المطر ينقذ ما تبقى من الموسم الفلاحي ويحفز إنتاج الحوامض والفواكه    مخطط التخفيف من آثار موجة البرد يستهدف حوالي 833 ألف نسمة    كأس إفريقيا للأمم 2025.. الملاعب المغربية تتغلب على تقلبات أحوال الطقس    الجزائر تفتح مشوارها في كأس إفريقيا بالفوز على السودان بثلاثية نظيفة    مقاييس الأمطار المسجلة بالمملكة خلال ال 24 ساعة الماضية    توقيف شخص بحوزته أقراص مهلوسة وكوكايين بنقطة المراقبة المرورية بطنجة    "ريدوان": أحمل المغرب في قلبي أينما حللت وارتحلت        كأس إفريقيا للأمم 2025 .. منتخب بوركينا فاسو يحقق فوزا مثيرا على غينيا الاستوائية    قضية البرلماني بولعيش بين الحكم القضائي وتسريب المعطيات الشخصية .. أسئلة مشروعة حول الخلفيات وحدود النشر    بورصة الدار البيضاء تنهي تداولاتها على وقع الأحمر    توفيق الحماني: بين الفن والفلسفة... تحقيق في تجربة مؤثرة    المخرج عبد الكريم الدرقاوي يفجر قنبلة بمهرجان أيام فاس للتواصل السينمائي ويكشف عن «مفارقة مؤلمة في السينما المغربية»        نشرة إنذارية.. زخات رعدية محليا قوية وتساقطات ثلجية وطقس بارد من الأربعاء إلى السبت    شخص يزهق روح زوجته خنقا بطنجة‬    وفاة رئيس أركان وعدد من قادة الجيش الليبي في حادث سقوط طائرة في تركيا    نص: عصافير محتجزة    وزير الصحة يترأس الدورة الثانية للمجلس الإداري للوكالة المغربية للدم ومشتقاته    رباط النغم بين موسكو والرباط.. أكثر من 5 قارات تعزف على وتر واحد ختام يليق بمدينة تتنفس فنا    أطروحة دكتوراة عن أدب سناء الشعلان في جامعة الأزهر المصريّة    الكشف عن مشاريع الأفلام المستفيدة من الدعم    بنسعيد: الحكومة لا تخدم أي أجندة بطرح الصيغة الحالية لقانون مجلس الصحافة    روسيا تعتزم إنشاء محطة طاقة نووية على القمر خلال عقد    المغرب في المرتبة الثامنة إفريقيا ضمن فئة "الازدهار المنخفض"    رهبة الكون تسحق غرور البشر    الاقتصاد المغربي في 2025 عنوان مرونة هيكلية وطموحات نحو نمو مستدام    الحكومة تصادق على مرسوم إعانة الأطفال اليتامى والمهملين    الأمطار لم توقّف الكرة .. مدرب تونس يُثني على ملاعب المغرب    بول بوت: العناصر الأوغندية افتقدت للروح القتالية    كأس إفريقيا بالمغرب .. مباريات الأربعاء    انفجار دموي يهز العاصمة الروسية    هذه تفاصيل تغييرات جوهرية في شروط ولوج مهنة المحاماة بالمغرب    زلزال بقوة 6.1 درجات يضرب تايوان    فرنسا تندد بحظر واشنطن منح تأشيرة دخول لمفوض أوروبي سابق على خلفية قانون الخدمات الرقمية        مواجهات قوية للمجموعتين الخامسة والسادسة في كأس إفريقيا    مزراري: هنا المغرب.. ترويج إعلامي عالمي بالمجان    "أفريكا انتلجانس" ترصد شبكات نفوذ ممتدة حول فؤاد علي الهمة في قلب دوائر القرار بالمغرب    فدرالية الجمعيات الأمازيغية تهاجم "الدستور المركزي" وتطالب بفصل السلط والمساواة اللغوية    محامو المغرب يرفضون مشروع قانون المهنة ويرونه خطرا على استقلاليتهم    الذهب يسجل مستوى قياسيا جديدا متجاوزا 4500 دولار للأونصة    عجز ميزانية المغرب يقترب من 72 مليار درهم نهاية نونبر 2025    "الهيلولة".. موسم حجّ يهود العالم إلى ضريح "دافيد بن باروخ" في ضواحي تارودانت    الأمطار تغرق حي سعيد حجي بسلا وتربك الساكنة    طقس ممطر في توقعات اليوم الأربعاء بالمغرب    بكين وموسكو تتهمان واشنطن بممارسة سلوك رعاة البقر ضد فنزويلا    عاصفة قوية تضرب كاليفورنيا وتتسبب في إجلاء المئات    كأس أمم إفريقيا 2025.. بنك المغرب يصدر قطعة نقدية تذكارية فضية من فئة 250 درهما ويطرح للتداول ورقة بنكية تذكارية من فئة 100 درهم    بلاغ بحمّى الكلام    فجيج في عيون وثائقها        الولايات المتحدة توافق على أول نسخة أقراص من علاج رائج لإنقاص الوزن    دراسة: ضوء النهار الطبيعي يساعد في ضبط مستويات الغلوكوز في الدم لدى مرضى السكري    دراسة صينية: تناول الجبن والقشدة يقلل من خطر الإصابة بالخرف    خطر صحي في البيوت.. أجهزة في مطبخك تهاجم رئتيك    مشروبات الطاقة تحت المجهر الطبي: تحذير من مضاعفات دماغية خطيرة    من هم "الحشاشون" وما صحة الروايات التاريخية عنهم؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التصوف السني والعداء السلفي..أما حان الوقت للعناق !!
نشر في هسبريس يوم 30 - 05 - 2012

يقول الفقيه العلامة ابن عاشر رحمه الله تعالى في الحبل المتين على نظم المرشد المعين: في عقد الأشعري وفقه مالك**وفي طريقة الجنيد السالك.
والمراد بالطريقة هنا ، طريقة السلوك إلى الله تعالى وهي طريق السادة الصوفية ، وفي مقدمتهم طريق أبوالقاسم الجنيد الذي تشبثت الأمة الإسلامية بمدرسته، وخاصة أهل المغرب ..؛ لأنها أسلم طرق التصوف ، لكونها خالية من الشبهات والبدع ..ومن كلامه رحمه الله: "الطريق إلى الله مسدود إلا على المقتفين آثار رسول الله (ص) ويقول كذلك:"من لم يحفظ القرآن ولم يكتب الحديث لايقتدى به في هذا الأمر، لأن علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة" .
وسئل عن التصوف مرة فقال: "تصفية القلب عن موافقة البرية ، ومفارقة الأخلاق الطبيعية ، وإخماد الصفات البشرية ، ومجانبة الدواعي النفسانية ومنازلة الصفات الروحانية ، والتعلق بالعلوم الحقيقية واستعمال ماهو أولى على الأبدية ، والنصح لجميع الأمة والوفاء لله على الحقيقة ، واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم في الشريعة ". وفي هذا السياق تقول الأستاذة فاطمة اليشرطية الحسنية في كتابها (رحلة إلى الحق):" وقد أثبت جماعة من السادة الصوفية، أن ليس التصوف في قراءة الكتب المؤلفة فيه، وإنما هو السعي في إصلاح القلب، وتطهيره من الأمراض الخبيثة ، وتهذيب النفس وتفقد عيوبها، وإرجاعها إلى جوهرها الأصلي كما قال تعالى: "يا أيتها النفس المطمئنة، ارجعي إلى ربك راضية مرضية .." ويمكن أن نلخص أركان طريقة الجنيد بعبارة المجاهدة ومخالفة النفس ، وكبح جماح غوايتها، مع إلجامها بلجام الشرع الحنيف ، وتسييرها على طريق الله عز وجل ،ومعاداة الشيطان الرجيم وعدم الاكتراث لوسوساته ..
قال تعالى: "والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا.." وجاء في الأثر"لعل أعدى أعدائك نفسك التي بين جنبيك" من أجل ذلك سلكت أغلب الأمة الإسلامية طريقة الإمام الجنيد لباعه الطويل في هذا الشأن ، وباعتباره سيد الطائفة ومعلمها وأحد أبرز رجالات التصوف ، ولم يكن رحمه الله صوفيا فحسب ؛ بل كان فقيها وعالما ومحدثا وفيلسوفا ، ولقب "بسيد الطائفة" و"طاووس العلماء". وتتصل طريقة الجنيد برسول الله صلى الله عليه وسلم بعدة أسانيد من أشهرها: عن السري السقطي عن داود الطائي عن حبيب العجمي عن الحسن البصري عن علي بن أبي طالب(ر) عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وللعلماء بالرجال في هذه الأسانيد مقال ، يقول الدكتور حسن جلاب : "وتتجمع أسانيد الطرق الصوفية وخاصة المغربية عند الجنيد لتتفرع بعد ذلك ، إذ لانكاد نجد طريقة في العالم الإسلامي والعربي إلا وتتصل بها إلا نادرا ، وحتى في هذه الحالة غالبا ما تتوفر هذه الطريقة على سند ثان يوصلها إلى الجنيد ، وتفسر هذه الظاهرة بحرص الطرق الصوفية على أن تكون سائرة على نهج السنة المحمدية لشهرة الجنيد بذلك .."يقول صاحب كتاب (العقيدة الحقة): "لايخفى على ذوي الأفهام من الأمراء والحكام والعلماء والأعلام بل الخواص أن الأمة أجمعت على قبول طريق الإمام الجنيد بن محمد البغدادي القواريري شيخ الصوفية ورأس الجماعة فأرشدوا إلى تقليده في الطريق.." ويقول الشيخ العلامة عبد السلام اللقاني في شرح المنظومة (ارشاد المريد): "...
ومن المعلوم أن المتبع في الأصول إنما هو المعصوم صلى الله عليه وسلم ، وهؤلاء الأئمة رضي الله عنهم جاؤوا فقرروا أحكام الشريعة ودلوا الأمة على طريق النبي عليه الصلاة والسلام ، فأجمعت الأمة على الأخذ بمذاهبهم والاقتداء بهم ومنهم سيد الطائفة الصوفية الجنيد أبو القاسم رحمه الله..". أصله من نهاوند، ومولده ومنشؤه بالعراق ولد سنة 215ه وتوفي سنة 297 ه ، كان فقيها على مذهب أبي ثور، تلميذ الإمام الشافعي ، وصحب خاله السري السقطي ، والحارث المحاسبي فسلك مسلكهما في التحقيق بالعلم واستعماله ، وحج إلى مكة ثلاثين حجة على رجليه .
وقد تعددت الأقوال في علم التصوف وماهيته وموضوعه ومعناه فمن معارض منكر إلى مؤيد مدافع، وتعدد الأقوال فيه يثبت حقيقته العالية والراقية ، إذ أن كل الأقوال والتعريفات تستخرج اشتقاقاتها من أوصاف حسنة رفيعة ، وهذا ينطبق على المعاني اللغوية أوالاصطلاحية أوالعرفية ؛ حيث أن جميع من تناول التصوف بالتعريف ذكروا له أوصافا جليلة ، واختلافهم في وصفه وتعريفه ،جاء من اختلاف الرؤى والأفهام لهذا الأمر العظيم. قال الإمام الجنيد رحمه الله :"التصوف استعمال كل خلق سني وترك كل خلق دني" . أما شيخ الإسلام القاضي زكريا الأنصاري رحمه الله تعالى يعتبر التصوف علم تعرف به أحوال تزكية النفوس وتصفية الأخلاق وتعمير الظاهر والباطن لنيل السعادة الأبدية.. وقد شبه الشيخ حمزة بالعباس(شيخ الزاوية البوتشيشية المغربية) الطريقة الصوفية بالمستشفى وقال:"الطريقة أشبه بالمستشفى ، وأنتم الممرضون، والشيخ المعلم هوالطبيب ، فاعفوا واصفحوا وارفقوا بعيال الله ، والخلق عيال الله..".
نعم التصوف هو مستشفى ودواء القلوب السقيمة المريضة التي ابتعدت وحادت عن صراط الله المستقيم ، لذا ساداتنا الصوفية اعتبروه علما يبحث في أهم أركان الدين الإسلامي ألا وهو الإحسان الذي عرفه النبي صلى الله عليه وسلم بأنه :"أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك"، علما أن الشريعة الإسلامية تنقسم إلى ثلاثة أقسام: قسم العقيدة وهو الجانب الذي يبحث في توحيد الله و مايليق بجلاله ، كما يبحث في أسماء الله وصفاته والقضاء والقدر والغيبيات عموما...وقسم العبادات والمعاملات الذي يبحث في الصلاة والزكاة والصيام.. وفي المعاملات كالبيع والشراء والرهن وغيره من أبواب الفقه الإسلامي..
أما القسم الثالث وهو الأخلاق، وهو الجانب المهم والأساسي في ديننا الإسلامي الذي افتقدته الأمة في عالم اليوم، كما غيبته الحركات والجماعات الإسلامية المعاصرة من برامجها التربوية والتعليمية ؛ وفي مقدمة هذه الجماعات الإسلامية السلفية التي تعتبرالتصوف كفروزندقة وبدع وخرافات ما أنزل الله به من سلطان، ولهذا تراهم –للأسف- عندما يصلون إلى سدة الحكم أوتسند إليهم مسؤولية الإشراف عن قطاع معين أومؤسسة ما أول مايقومون به هو هدم الأضرحة وقبورالأولياء، بالإضافة إلى هدم زواياهم، وخيردليل على ذلك مافعلته أخيرا بعض العناصرمن الثورة الليبية المتشبعة بأفكارالسلفية التكفيرية، تبعهم في ذلك سلفيو تونس بهدم معالم حضارية وتراثية وتكفيرالصوفية ومن يسيرفي فلكهم أويصلي في زواياهم ..!! هؤلاء غيبوا عمدا أوجهلا من أوساطهم قيم الحب والتسامح واللين والعفة والطهارة والأمانة والصبر والإخلاص والوفاء واليسر والأخلاق الفاضلة عموما..!!
بل - للأسف الشديد- أعلنت الحرب على كل من ينتمي إلى هذه المدرسة الصوفية ، التي جعلت من أهدافها تزكية النفوس ، وكيفية تخليتها من أمراضها وكل مالا يرضي الله عزوجل ، بالإضافة إلى تحليتها بالأوصاف الحميدة التي كان عليها السلف الصالح لهذه الأمة..وعليه نقول لهؤلاء جميعا وخاصة لمن ابتلي بلوثة الفكرالسلفي التكفيري أما حان الوقت للإعتراف..للعناق..للتسامح..للإنتماء..!!. علما أن التصوف كان حالة وسلوكا تلقائيا للصحابة الكرام بحكم اتصالهم برسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يكن هناك ما يدعو إلى تنبيههم إلى أحوال ومناهج تربوية كانوا قائمين بها فعلا في تلك الفترة النبوية الشريفة ، وذلك أن الاسوة برسول الله صلى الله عليه وسلم كانت هي دليلهم وبوصلتهم تجاه مسيرة حياتهم ومعاملاتهم ..
لأن الله سبحانه وتعالى أمرنا بالتأسي به عليه السلام فقال :" ولكم في رسول الله اسوة حسنة". فالتصوف إذا هو العودة بالناس إلى جوهر الدين والوصول بهم إلى مقام "الإحسان" ومعلوم أن هذا المقام محله الروح والقلب والنفس ، فيحتاج إلى أهل الخبرة بهذا الفن وإلى مختصين به ، كما أن الفقه له أهله وباقي سائر العلوم من طب وهندسة وفلك ورياضيات ..ولتقريب هذا الفن وحقيقته من أذهان منتقديه ومعارضيه نقول: إن الله أمر بالصلاة فقال:"وأقيموا الصلاة" فإذا أردنا أن نتعلم الصلاة وسائر العبادات نذهب إلى الفقهاء فنتعلم منهم شروطها وأركانها وسننها ومكروهاتها ودخول وقتها.. ولكن الله عزوجل يقول أيضا: "قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون" فالخشوع أيضا مطلوب في الصلاة ، ولكننا لو بحثنا في كتب الفقة فلن نجد لكيفية الخشوع أولتحصيله جوابا ، لأن الخشوع والوصول إليه وحب الناس والعفو والتسامح والكره والغضب والخيانة والغدروالغش والوسواس والنفاق والحقد والكبروالغل والغدر وعدم الأمانة..
هذه الأمور ليست من اختصاص مشايخ وفقهاء النصوص ، وإنما هي من اختصاص فقهاء القلوب ، وهذا هو الفقه المسمى "التصوف" الذي لايخرج مطلقا عن الشرع ومقاصده ، فتلبسه بالشرع الحنيف كتلبس الروح بالجسد ، أما من يعتبر التصوف شعوذة ودجل وخرافات فهو إما جاهل بحقيقة هذا العلم ، أو جاحد مكابر أعمى الله بصيرته ؛ لأن ظهور هذا العلم الجليل جاء طبيعيا بعد ما ابتعد الناس عن الهدي النبوي وعن الحالة الأولى للسلف الصالح رضوان الله عليهم أجمعين ، له ضوابط وقواعد واصطلاحات ومناهج شأنه شأن باقي العلوم، كالفقه والحديث والتفسير والنحو والبلاغة والعروض..ولكي لايتلاعب به كل من هب ودب من المنتحلين والمغرضين ، فكان لايؤخذ إلا عمن كان مجازا فيه الموصول بإجازات إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول الإمام القشيري رحمه الله متحدثا عن نشأة التصوف وحقيقته: " اعلموا أن المسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يتسم أفاضلهم في عصرهم بتسمية سوى صحابة الرسول إذ لاأفضلية فوقها ، فقيل لهم الصحابة ، ثم اختلف الناس وتباينت المراتب ، فقيل لخواص الناس ممن لهم شدة عناية بأمر الدين (الزهاد والعباد)، ثم ظهرت البدعة وحصل التداعي بين الفرق فكل فريق ادعوا أن فيهم زهادا ، فانفرد خواص أهل السنة المراعون أنفسهم مع الله ، الحافظون قلوبهم عن طوارق الغفلة ، باسم التصوف ، واشتهر هذا الإسم لهؤلاء الأكابر قبل المائتين من الهجرة.." . وبما أن التصوف يعنى بفقه القلوب ، والقلب هو سلطان الجسد وعليه تدور جملة من النواهي والأوامر تجعله إن هو امتثل أمر الله قلبا منورا بنوره وأهلا لأن يكون محل نظر الله إليه، وفي هذا المعنى يقول الرسول صلى الله عليه وسلم :"ألاوإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ، ألاوهي القلب" .
وإذا علمنا أن الجوارح تتحرك وفق مايمليه عليها القلب ، إذ هو المحرك لها وهي تابعة له ، وعلى هذا الأساس كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه أهمية تنقية القلوب وتزكية النفوس فيقول صلى الله عليه وسلم :"إن الله لاينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم "من أجل ذلك فإن الكنز الثمين الذي ينفع الإنسان يوم لقاء ربه هو القلب المملوء بمحبة الله تعالى المعافى من الأحقاد والأمراض والأدران ..قال تعالى:"يوم لاينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم " . لذا تفوقت مدرسة التصوف على المدارس الفقهية الأخرى لما تحمله من أهمية في ربط الإنسان بربه عبر التزكية المخاطب بها كل مكلف عاقل، يقول تعالى:"قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها.." ولما للتصوف من دور فعال وبارز في تهذيب سلوك المسلم وتربيته على محبة الله ورسوله فقد جعله علماء الإسلام من الفروض العينية على كل مسلم عاقل بالغ وعلى رأسهم الإمام الغزالي رحمه الله حيث قال :" الدخول مع الصوفية فرض عين إذ لايخلو أحد من عيب إلا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام" وروي عن الإمام مالك بن أنس رحمه الله أنه قال :"من تفقه ولم يتصوف فقد تفسق ، ومن تصوف ولم يتفقه فقد تزندق ، ومن جمع بينهما فقد تحقق" أما الإمام الشافعي فقد ثبت عنه أنه قال:"حبب إلي من دنياكم ثلاث : ترك التكلف وعشرة الخلق بالتلطف، والاقتداء بطريق أهل التصوف".
وحتى الإمام أحمد بن حنبل الذي كان له عداء واضح مع الصوفية وكان يمنع ولده من مخالطتهم والجلوس معهم وهذا قبل مصاحبتهم ، وعندما عرف أحوالهم وغزارة علمهم وصدق لسانهم وصفاء قلوبهم قال لولده مرة ثانية:"ياولدي عليك بمجالسة هؤلاء القوم فإنهم زادوا علينا بكثرة العلم والمراقبة والخشية والزهد وعلو الهمة". إن تركيز التربية الصوفية على محبة الله ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم، والسعي في سبيل عياله ومخلوقاته مع تغليب الإحسان في كل شيء ...فهذه الآفاق المعنوية والسلوكية والأبعاد الروحية التي ترسخها وتركزها التربية الصوفية في تلامذتها، توفر لنا دعامة قوية في عصرنا المادي الهمجي لإعادة النظر في كثير من تصرفاتنا وسلوكاتنا التعصبية سواء للأعراق أو الطوائف أو المذهبيات، ويدعونا إلى القبول بالآخر وجودا، بل الاعتقاد في ضرورة وجوده كمظهر من مظاهر الرحمة الإلهية التي تجلت في آيات وحقائق تتيح للإنسان فسحة الحياة بأشكال وأنماط وألوان متعددة في مجاليها ومرائيها، متوحدة في ينبوعها ومصبها. فتعدد أذواق الصوفية ومواجيدهم وخصوصية تجربة كل عارف منهم وتنوع وثراء ما أسفرت عنها تلك التجارب من معارف ومذاقات، مع نهلها من نفس بحار القرآن والسنة النبوية الشريفة كل ذلك يؤكد وسع الفضل الإلهي الذي لا يحجر، ويشهد على رحابة المعرفة الإلهية التي لا حد ولا ساحل لها. قال تعالى في كتابه العزيز: "قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا".
وفي الأخيرندعوالجماعات السلفية في العالم إلى مراجعة أفكارها ومناهجها ومواقفها العدائية تجاه هذه المدرسة الصوفية النبوية ونقول لها: فأنتم في الحقيقة أشبه بشخص يحرم نفسه من شيء نفيس جدا لأنه يجهله ولايعرف قيمته، ومن جهل شيئا عاداه ، وفي مناقب الشافعي للبيهقي من طريق الربيع سمعت الشافعي يقول: العلم جهل عند أهل الجهل، كما أن الجهل جهل عند أهل العلم، ثم أنشأ يقول:
ومنزلة الفقيه من السفيه * كمنزلة السفيه من الفقيه
فهذا زاهد في قرب هذا * وهذا فيه أزهد منه فيه
ويشير إليه قوله تعالى: (بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه)، وقوله: (وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم)، وهذا حال السلفية مع الصوفية، فالتصوف الإسلامي السني لايعني الانعزال عن الحياة ، وأن الزهد عند الصوفية هو زهد قلبي ، لايكون فيه للعبد تعلق بغير مولاه جل جلاله ، وهذه الأمورلاتدركها الجماعات السلفية.
ومن أجل ترسيخ هذه المبادئ والقيم الخلقية الربانية في نفوس الناس اليوم، لابد لأهل الاختصاص في هذا الفن ولمدراء المدارس الصوفية والزوايا العلمية العالمية النهوض من جديد والقيام بدورهم الريادي لإنقاذ الأمة من مستنقعات الانحلال والمجون والتطرف والغلو والحزبيات الضيقة التي بدأت تنشرخيوطها هنا وهناك وفي أغلب بقاع العالم الإسلامي والعربي.. فإذا لم يقم العلماء بواجب التبليغ والتوضيح وتبيين الأمورلأصحاب المدارس التكفيرية المعادية لهذه المدرسة التربوية فإن الفتنة قادمة لامحالة..!! ويبقى الهدف الأساسي من التربية الصوفية في عصر المادة الصماء والفكرالسلفي التكفيري هو بناء شخصية مسلمة متوازنة سوية تألف وتألف، وتوازن بين مطالب الدين والدنيا، وبين عالم الغيب وعالم الشهادة، وعلى هذا الأساس اعتبر كبراء هذا العلم أن التصوف هو لب الدين وجوهره ولحمته.
*الكاتب العام للمجلس الأعلى للأئمة والشؤون الإسلامية بالبرازيل


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.