حادث سير مروّع بطنجة يخلف قتيلاً وثلاثة مصابين أحدهم في حالة حرجة (صور)    تمرير مشروع قانون المسطرة الجنائية    عندما تتحول القرارات السياسية من حسابات باردة إلى مشاعر مُلتهبة    من الرياض.. ترامب ينهي العقوبات على سوريا ودمشق ترحب بالخطوة    السكوري: الحكومة تتطلع إلى مواصلة تحسين مؤشرات التشغيل لخفض البطالة إلى مستويات معقولة خلال السنة الجارية    بنعلي: الطاقة المركبة من مصادر متجددة تسجل ارتفاعا فاق 5 في المائة بين 2021 و2025    أجواء ربيعية غير مستقرة بالمغرب.. زخات رعدية وبَرَد وانخفاض في درجات الحرارة بعدد من المناطق    ترامب: السعودية ستنضم إلى الاتفاقيات الإبراهيمية "في الوقت المناسب"    فضيحة اختطاف معارض في فرنسا تهز النظام الجزائري: خمسة موقوفين وتحقيقات تصل إلى تبون    إسرائيل تواصل هجماتها الدامية على مستشفى خان يونس وتقتل 28 شخصا    الداخلة تستقبل السفير الهنغاري: آفاق جديدة للتعاون والاستثمار بين المغرب وهنغاريا    صحيفة فرنسية: المغرب يحصد ثمار إرادة سياسية قوية لدعم بيئة الشركات الناشئة    مجلس النواب يصادق بالأغلبية على مشروع قانون يتعلق بجبايات الجماعات الترابية    حريق مهول قرب مصنع للعجلات المطاطية بمنطقة "طنجة تيك" واستنفار واسع للسلطات    تفكيك شبكة دولية لتهريب المخدرات وغسل الأموال بين المغرب وإسبانيا.. توقيف 15 شخصاً ومصادرة ممتلكات بالملايين    بميناء الناظور.. جهاز السكانير يفضح محاولة تهريب 13.980 قرصاً من أخطر المؤثرات العقلية    إحباط محاولة تهريب حوالي 14 ألف قرص إكستازي بميناء الناظور على متن شاحنة.. وسائقها في قبضة الأمن    نزار بركة يستقبل وفد الحزب الشيوعي الصيني ويؤكد تقاطع الرؤى حول السيادة والتنمية والسلام    مَأْزِقُ الإِسْلاَمِ السِّيَاسِي    نادية فتاح: حجم الدعم المخصص للمواد الأساسية تجاوز 100 مليار درهم خلال الفترة ما بين 2022 و2025    الشعب المغربي يحتفل بالذكرى ال69 لتأسيس القوات المسلحة الملكية    بورصة البيضاء تنهي التداول بالأخضر    الركراكي: حكيمي قائد حقيقي ومرشح للكرة الذهبية    هشام بلاوي الوكيل العام الجديد للملك لدى محكمة النقض، رئيس النيابة العامة    ‮«‬الأسد ‬الإفريقي ‬2025‮»‬: ‬أكبر ‬مناورة ‬عسكرية ‬في ‬القارة ‬تنطلق ‬من ‬المغرب ‬بمشاركة ‬أمريكية ‬ودولية ‬واسعة    المجلس الوزاري: حول الأسماء والأشياء!    محمد وهبي يؤكد أن شبان المغرب قادرون على تحقيق أشياء عظيمة    نشرة إنذارية: زخات رعدية قوية مصحوبة محليا بتساقط للبرد بعدد من مناطق المملكة    الاستقلال يدعو لفتيت إلى تسريع مراجعة القوانين الانتخابية استعدادًا للاستحقاقات المقبلة    وزارة الداخلية في حكومة الوحدة الوطنية: الأوضاع الأمنية في العاصمة الليبية "تحت السيطرة"    حكم جديد.. 3 ملايين ونصف تعويضاً لسيدة عضها كلب    أزمة دواء اضطراب فرط الحركة وتشتت الانتباه في المغرب.. يفاقم معاناة الأسر في صمت    الصين تعزز شراكتها مع أمريكا اللاتينية بخمس مبادرات تنموية وإنسانية جديدة    صافرة رومانية تضبط نهائي دوري أبطال أوروبا    دراسة من هارفارد: شرب الماء الكافي يعزز التركيز الذهني ويقلل التعب والإرهاق    في برنامج "مدارات" : لقاء مع الباحث الأستاذ أحمد متفكر ، وحديث حول سيرة محمد ابن الموقت المراكشي    أسعار ‬الأسماك ‬في ‬ارتفاع ‬متواصل ‬وسمك ‬الفقراء ‬بات ‬نادرا ‬في ‬الأسواق    اللجنة الوطنية الأولمبية المغربية.. انتخاب سفيان البقالي رئيسا للجنة الرياضيين    انطلاق أشغال الدورة التكوينية للحصول على رخصة التدريب المستوى الثاني لكرة القدم الشاطئية    مراكش ومدن مغربية أخرى تحتفي بموسيقى موزارت لتوحيد المواهب المتوسطية    غزة تحاصر كان.. 380 فنانًا يتهمون إسرائيل بالإبادة    الرباط تحتضن أول مهرجان لفن الراب "212'FlowFest"    تقرير دولي يكشف: المغرب أرخص دولة في تصنيع السيارات.. والسعر سيُفاجئك    المجنونة المتحرِّشة بالنساء الحوامل    المغرب الفاسي يثق في منتوج النادي    شرطة ألمانيا تفكك "شبكة متطرفة"    لتضيء نضالات الأمس دروب الغد    مشكلة الوعي الزائف وشروط امكان الوعي الحقيقي    الأغذية فائقة المعالجة تهدد بأعراض "باركنسون" المبكرة    الهيئة المغربية لسوق الرساميل تؤشر على المنشور المتعلق ببيع أسهم "رونو"    برشلونة على أعتاب لقب "الليغا" وريال مدريد يودّع أنشيلوتي    حكيمي يعزز استثماراته الرياضية بشراء نادي إسباني    تركيا.. أزيد من 64 مليون مسافر عبروا مطارات البلاد خلال الأشهر الأربعة الأولى من 2025    ماذا نعرف عن أسباب وأعراض متلازمة مخرج الصدر؟    عامل إقليم الدريوش يترأس حفل توديع حجاج وحاجات الإقليم الميامين    إرشادات طبية تقدمها الممرضة عربية بن الصغير في حفل توديع حجاج الناظور    كلمة وزير الصحة في حفل استقبال أعضاء البعثة الصحية    التدين المزيف: حين يتحول الإيمان إلى سلعة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



العَلمانية في المغرب، بأي معنى؟
نشر في هسبريس يوم 06 - 12 - 2012

هذا المقال هو في الأصل بحث مقتضب، نشرتُه في مجلة 'الآداب" البيروتية (عدد صيف 2012 الصفحات 38-39-40) بناء على دعوة كريمة من مراسلها بالمغرب الذي كان يهيئ ملفا حول العَلمانية بالمغرب. وأنشر هنا هذا المقال، بعد تعديله بشكل كبير، كي أُشرك المُهْتمِّين، بعضا من آرائي ومزاعمي حول الموضوع.
مدخل:
أنطلق من أطروحة مفادها أن الديمقراطية لا تشترط العَلمانية التي هي –أي العَلمانية- وِفق تصور، أزعم أنه إقصائي، فصلٌ بل إبعاد للدين عن السياسية وعن الدولة.
أبني هذه الأطروحة على ما أزعم أنه تعريف للعَلمانية (1)، وعلى دعوى حول طبيعة حضور الدين في المجال السياسي وفي الدولة (2). وأحاول عبر ذلك أن أبرز الطابع غير الديمقراطي لديمقراطية الاشتراط (اشتراط العَلمانية الإقصائية لبناء الديمقراطية) (3).
1- العَلمانية، محاولة في التأويل:
هناك كلمتان يجب التمييز بينهما، وهما العَلمانية (la laïcité) والدَّهْرنة. (la sécularisation).
كلتا الكلمتين تعبران عن موقف يتعلق بالوجود الإنساني المشترك، وتتركان الوجود الإنساني المفرد لنفسه. هذا الموقف هو النظر إلى قضايا الوجود الإنساني المشترك استنادا على معيار دنيوي وليس استنادا على معيار فوق-دنيوي أو متعالي. رغم هذا التشابه فالكلمتان تختلفان عن بعضهما البعض. فالعَلمانية ( بفتح العين لارتباطها بالعالم وليس بالعلم كما تفيد لفظة العِلمانية بكسر العين) تعالج إشكالية العلاقة بين الدولة و الدين؛ أما الدَّهْرنة فتعالج إشكالية العلاقة بين المجتمع والدين.
يمكن تبعا لهذا التمييز، أن يكون مجتمع ما، من الناحية المنطقية، مجتمعا دهريا دون أن تكون الدولة المُنظمة لهذا المجتمع عَلمانيةّ. من الناحية الزمنية، عادة ما تبدأ ظاهرة الدهرنة قبل ظاهرة العلمنة؛ أي تنتشر مظاهر الاستقلال عن الاعتبارات الدينية في الثقافة والسلوك، ثم تظهر بعد ذلك مظاهر الاستقلال عن الاعتبارات الدينية في مجال الدولة والسياسة. إذا سارت الأمور بشكل تلقائي، فغالبا ما تظهر الدهرنة قبل العلمنة؛ لكن أحيانا تتدخل سلطة سياسية ما، فتبدأ بفرض العَلمنة قبل أن تكون هناك دهرنة. ويتم الاعتماد في إقرار هذا الأمر على الإكراه وسلطة الردع في حالة الأنظمة العَلمانية الاستبدادية. ويتم إقرار هذا الأمر اعتمادا على التربية والتوجيه في حالة الأنظمة العَلمانية الديمقراطية.
إن عملية فرض العَلمنة من فوق، قبل أن تتوفر التربة الثقافية التي تتجسد في مظاهر الدهرنة، والتي يتبناها المجتمع بفعل ذاتي وعبر تحولات طبيعية وهادئة، إن هذه العملية غالبا ما تتم في الأنظمة التي تكون منفصلة عن مجتمعها، وتمتلك تصورا "رِساليا" (أي تتصور ذاتها أنها صاحبة رسالة هي تطوير المجتمع وإخراجه من التخلف - و لا أقول هنا التأخر - نحو التقدم) لوظيفة السلطة السياسية. وهذا النوع من الأنظمة لا يختلف عن الانظمة الشمولية الدينية، إلا في المرجعية.
غرضي من هذا التمهيد هو التأكيد على أن موضوع حديثي لن يكون هو الدهرنة بل هو العلمنة. أي أن الإشكالية التي تهمني هنا هي الدين في علاقته بالدولة، وليس الدين في علاقته بالمجتمع.
هناك تمثل رائج حول العَلمانية، يعتبر أنها هي الفصل بين الدين والدولة. ويضيف أصحاب هذا التمثل أن العَلمانية بهذا المعنى، لا تنفصل عن الديمقراطية. فالديمقراطية، وفق هذا التصور، ليست مجرد تقنيات( وهذا لا خلاف حوله) بل هي قيم، أهمها الفصل بين الدين والدولة، بالمعنى الذي يتصورونه عن هذا الفصل (وهذا عليه خلاف).
ما هي طبيعة الفصل بين الدين والدولة، في بناء العَلمانية؟ بأي معنى يجب أن نفهم الفصل بين الدين والدولة؟
الفصل بين الدين والدولة ليست معطى ماهوي وجوهري للعَلمانية، بل هو معطى تاريخي. فقد حصل فعلا فصلٌ بين الدين والدولة (والسياسة عامة) في التاريخ العَلماني الغربي. لكن هذا الفصل ليس مضمونا ماهويا يرتبط بشكل ضروري بالعَلمانية، بل هو نتيجة تقع تحت مقولة الممكن والجائز، وليس تحت مقولة الضروري. (أصطلح على هذه العَلمانية بالعَلمانية الشكلية، لتركيزها على الشكل – الذي له أهميته – وإغفال الجوهر).
إن ما أدى إلى اختزال العَلمانية وحصرها في الفصل بين الدين والدولة، هو قوة الأثر الذي خلفه حدث تاريخي مفصلي في الغرب، ألا وهو إبعاد الكنيسة عن شؤون الدولة والسياسة؛ فقد تم النظر إلى هذا الحدث على ظاهره بدل الوقوف على أسبابه وشروط إمكانه. إن تعريف العَلمانية عبر اختزالها في نتيجتها التاريخية "الجائزة" و "الممكنة"، كان أكبر خدمة قدمها العَلمانيون العرب لخصوم العَلمانية.
فقد سمح هذا الاختزال لهؤلاء الخصوم، بالرد بحجة سيارة، تقول إن العَلمانية ليست ملائمة للعالم الاسلامي، لأننا لم نعرف مؤسسة في تاريخنا مثل الكنيسة.
إن هذا السجال السطحي ما كان له أن يحصل، إلا لأن أنصار العَلمانية ( الشكلية أو الظاهرية) اختزلوها في نتيجتها وغفلوا جوهرها. فما هو جوهر العَلمانية؟
معيار تحديد ما هو عَلماني وما هو غير عَلماني، هو معيار إبستمولوجي ومعرفي، قبل أن يكون معيارا سياسيا؛ إنه معيار التسويغ العقلي. قل لي كيف تُسَوِّغ مواقفك أقل لك هل أنت عَلماني أم لا.
الموقف العَلماني هو كل موقف يسوغ ذاته اعتمادا على اعتبارات عقلية، وليس الموقف الذي يبرر ذاته اعتمادا على اعتبارات دينية فوق عقلية Justification méta-rationnelle.
فالمسألة تتحدد في نقطة البناء والتأسيس، ولا تتحدد حصرا في النتيجة، على ما للنتيجة من أهمية لا تُنكر.
فأي تشريع أو تدبير يقوم على التسويغ العقلي هو موقف عَلماني. فحين يصدر المشرع تشريعا ارتكازا على اعتبارات عقلية خالصة، فإنه يكون حينها مشرع عَلماني، بغض النظر عن مضمون التشريع. فلو افترضنا مثلا أن مشرعا أصدر تشريعا يبيح العمل ب"التمويل البنكي الاسلامي"، وقدم لذلك مبررات عقلية (المردودية مثلا وربح أسواق و زبائن أكثر)، أو أصدر قانونا يمنع الخمر، بحثا عن سلامة التماسك الأسري، أو جعل الصيام عشر ساعات طيلة شهر واحد في السنة، مفروضا على بعض حالات السمنة، لدواعي صحية لكان موقفه هذا موقفا عَلمانيا.
على هذا الأساس فالعَلمانية هنا، لا تنحصر في نتيجتها التاريخية المعروفة، وهي الفصل بين الدين والسياسية، بل تتمثل في جوهرها الذي هو التسويغ العقلي للتدبير(أي السياسة بمعناها العام المحيط بكل المجال العام) وللتوجيه (التربية) وللتشريع(القانون).
إن ما يخالف الموقف العَلماني الجوهري( الذي هو موقف يحدد العَلمانية بناءً على جوهرها – التسويغ العقلي- وليس بناءً على نتيجتها الظاهرية والتي هي الفصل بين الدين والدولة )، هو بناء المواقف اعتمادا على مسوغات دينية، وليس على مسوغات عقلية. فلو افترضنا أن مشرعا ما قام وأقر قانونا يقضي بمنع تعدد الزوجات لاعتبارات دينية خالصة، فهذا التشريع لا يجعله تشريعا عَلمانيا، لأن المسوغ الذي استند عليه هو مسوغ ديني يعطيه، بطبيعته الدينية، حصانة (ولو وهمية) أمام أي اعتراض ويقدم ذاته على أنه تشريع رباني لا يمكن أن يبلغه العقل البشري أو أن يستوعبه.
وبناء على ما سبق، فالدفاع عن العَلمانية بالأدلة الدينية ليس موقفا عَلمانيا بل هو موقف ديني، وإن كانت نتيجته "عَلمانية" (مثال موقف علي عبدالرازق). لكن الدفاع عن التشريع الديني بمسوغات عقلية، هو موقف عَلماني. فنحن نجد بلدا مثل كندا، وهو بلد عريق ومرجعي في التدبير الديمقراطي للتعدد الثقافي، يستحضر معتقدات مواطنيه الدينية، لحظة التشريع. فالقانون الذي يُجبر كل مستعملي الدراجة النارية بارتداء الخوذة، قد حدد حالة استثناء يُعْفى صاحبُها من الالتزام بهذا القانون، وهي حالة المنتسبين لطائفة "السيخ"، الذين تفرض ديانتهم عليهم ارتداء غطاء للرأس. إن التكييف الذي يقدمه المشرع الكندي هنا، هو تسويغ عقلي مرجعه الدستور الكندي الذي يقر حرية الضمير(liberté de conscience) للجميع (فَضَّل المشرع الكندي حرية الضمير على حرية العقيدة، كي يستفيد مَنْ لا عقيدة له، مثل اللاأدريين والملحدين).
في نهاية هذه الفقرة، نذكر بالتعريف الذي نزعم أنه يحدد جوهر العَلمانية. العَلمانية هي استناد الدولة على مبدأ التسويغ العقلي، في تدبيرها للشؤون العامة لمواطنيها وسكانها.
2- أي حضور للدين في المجال السياسي:
رب قائل يقول إن هذا التعريف للعَلمانية له نتيجتان سلبيتان؛ الأولى هي أنه يفتح الباب للتسلل "الأصولي" الذي هو، في عرف خصومه، معارض بالطبيعة لكل ما هو عَلماني؛ والثانية هي أنه ينتج عَلمانية لَيِّنة إن لم نقل هجينة. فهذا التعريف للعَلمانية باستناده على مقولة "التسويغ العقلي" يسمح للفكر الشمولي عامة والأصولي خاصة (حسب الموقف العَلماني الشكلي) بالتسلل إلى "قلعة" الحداثة والديمقراطية ليفجرها مفهوميا وواقعيا من الداخل.
إن هذا الاعتراض مردود عليه. فالعَلمانية الشكلية تخطئ حينما تعتبر أن عَلمانية التسويغ العقلي، تمثل فرصة لتسلل "الموقف الأصولي". إن العَلمانية، بوصفها هي التسويغ العقلي، لا تتهاون مع كل موقف شمولي. فالتسويغ العقلي يتعارض مبدئيا مع الفكر الشمولي؛ فأن يكون موقف ما مُسَوَّغٌ عقليا، لا يعني أنه موقف مقبول ومشروع، ما لم يكن منسجما مع مجموعة من العناصر الضرورية لكل حياة ديمقراطية متقدمة، وهي –أي العناصر- القيم الحقوقية والنجاعة الاقتصادية والصواب السياسي والملاءمة التاريخية.
شرطان كبيران إذن يعطيان لأي موقف حق الإقامة في مدينة الديمقراطية؛ شرط الأنسنة (التسويغ العقلي، القيم الحقوقية) وشرط التقدم (النجاعة الاقتصادية، الصواب السياسي، الملاءمة التاريخية). وهذان الشرطان يخضعان لمبدأ جوهري في الفكرة الديمقراطية، ألا وهو مبدأ التنسيب.
ما هي مكانة الدين في العَلمانية باعتبارها – أي العَلمانية - تستند على مقولة التسويغ العقلي؟
صحيح أن هناك تجارب عَلمانية شكلية، تعترف بمكانة ما للدين داخل الفضاء العمومي. لكننا لا نقصد بحضور الدين، حضوره في المجال العمومي. لأنه يجب التمييز بين المجال العمومي والمجال السياسي. فالمجال العمومي، هو المجال المدني المرتبط بالتربية والتهذيب والتوعية والتعبئة. نعم يمكن أن تسمح أنظمة عَلمانية بدور ما للدين، في المجال التربوي، دعما للأخلاق الحميدة، وتقوية للشعور الوطني، وتشجيعا على العناية بالبيئة وترسيخا للسلوك المدني، ومحاربة للآفات الاجتماعية مثل المخدرات والكحول.
إن حضور الدين الذي نقصد هو حضوره في المجال السياسي المرتبط بالدولة. هنا تطالب العَلمانية الشكلية بالإبعاد المطلق للدين، تحت أي شكل كان هذا الحضور.
إذا كانت العَلمانية هي التسويغ العقلي للمواقف، فما الذي يمنع أن نشرع تشريعا وضعيا، لكن مضمونه ديني. هنا يتربص بنا خطر القداسة. فقد يعتبر المشرع أن هذا التشريع حق أو صواب إلهي لا يجوز البتة تعديله أو الاستدراك عليه. إننا هنا نختلف كلية مع هذا التأويل. حينما نقول إنه يمكن أن يكون هناك تشريع وضعي بمضمون ديني، فهذا على شرط أن نعتبر هذا التشريع هو إجراء بشري قابل للتعديل، بل وللحذف أيضا. إنه تشريع أساسه ليس هو المشروعية الدينية، بل أساسه هو المشروعية السياسية التي تعطي لهذا المشرع حق التشريع (أي سلطة شرعية بالمعنى السياسي والقانوني للكلمة).
إن القول بقابلية هذا التشريع للتعديل، بل وللإلغاء، هو القول بأن توفير التسويغ العقلي ليس كافيا ليجعل تشريعا وضعيا ذا مضمون ديني تشريعا مقبولا، بل يحتاج إلى التوفر على عناصر الصواب التشريعي (le correctement juridique).
خلاصة هذا الموقف، هو أن من الممكن للدين أن يحضر في المجال السياسي، من داخل البوابة التشريعية، لكن على شكل مضمون قيمي أو أخلاقي تتم صياغته قانونيا ويخضع للمسطرة القانوني إنشاءً وتعديلا وإلغاءً، وليس كمضمون ديني خالص.
3- العَلمانية الشكلية أو ديمقراطية الاشتراط:
يعتبر أنصار العَلمانية الشكلية (أي التي تختزل العَلمانية في مظهرها الشكلي وهو الفصل بين الدين والدولة)، أن الديمقراطية تشترط الفصل بين الدين والدولة. ويزيد أنصار هذه العَلمانية الشكلية، خصوصا في شكلها المتطرف، والذي هو المنتشر بكل أسف في عالمنا العربي الاسلامي، أن الفصل بين الدين والدولة هو إبعاد الدين تمام عن المجال العمومي السياسي، ولو كان الدين عبارة عن قيم ومبادئ عامة.
إن هذا الموقف خاطئ تاريخيا وغير لائق "أخلاقيا".
إنه خاطئ تاريخيا، لأن العَلمانية لا تُخْتزل، كما قلنا أعلاه، في عَرَض هو فصل الدين عن الدولة، بل تقوم على مقولة التسويغ العقلي. فالعَلمانية تاريخيا قامت بعد أن تم تنظيم الحياة العامة للغرب على أسس إنسانية عقلية، وهذا قبل أن يحصل الفصل بين الدين والسياسة. لقد انتشرت فكرة التسويغ العقلي في الوقت الذي لا زال فيه ملوك أوربا ينازعون الأحبار (الكرسي الرسولي في روما) تمثيل الله في الأرض.
إنه غير لائق "أخلاقيا"، أي أنه يتعارض مع الديمقراطية؛ إنه يفترض أن يكون التشريع وضعيا من الناحية الشكلية المسطرية ( وهذا لا خلاف حوله)، وأن يكون مضمونه مضمونا لا علاقة له بالمرة بالدين ( وهذا فيه خلاف). إن التشريع لا تتحقق طبيعته القانونية بمضمونه، بل بشكله. فيمكن أن نشرع عبر إصدار قوانين وضعية تحمل قيما دينية تم تكييفها قانونيا، وتمت صياغتها باعتبارها قاعدة قانونية، يجب التعامل معها بمنطق قانوني وسياسي، خصوصا وأنه لم يتم تقديمها باعتبارها "إشارة" متعالية لا يلحقها الباطل ولا يلحقها الحرام من بين يديها ومن خلفها، لأنها تمثل "الحق" والحلال. إن استحضار الدين، أي دين، كقيم لا يختلف عن استحضار أي منظومة فكرية دهرية، شريطة أن تكون هذه القيمة تتماشى ومبادئ الحق والتقدم والنجاعة والملاءمة.
إنه حينما يتصور البعض أن الديمقراطية تتطلب الفصل بين الدين والدولة هكذا بإطلاق، نسقط في تلكم العَلمانيات التي زخر بها التاريخ السياسي الاستبدادي المعاصر (تركيا الجنرالات، تونس بورقيبة وبنعلي، فرنسا ساركوزي، التجارب الشيوعية المتخلفة في ألبانيا بزعامة أنور خوجة، صين الثورة الثقافية..إلخ).
لا تقوم الديمقراطية على هذا الموقف الاشتراطي والإقصائي، الذي يدافع عنه أنصار العَلمانية الشكلية، بل تقوم الديمقراطية على مبدأ التنسيب.
إن التنسيب هو جوهر الديمقراطية. فالديمقراطية في السياسة هي التداول السلمي على السلطة وفق آلية الاقتراع الذي يمنح الأغلبية أفضليةً لا تلغي حقوق الاقلية، بل تحفظها بشكل نسبي في القضايا التدبيرية العادية، وبشكل تشاركي في القضايا المصيرية (الوثيقة الدستورية، قضايا الحرب والسلم، قضايا الثقافة عامة). والديمقراطية هي ممارسة الشعب (الشعب السياسي وليس الشعب الأنتربولوجي) للسيادة، عبر التشريع؛ والتشريع شكل ومضمون، أو صورة ومادة. فالصورة/ الشكل هي الصياغة القانونية المُسَوَّغة عقليا، والمادة/ المضمون هي القيم الأخلاقية والجمالية والدينية والسياسية والثقافية/الأنثروبولوجية التي يتوفر فيها الصواب الحقوقي والقانوني والتاريخي.
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.