بينما كنا جلوساً عند صديق خليجي، ليلة أمس، نتجاذب أطراف الحديث المعاد، ونخوض في ما ضره أكثر من نفعه، خاطبني من لا أثق في كلامه قائلاً: "بلغني، يا صاحبي، أن وزيركم في الأوقاف قد تشابه عليه الأمر، و راح يسرد قصة بيعة الرضوان و الشجرة المذكورة في القرآن، و يجانس بينها و بين مظلة الملك التي توضع فوق رأسه يوم تجديد الولاء... و لا أخفيك أنه قد أصابني ما أصاب الوزير، فتشابه علي الأمر كما تشابه عليه، و إني أراك مغربي الأصل، قد يَتيسر لك فَهْمُ ما تعسَّر علينا، فافتنا في أمرنا يا صاحبي، في شأن البيعة هذه، علنا نفوز في هذه الليلة الرمضانية بما ينفعنا في آخرتنا و يعتقنا من النار..." وكان صاحبي هذا، الذي لا أثق به، يتكلم في صوت حازم، و حماسة تكاد تبلغ العنف، فكان كثير الحركة و الاضطراب، يقوم و يقعد، و يحرك ذراعيه حركات عنيفة، كأنه في ساحة المعركة، لا في مجلس سمر و أنس... فقلت له في ما قلت: " ويحك يا أبله! لقد شابت البلاهة في رأسك... و لم تعد تفرق بين العالِم المجتهد، الجالس فوق كرسي الإفتاء، يستنبط الأحكام، و يقيس هذا على ذاك، و يرجح رأي أحدهم على رأي الآخر، و هو على سعة علمه و طول باعه، خائفٌ وَجِلٌ... و بين العبد لله المذنب، المُبْتَلَى بصُحبتك، الذي لا يعرف من أمر دينه أكثر من شروط الوضوء و نواقضه، و أركان الصلاة و مبطلاتها... و كيف تُفردني بسؤالك، و كأن خطيب جامع المدينة ليس معنا، و هو على ذلك جالس بيننا يسمع كلامنا و يتفكه بحديثنا؟ " فخطرت ابتسامة خفيفة، تهتز على أفواه الجلوس، لم تبلغ الضحك، وانطلقت من المباح المَعْفوِّ عنه... فاسترق الحديث صديق آخر، و خاطب الإمام قائلاً: يا إمام، أنت خطيبنا و شيخنا و بركتنا، فحدثنا عن أمور البيعة و شروطها و الإمارة و أحكامها، و دعنا من هاذين المشاكسين، فقد ضاقا كلاهما بصاحبه، و أصبحا لا يلتقيان في مجلس إلا ليفترقا على ما هما عليه الآن من تناطح الكباش و تصارع الثيران. فضحك الإمام حتى بدت نواجذه، و أقبل علينا بعفو القادر يحدثنا قائلاً: " قاتل الله الجدال و المجادلين... لقد كان في ما مضى، عالم فقيه، معروف بصرامته، يُدرس الحديث لثلاثة آلاف صبي، فكان هذا الفقيه إذا تعب ركب حمارًا، ودار به على تلاميذه، يمتحنهم في الحفظ... فيكون إقبال الحمار على الصبي همًّا، وإدباره عنه سرورًا. وما أرى الشيطان إلا قد تعب في مجلسكم هذا، فركب أحدكما، ليدور علينا نحن يسألنا: ماذا حفظنا من أمر البيعة و الإمارة؟ " فسكت و سكتنا، و عدل جلسته و تنحنح، و نظر إلى السماء مهمهماً بكلمات بينه و بين نفسه، وعاد إلينا و أنشأ يقول: " ...أما البيعة فهي رأس هذا الأمر و عماده، فقد حرص رسول الله صلى الله عليه و سلم عليها كل الحرص، و كان يقول لأصحابه " من مات وليس فى عنقه بيعة مات ميتة جاهلية ". بل حتى بعد وفاة النبي، تأخر الصحابة عن دفنه ثلاثة أيام حتى وقعت البيعة على أبي بكر الصديق، مخافة أن تنحل عقدة المسلمين و تذهب جامعتهم. وقد بايع نفر من الأنصار رسول الله قبل الهجرة بيعتان، أولاهما، بيعة العقبة الأولى، كانت على ألا يشركوا بالله شيئًا، ولا يسرقوا، ولا يزنوا، ولا يقتلوا أولادهم، ولا يعصون النبي في معروف، فمن وفي منهم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئًا فعوقب به في الدنيا، فهو له كفارة، ومن أصاب من ذلك شيئًا فستره الله، فأمره إلى الله؛ إن شاء عاقبه، وإن شاء عفا عنه. ولما ازداد عدد المسلمين في المدينة، و قويت شوكتهم، و تغلغل الإيمان في قلوبهم، أتوا رسول الله في موسم الحج، يبايعونه على السمع والطاعة في العسر واليسرِ، والمنشط والمكره، وعلى أن لا ينازعوا الأمر أهلهُ، إلا أن يروا كفراً بواحاً، وعلى أن يقولوا الحق، لا يخافون في الله لومة لائم. فكانت تلك بيعة العقبة الثانية، و كانت على إثرها هجرة الرسول إلى المدينة... وأما بيعة الرضوان التي ذكرها ذلك الوزير، فكانت في الحديبية بعد أن جاء النبي و أصحابه يريدون العمرة. فبعث رسول الله عثمان بن عفان يخبر قريشاً أن محمداً لم يأت للقتال. فلما انقطع خبر عثمان، شاع بين المسلمين أنه قتل. فنادى عمر بن الخطاب و قد تفرق المسلمون في ظلال الشجر: "أيها الناس البيعة البيعة "... فثار الناس إلى رسول الله، وهو تحت الشجرة؛ فبايعوه على أن يقاتلوا و لا يفروا... فرضي الله عنهم لِمَا عَلِمَ من صدق إيمانهم. فعاد عثمان، و كان صلح الحديبية... و أما تلك الشجرة التي شبهها الوزير بالمظلة، فقد اختلفت روايات السلف في أمرها؛ فمنهم من يقول أن عمر بلغه أن أقوامًا يزورون شجرة الرضوان، ويصلون هناك، فأمر بقطع الشجرة؛ و منهم من يقول أن السيل جرفها ولم يعد لها أثر... وهكذا كانت البيعة ملازمة لرسول الله، تنعقد بها أمور عظيمة، و أخرى أقل عظمة بحسب تدرج الإيمان في نفوس الناس، و بحسب تكاليف الدين الجديد... فكان رسول الله يبايع الأطفال كذلك، حيث بايع عبد الله بن الزبير وهو ابن سبع سنين... أما عن بيعة النساء، فيروى أن هند، زوجة أبي سفيان، قاتلة حمزة و لائكة كبده، جاءت يوم فتح مكة، تبايع النبي بيعة النساء بعد أن أعلنت إسلامها، متنكرة في نقابها خوفاَ من رسول الله أن يعرفها لما صنعت بعمه، سيد الشهداء، يوم أُحُدٍ. فخاطبهن الرسول قائلاَ: أبايعكن على أن لا تشركن بالله شيئا، و لا تسرقن. فنطقت هند من وسط جموع النساء و قالت: إن أبا سفيان رجل شحيح... فلا أبايعك على السرقة، إني أسرق من مال زوجي! فقال أبو سفيان: ما أصبت فهو لك حلال... فضحك النبي وعرفها، فقال لها: وإنك لهند؟ قالت: نعم، فاعف عما سلف يا نبي الله، عفا الله عنك، فقال: ولا تزنين. قالت : أو تزني الحرة؟ فقال: لا والله، ما تزني الحرة... و لما فرغ النبي من البيعة، رجعت هند إلي بيتها و جعلت تكسر صنمها وتقول: كنا منك في غرور... كنا منك في غرور... والمقصود هنا بالحرة: نقيض الأمة والجمع حرائر. ومنه حديث عمر عندما قال للنساء اللاتي كن يخرجن إلى المسجد لأردنكن حرائر أي لألزمنكن وضع الحجاب، لأن الحجاب إنما ضرب على الحرائر دون الإماء... فكانت حرية المرأة تقاس بمدى عفتها و صونها لعرضها... وبعد وفاة النبي، لزم الصحابة و من تبعهم البيعة رغم ما حصل في الفتنة الكبرى... و من جميل ما ورد في الأثر أن عمر بن عبد العزيز قام إلى المنبر يوم ولي الخلافة فقال: "أيها الناس إني قد ابتليت بهذا الأمر على غير رأي مني فيه ولا طلب له... ولا مشورة من المسلمين، وإني خلعت ما في أعناقكم من بيعتي، فاختاروا لأنفسكم خليفة ترضونه ". فصاح الناس صيحة واحدة: قد اخترناك يا أمير المؤمنين ورضينا بك، فَََولِّ أمرنا باليُمن والبركة. فأخذ يحض الناس على التقوى ويزهدهم في الدنيا ويرغبهم في الآخرة، ثم قال لهم: " أيها الناس أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيت الله فلا طاعة لي عليكم " ثم نزل عن المنبر وقد تمت البيعة للخلافة... أما إمارة المؤمنين التي تسألون عنها، فهي ارتفاع نفس من النفوس العظيمة إلى أثر النبوة؛ كأن القرآن عرض المؤمنين جميعًا ثم رضي منهم رجلاً للزمن الذي هو فيه، ومتى أصيب هذا الرجل القرآني، فذاك وارث النبي في أمته وخليفته عليها، وهو يومئذ أمير المؤمنين... و اعلموا أن الله ينزع بالسلطان ما لا ينزع بالقرآن، كما ورد عن عثمان بن عفان رضي الله عنه. إن هذه الإمارة، يا أصحابي، إنما تكون في قرب الشبه بين النبي ومن يختاره المؤمنون للبيعة. وللنبي جهتان: إحداهما إلى ربه، وهذه لا يطمع أحد أن يبلغ مبلغه؛ والأخرى إلى الناس، وهذه هي التي يقاس عليها. وهي كلها رفق و رحمة و عمل و تدبير... إلى غيرها مما يقوم به أمر الناس؛ وهي حقوق وتَبِعات ثقيلة، تنصرف بصاحبها عن حظ نفسه، وبهذا الانصراف تجذب الناس إلى صاحبها. فإمارة المؤمنين هي بقاء مادة النور النبوي في المصباح الذي يضئ الإسلام... ويل للمسلمين حين ينظرون فيجدون السلطان بينه وبين النبي مثل ما بين دينين مختلفين. ويل يومئذ للمسلمين! ويل يومئذ للمسلمين! و طوبى للمسلمين حين ينظرون فيجدون السلطان أقرب ما يكون لخُلق النبي. طوبى يومئذ للمسلمين! طوبى يومئذ للمسلمين! " فقمنا من مجلسنا، لا ندري أ فهمنا القصد أم زدنا جهلاً على جهل... و لا ندري أ بلغنا بإيماننا بيعة الرضوان، أم لا زلنا لم نرقى لبيعة النساء الحرائر... _____________________ * كتبت هذه المقالة قبل يوم واحد من إلقاء الدرس الديني من سلسلة الدروس الحسنية الرمضانية، الملقى من طرف الأستاذة نعيمة جمال بنيس٬ تحت عنوان "بيعة النساء". و التوافق في العنوانين محض صدفة. [email protected]
