجرة الحدود
أماه لا تبكي
فوحيدك سوف سوف يعود
غدا غدا سيعود
مع الرياح والعواصف والرعود
مع الحمائم المهاجرة الحدود
بعيدا عن الوطن
خلف قضبان الألم
بعيدا عن الوطن
خلف بحار الظلام
بالشمس والسنابل والألبسة
مع الذين ناموا على الأرصفة
مع الأصابع التي تخيف ثوب العاصفة
سوف يعود
سوف يعود
الأغنية الملتزمة والتغني بالمقاومة الشعبية
لم تقتصر أغاني هذا الفنان على التطرق إلى مواضيع الاعتقال السياسي وإضرابات المناضلين اليساريين للاعتراف بهم من طرف السلطة كمعتقلين سياسيين، أو التعرض لآلام الغربة ومعاناة المنفيين السياسيين؛ بل وظف عدة قصائد وأشعار كتبها بعض المناضلين داخل السجون تتحدث عن المقاومة الشعبية للاستعمار ومآل بعض المقاومين الذين لم يتم إنصافهم خلال فترة الاستقلال، حيث تم تهميشهم على الرغم من كل التضحيات التي قاموا بها. ومن بين هذه الأغاني التي لحنت في هذا السياق هناك قصيدة (المعطي باقي عندو ما يعطي)؛ الذي يحكي بشأنها سعيد المغربي ما يلي: "موضوع هذه الأغنية هو حركة المقاومة التي كان وما زال موضوعها غائبا في الإبداع المغربي هي أغنية التاريخ.
حاولت تشخيص تاريخ الاستعمار والاستقلال برموزه الوطنية كالزرقطوني وبرموزه الاستعمارية كالماريشال بيتان وليوطي وتحصيل حاصل تلك الحقبة الصعبة من تاريخ المغرب في شخصية "المعطي" المقاوم البسيط المغلوب على أمره والذي من خلاله بلور الشاعر وضعا مأسويا يتداخل فيه الشؤم والإيمان بالعطاء الدائم للمواطن المغربي وقدرته على المقاومة.
كاتب هذه القصيدة هو الزجال المغربي رضوان أفندي، الذي اهتزت له المشاعر في تلك الحقبة الصعبة عرف بقصائده النارية وكمجدد في بناء القصيدة الزجلية المغربية شكلا ومضمونا تعاملت معه في مجموعة من أغنياتي الناجحة من ضمنها قصيدة "إلى كنا حيين فين القوت" و"مازال شمعي يكدي" و"إفريقيا لكبيرة ثم الأغنية التي نحن بصدد تقديمها "المعطي باقي عند ما يعطي" التي كانت نموذجا آخر في الكتابة الزجلية المغربية, ساعدتني على إبراز صياغة فنية فيها من الحكي الانسياني؛ وهو ما جعلها متميزة داخل مشروعي الموسيقى، حيث اعتمدت تركيب الجزئيات الحياتية لمقاوم مغربي قاوم من أجل إخراج الاستعمار وفور مرحلة الاستقلال سيجد نفسه ساكنا براكة كجزاء له على ماضيه النضالي من أجل التحرر والاستقلال، وسط كومة من الأبناء.
هذه الأغنية أتت في ظرف سياسي حساس سنة 1979، كنت وقتها طالبا بكلية الآداب بفاس حيث كان الوسط الجامعي يشكل متنفسا للمجتمع السياسي بكامله ومجالا سياسيا بامتياز لكل الهيئات السياسية وساحة للنضال الفكري والثقافي. تهافت الأحزاب المعارضة آنذاك، المعترف بها وغير المعرف بها، في السيطرة على الوسط الجامعي كان بهدف تفعيل ثقلها السياسي في المجتمع وتمرير بعض من مطالبها السياسية. في وسط هذا الجو المشحون غنيت أغنية "المعطي" في سياق لحني يتداخل فيه أسلوب الحكي واللحن على غرار أغنية "الأم الوطن". أغنية المعطي باقي عندو ما يعطي" لا زال يطلبها مني الجمهور؛ "لأنها كسرت الحواجز اللغوية وسمت الأشياء بأسمائها دون إسفاف رغم قوة بعض من ألفاظ معجمها اللغوي.".
أما كلمات هذه الأغنية فتترنم بما يلي: "المعطي رقع البراكة/ وركب المسمار/ ورقية رطبت الخبز/رطباتو بالماء/ ورفساتو بالحلبة/ ورمات الكدرة ع النار/ وتعشاو المنكوبين/ تعاشاوأعشى لكلاب/و نعسو الدراري لصغار/ وبال لكبير فيهم عل لحصير/والدبان مكجكج عل لفنار.../سولناك ا المعطي عل لوطان/ أوطاني وجهو مقموش/ وفيه عضة وكية/ وعلى خدو السم مرشوش/ وعينيه زهرية/ وأثر مخالب لوحوش/ وأثر اضباع الطرشة/ ولحيتو تنوض المرة فيا.../ سولناك أ المعطي عل الصبر أزمان أصبرنا/ الصبر أدبرنا/ وعلمنا الذل والخوف علمنا/ علمنا الذل والطاعة علمنا/ وعرفنا البارود المرصع بالمحنة/ وعرفنا الغضب الساكن فقلبنا/ عرفنا الشمعة الكادية في دمنا/وعرقنا السلعة المطبوعة بعرقنا/ واعرفنا الحماية والمارشال بيتان/واعرفنا التفتيش وعساكر ساليكان/ والزرقطوني ياما اجمعنا/ وليوطي ياما فرقنا/ والجماعة غاية/ وفهمنا وحفظنا/ وقفلنا وما قفلنا/كون قفلنا كون فورنا".
وعموما، يمكن القول بأن الأغنية الملتزمة التي نشطت وسط منظمات الحركة الماركسية اللينينية المغربية، وبالضبط منظمة إلى الأمام ومناضليها في صفوف الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، والتي كانت ترددها حناجر الحركة الطلابية خاصة بمناسبة الأيام والأسابيع الثقافية التي كان تشرف عليها التعاضديات، والجمعيات بالجامعات والمدارس العليا مثل المدرسة المحمدية للمهندسين...، قد توارت بسبب تراجع تنظيمات اليسار الراديكالي تحت ضربات القمع السياسي والتفكك الداخلي، أو تدجين اليسار الإصلاحي بفعل الانشقاق الداخلي وإغراء امتيازات خدمة السلطة ومكاسب ريع الدولة. فبعدما راهنت هذه التنظيمات على الأغنية السياسية في مخاطبة الجمهور المثقف وآلية من آليات استقطاب الجماهير المتعلمة لتكون تعبيرا إيديولوجيا عن النضال الطبقي الذي تخوضه الجماهير، اختفت هذه الأغنية من الساحة الفنية إما بسبب إقصائها من قنوات التداول الرسمي من إذاعة وتلفزة، أو بانتقالها إلى المنظمات والحركات الإسلاموية (الجهادية والإخوانية) التي أصبحت توظفها في استقطاب واستمالة شرائح الشباب عبر وسائل التواصل الاجتماعي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.