إذا كانت الديمقراطية وسيلة من الوسائل المتعددة التي تتيح لبعض الأحزاب أو الأفراد الوصول إلى السلطة والمراكز التدبيرية التي تسمح بأخذ القرارات، فإن الغايات والأهداف المرجوة منها قد لا تنطبق مع الفلسفة الفكرية التي وجدت من أجلها، والقائمة على الاختيار وتدبير أمور الدولة والمؤسسات ومبدأ التناوب على المسؤولية الحزبية أو الجماعاتية أو غيرها من المؤسسات التي تعتمد على نظام التصويت والاختيار المتنوع بحسب طبيعة القوانين الانتخابية المعمول بها. لذا، فإن هذا النظام المفاهيمي الفلسفي قد يتجه أو ينجر إلى الانحراف ويبتعد عن كينونة الأصل والمرامي مختلفة الأبعاد، تلك المرامي تتلخص في التشجيع على المشاركة الفعالة في تسيير الأمور التي تهم الشعب، والمجتمع ككل. فعوض أن يكون الهدف من الديمقراطية خدمة المصالح العامة لعموم الشعب دون تمييز، قد ينحرف اتجاه البوصلة في اتجاه معاكس تماما لرغبة عامة الشعب، بحيث تتعاظم التجاذبات السياسية في اتجاه ترسيخ المصالح الشخصية أو الحزبية أو العرقية القبلية المحدودة التفكير! فالديمقراطية التي تشتغل بجدلية الأغلبية العددية في ظل غياب المشاركة الواسعة تعد ديكتاتورية بكل المقاييس! فكيف لحزب كيفما كان، حين يصل إلى مراكز القرار يرفع ويتبجح بشعار: "نحن لدينا المصداقية من الأغلبية التي صوتت علينا"؛ في حين هي مجرد أقلية داخل أغلبية لم تشارك في التصويت! في المقابل تلك الأغلبية الصامتة أو غير المبالية للمشاركة السياسية، والتي ترفض الانخراط في الحياة السياسية ولا تشارك أو لم تعبر عن رغبتها لظروف متنوعة، ذاتية وقد تكون موضوعية، بحكم التجارب التي أظهرت الخداع في الوعود والاختباء وراء الإكراهات أو العزف على أوتار خيوط جيوب المقاومة، وغيرها من أشكال البوليميك السياسي الضيق غير الواقعي. إن تمرير القوانين باسم الأغلبية العددية، وفي ظل نظام انتخابي يقوم على مختلف أنواع الريع، كما هو حاليا في نظام اللائحة المخصصة للنساء أو الشباب، من خلال تبادل الأدوار، وتوزيع المناصب في إطار التحالفات أو التوافقات، هو في الأصل قتل للمفهوم التشاركي للعمل الديمقراطي المحدود في نتائجه بشهادة التاريخ. إن فرض الأمر الواقع وتجاهل رغبات ومتطلبات الجماعات والأقليات هو نوع من القمع الديكتاتوري للأغلبية العددية، التي غالبا ما تفرزها أو تصنعها الديمقراطية المشجعة للولائم والولاءات، أو التي تتقن اللعب على أنغام الدين والعرق والجهة والتفاوت الاجتماعي، بدل الانخراط في خدمة الصالح العام والخاص في آن واحد، وبدون مزايدات على الوعي القيمي للطبقات الوسطى والمصالح المشتركة للمواطنين والمواطنات! إن خلق قاعدة ثابتة للأصوات، من خلال توزيع المصالح أو المناصب أو استغلال ثقافة التضامن، أو استغلال الجانب النفسي لثقافة المجتمع من خلال ضرب فئة بفئة أخرى، بهدف كسب أحد الفئات، لضمان ولائها الدائم كخزان انتخابي لتحقيق الأغلبية لا غير فقط سوى الوصول إلى السلطة هو نوع من التحايل الديمقراطي وليس هي الديمقراطية بمفهومها العفيف! فكسب التعاطف المنشود لربح أصوات جديدة في الانتخابات هو في الحقيقة تدمير لقيم الاجماع على الحق والمساواة والكرامة التي لا يمكن لأحد ما يؤمن بالتعددية أن يلجأ إليها في ظل الخداع الأغلبي، وبالتالي الدفع في اتجاه رهن وطن بأفكار مسمومة تتلخص في عبارة أنا ثم أنا ولن أتراجع عن أنا. فالقول إن تعدد وتناسل الأحزاب السياسية من صميم الديمقراطية قول لا يستقيم، لأن هذا التعدد هو دليل على غياب الديمقراطية داخل الهياكل التنظيمية لتلك الأحزاب، إذ تصنع وتخلق ديمقراطية تدعي أنها تحترم إرادة الأغلبية، وذلك بواسطة الإنزالات والمال وقوة الخطابات التي تستغل الظروف الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للركوب عليها وكسب تعاطف الجماهير. ولعل ما جعل البعض يتنبهون إلى ذلك، ليطلق العنان لدهائهم بغية الوصول والتمركز من خلال استغلال الكوطا الريعية المقدسة، عند من ينادون (الأحزاب) أصلا بمحاربة الريع (كوطا النساء وكوطا الشباب)، فالوقائع الحالية تبرهن على ذلك! إن طريقة دهاء بعض الوجوه على استغلال بعض الأحداث وصب الزيت على النار في بعض الاحتجاجات الاجتماعية، بهدف ينم عن رغبة جامحة في الوصول بأقصى سرعة لمنصب ما، من خلالها تكسب شهرة على حساب ضحايا منفعلين لا يقدرون خطورة وإكراهات دهاليز اللعبة السياسية، فها هي بعض الأسر تتألم بفقدان أبنائها حاليا؛ في حين من كان يهيج ويشعل بتدويناته وكتاباته المختلفة العقول ضعيفة التفكير، تمكن من ضمان الصعود والتموقع للحصول على غنيمة كوطا النساء والشباب مستقبلا! لو كانت حقا للأحزاب رغبة في النهوض وتقوية المسار الديمقراطي لبادرت إلى تنظيم المشهد السياسي الذي يتسم بالضبابية، فإحداث ثلاثة أقطاب سياسية لا غير هو عقلنة للمشهد الحزبي الشارد؛ فحزب يمثل اليسار وحزب يمثل اليمين وحزب يمثل تيار الوسط هو منطق السياسة ومصلحة الوطن أولا وأخيرا. لكن وواقع الحال الغريب يظهر التناقض الصارخ، إذ يتحول اليسار إلى اليمين واليمين إلى الوسط، وهكذا دواليك لباقي التوجهات الإيديولوجية المصلحية. إن الأحزاب أصبحت غريبة حتى على نفسها، يتحالفون ويتجادلون ويضحكون ويمرحون، وحين تقترب الانتخابات يتراشقون وفي الوزيعة يتفقون!. في المقابل، يتناسون أن العبث السياسي يولد النفور من الأحزاب والمشاركة في تدبير الشأن العام؛ وهو ما يؤدي إلى خلق بيئة خصبة مليئة باليأس وفقدان الثقة، مما ينعكس سلبا على المبادرة الحرة وإخراج الأموال لتشجيع الاستثمارات، وخلق الثروة وإنقاذ جحافل المعطلين والأرامل من الفقر، والاهتمام أكثر بالوعي من خلال دعم وتوسيع الطبقات الوسطى بقوانين تحميها من الموت البطيء والهشاشة المهددة لوجودها. كما أن الديمقراطية العددية تتحول إلى ديمقراطية متطرفة في بعض الأحيان، خصوصا في حالة استمرار العزوف عن التصويت، وهو ما يفتح المجال لصعود وجوه حاقدة لا تفكر إلا بالتحدي ولو على حساب مصير شعب ووطن وأمة. إن الديمقراطية مقرونة بالوعي والمشاركة الواعية، فتقلد المناصب في جميع المؤسسات السياسية والتدبيرية التي يتم الولوج إليها عن طريق الانتخابات، حبذا لو أطرت بقانون يحددها في ولايتين كحد أقصى، بهدف تشجيع التناوب والقطع مع فكرة بدوني لن يتحقق أي شيء! مع الكف عن تجاهل نظام الكوطا الريعي لأنه أثبت عكس ما كان متوقعا. الوطن يحتاج إلى الجميع، وليس إلى الديمقراطية فقط. المساواة في الحقوق والواجبات وتحقيق العدالة المجالية الاجتماعية هي الغاية من الديمقراطية. أما المنافسة من أجل الوصول للتمتع بالسفريات وتعدد التعويضات بدون أي نتيجة تذكر، فهذا يعني أن ديمقراطيتنا إما أصبحت معاقة أو أمست تمارس في إطار الديكتاتورية العددية.