في 11 شتنبرسنة1973، في دولة التشيلي سيقود الديكتاتور الجنرال "اوغوستو بينوشيه" انقلابا ضد الديمقراطية التي مثلتها قوة الوحدة الشعبية، التي كان يتزعمها المناضل اليساري "سلفادور ألينيدي" إذ استشهد في ساحة المعركة دفاعا عن الديمقراطية وحق الشعب التشيلي في تقرير مصيره. وهي السنة التي استشهد فيها رائد الأغنية الملتزمة في التشيلي فيكتور خارا هو والعديد من رفاقه في ملعب سنتياغو بعدما تم تعذيبه والتنكيل به. من الشيلي نحو المغرب الحدث بتداعياته سيلهم الأغنية الملتزمة ليس في التشيلي أو أمريكا اللاتنية فحسب، بل في أرجاء العالم بما فيه العالم العربي، الذي سيتفاعل مع هذا الأفق الإنساني الكبير، وسيغني العديد من ملتزمي الأغنية السياسية، وسيستحضرون روح المسرحي الفنان "فيكتور خارا" في فلسطين، ولبنان، العراق، وسورية، ومصر، والسودان ومنطقة ظفار الثورية، كما فعلوا في السابق عند استشهاد المناضل الثوري "ارنستو تشي غيفارا" في المغرب كانت الأحداث السياسية العاصفة والقوية التي عرفها العالم والمغرب ،انتفاضة 23 مارس1965 واختطاف الشهيد المهدي بن بركة، وهزيمة 1967، ثورة 1968 الطلابية بباريس، وأحداث 1973 في تشيلي والعديد من المحطات السياسية التي عرفها القرن العشرون، ومنذ منتصفه كانت ملهمة لتتطور هذه الأغنية الملتزمة وتحط فوق منصات العمل الجمعوي الثقافي بداية السبعينيات وساحات الجامعة المغربية أيام قوة حضور الاتحاد الوطني لطلبة المغرب ووحدة جبهته، التي تشكلت من منظمة إلى الأمام و23 مارس، ومنظمة لنخدم الشعب، وما تلاها من تداعيات تشكيل فصيل الطلبة القاعديين بعد إقرار الحظر العملي على منظمتهم العتيدة، وريادة ظهر المهراز كقلعة حصينة لنضالات الحركة الطلابية المغربية . استفادت الأغنية المغربية الملتزمة بشكل كبير من ريبرطوار التجارب الفنية التي كانت في فلسطين، ولبنان، وسورية، ومصر، وتونس، نذكر من هذه الرموز والعلامات المشرقة في سماء هذا الفن المرتبط عضويا بالقضايا الحياتية والمصيرية للشعوب العربية، دون أن ننسى المؤسس الملهم الموسيقار سيد درويش: تجربة الشيخ إمام وأحمد فواد نجم في مصر، مجموعة الطريق العراقية، مجموعة العاشقين في فلسطين، وفرقة المناجم العمالية في تونس، أحمد قعبور، وأبو عرب، مصطفى الكورد، فوزي العائدي، مارسيل خليفة، هذا دون أن ننسى-أيضا- إرهاصاتها الأولى في الموروث الشعبي في فن الملحون والعيطة والأغنية الشعبية، التي كانت تفضح سلوك المعمر والخونة في بعض أغانيها. سعيد المغربي، كمال ونجيب، وليد ميمون في الأغنية الأمازيغية، وصلاح الطويل هي الأسماء التي أثثت مشهد الأغنية الملتزمة في المغرب. لكن يظل سعيد المغربي هو الأكثر إنتاجا وإغناء وإثراء لريبطوار الأغنية المغربية الملتزمة، وربما ارتباطه العضوي بهذا المآل وانشغاله بتطوير الأغنية، هو الذي دفعه لمواصلة دراسته في الموسيقى سنوات تواجده في منفاه الاختياري بفرنسا وهنا سيحصل على دكتوراه كان موضوعها الموسيقى المغربية. بين سعيد وسعيدة سعيد المغربي في معرض تصريحه ل"هسبريس" يقول:" الأغنية الملتزمة هي ككل الإبداعات والتعبيرات الجمالية الحرة، كالشعر والصورة والمسرح وكل الأجناس الإبداعية الأخرى، لها زاوية وشرفة تطل منهما على الحياة والعالم، ومن خلال هذه الشرفة والنظرة للواقع يكبر الفضول وتنمو الأحاسيس خارج كل الاعتبارات السياسية والإديولوجية، سرعان ما يستهويها هذا الاختيار ليصبح مادة تتمحور حولها كل الدلالات السياسية والاجتماعية والثقافية". ويضيف سعيد المغربي من موقع أسفه على مآل هذه الأغنية :"للأسف هذه الأغنية لم تستفد من هذا الانفتاح الحاصل الآن، وكأن هناك أطرافا لا تريد أن يكون لهذه الأغنية حضور في المشهد الفني والإبداعي لهذه المرحلة ". وعن تجربة الأغنية السياسية في ظل الأنظمة الشمولية التي توظف هذه الآخيرة لدغدغة مشاعرها الذاتية يقول سعيد المغربي: "المجتمعات التي تعيش في ظل أنظمة استبدادية وشمولية في كثير من الأحيان لا تستهويها الأغنية السياسية أو تنفر منها كلية، لأن هذه الشعوب بحكم القهر السياسي تستعمل أنظمتها هذه الأغنية لتبرير طموحها الخاص والذاتي، وتعتمد على إثارة الأحاسيس الوطنية المباشرة، لهذه الاعتبارات لم تنجح هذه الأغنية السياسية في كل من مصر وسورية وليبيا". ومن ذاكرة سعيد المغربي التوثيقية لريبرطوار أغانيه نقرأ شهادته عن قصيدة "امرأة أحبت الضوء"للشاعر عبد الله زريقة عن الشهيدة سعيدة المنبهي، وهي شهادة عن مغرب سنوات الرصاص: "الأوضاع في السجون المغربية ليست على ما يرام في سنة 1977، الإضراب غير المحدود للمعتقلين السياسيين اليساريين – المحاكمات الصورية - الاعتقالات المتواصلة والمتابعات - تعذيب متواصل – المغرب، في هذا الزمان بالذات، يئن تحت وطأة القمع وشراسة الاعتداءات والانتهاكات. انتشر الخبر في كل إنحاء البلاد - امرأة استشهدت تحت التعذيب بل توفيت من فرط كبريائها وصمودها، لأنها آمنت بجدية قضيتها بعد أربعين يوما من الإضراب عن الطعام هي ورفاقها – حتى النساء يمتن من هول عناد السلطات وجبروت سياستها – الخبر ينبئ بشيء مريب وفظيع وقع – وصلتني حينها، في نفس الأسبوع من استشهادها، قصيدة شعر من طرف صديق العمر الشاعر عبد الله زريقة تحت عنوان "سعيدة امرأة أحبت الضوء" لحنت القطعة بسرعة برق – كانت تحفة موسيقية من حيث خروجها عن السياقات الموسيقية التي استدرجتها التجربة من قبل، لحن تصويري بامتياز، تداخل بين الأداء الغنائي التعبيري المرهف والنشيد، كل السياقات اللحنية اجتمعت في هذه الأغنية – تزامن حدث الاستشهاد مع الأسبوع الثقافي لجمعية المدرسة المحمدية للمهندسين بالرباط – عند بداية الحفلة، و في جو مشحون بالغضب والخوف والتحدي، فاجأت الجمهور بالأغنية التي ما عشت لحظة في حياتي أتأمل فيها صخب درامي للجمهور مثل هذا اليوم - بكى الجمهور سعيدة من خلال مسحة الأغنية الدرامية، حيث عندما انتهيت من أدائها وقف الجمهور لمدة طويلة يصفق ويرفع شعارات سياسية قوية، مطالبا بالحرية والديمقراطية والعدالة، وطالبني بإعادة الأغنية. لقد شكلت هذه الأغنية منعطفا حاسما في مشواري الفني سياسيا وموسيقيا- بعد هذه الحفلة استدعيت من طرف تعاضديه الاتحاد الوطني لطلبة المغرب بكلية الحقوق بالدار البيضاء –وكانت الفرصة مجددا لأداء هذه القطعة في الكنيسة الكبرى بالدار البيضاء حيث نفس الحماس و القبول ونفس الشعارات – وقد كانت أمهات المعتقلين السياسيين قد قررن إحياء أربعينية سعيدة في بيتها بمراكش، فاستدعيت لأداء الأغنية أمامهن في جو رهيب، أحبني فيه الرجال والنساء والشباب وأنا مازلت شابا في سنة الباكالوريا. ومنذ هذه الفترة تعودت على أن يشاركني الجمهور أداء الأغاني التي تسمح بذلك، فأصبحت لا أتردد في تلبية رغباته في غناء أدب السجون وقضايا الناس والتطلعات السامية لمغرب متقدم وقتذاك". سعيدة – سعيدة...أربعون يوما مرت على ضحكتها بحثت عنها في الألوان وجدتها لونا أحمر عانق الشمس عانق العينين...سألت عنها الأمهات قلن لي سعيدة وطن مسجون... بربكم لا تسألوني عنها هل هي امرأة، هل هي وطن اسألوني، سعيدة سجن ثار، سعيدة وطن ثار.. وإلى الآن وحتى اللحظة، لا تجد هذه الأغنية الملتزمة والسياسية حضورا أو صدى لها في القنوات المسموعة والمرئية سواء العامة أو الخاصة، إلا في الحالات الاستثنائية والنادرة، وربما هذا ما يساهم وبكثافة في حجبها عن الأنظار، لكن سيظل الشارع السياسي وفعاليه من مناضلين ومثقفين من موقع النوستالجيا يحن لها، ومع موسيقاها وبلاغة وبيان كلماتها يستحضر زمن النضال الجميل رغم شراسة جمر سنوات الرصاص. بالقافية الأمازيغية الأغنية الأمازيغية هي الأخرى انخرطت في صيرورة العمق الانساني، من موقع نشدانها للحرية واستعابها لعمق الجرح الأمازيغي المستلهم من التاريخ والأرض، وعبرت بقوة عن مكنون القلق الذي يعتري الإنسان الأمازيغي الذي هُمشت لغته وثقافته في الفترات الحالكة من مغرب سنوات الجمر والرصاص، "الوليد ميمون "هو الصوت الأكثر حضورا في هذه الضفة وتكرس اسمه في المشهد الفني الملتزم في الداخل والخارج، وكانت شرارة حضوره قد انطلقت كحضور فني وإبداعي من ساحة ظهر المهراز بفاس، بعدما كانت إرهاصات حضوره الأولى قد بدأت في مسقط رأسة بمدينة الناضور، وهو إلى الآن مازال يواصل مساره الفني الهادف، الذي حدده لنفسه وانسجاما مع رؤاه الفنية وقناعاته السياسية النقدية إنطلاقا من بلجيكا منفاه الاختياري. صلاح الطويل الفنان الساخر الذي فرض اسمه على الساحة الفنية بتبنيه لأسلوب النقد الساخر من تناقضات السياسة والمرحلة، مازال يعتبر إلى الآن أن الأغنية الملتزمة مازالت متوهجة، هو الآخر ساهم وبكل ما أوتي من قوة إبداعية في أن يضمن لهذا الضرب من الإبداع الفني امتداده وسريانه في مجرى الساحة الفنية المغربية المرتبطة بالنضال وتفعيل الوعي النقدي.