مجلس الشيوخ الفرنسي يحتفل بالذكرى الخمسين للمسيرة الخضراء المظفرة    البطولة: الوداد الرياضي يبتعد في الصدارة بانتصاره على أولمبيك آسفي والدفاع الجديدي يرتقي إلى المركز الثامن    "أونسا" ترد على الإشاعات وتؤكد سلامة زيت الزيتون العائدة من بلجيكا    قنصلية المملكة بكورسيكا تحتفي بالذكرى الخمسين للمسيرة الخضراء    المنتخب المغربي للفتيان يسحق كاليدونيا الجديدة ويعزز آمال التأهل    ست ورشات مسرحية تبهج عشرات التلاميذ بمدارس عمالة المضيق وتصالحهم مع أبو الفنون    الدار البيضاء تحتفي بالإبداع الرقمي الفرنسي في الدورة 31 للمهرجان الدولي لفن الفيديو    نصف نهائي العاب التضامن الإسلامي.. تشكيلة المنتخب الوطني لكرة القدم داخل القاعة أمام السعودية    المنتخب المغربي الرديف ..توجيه الدعوة ل29 لاعبا للدخول في تجمع مغلق استعدادا لنهائيات كأس العرب (قطر 2025)    كرة القدم ..المباراة الودية بين المنتخب المغربي ونظيره الموزمبيقى تجرى بشبابيك مغلقة (اللجنة المنظمة )    بعد فراره… مطالب حقوقية بالتحقيق مع راهب متهم بالاعتداء الجنسي على قاصرين لاجئين بالدار البيضاء    أيت بودلال يعوض أكرد في المنتخب    أسيدون يوارى الثرى بالمقبرة اليهودية.. والعلم الفلسطيني يرافقه إلى القبر    وفاة زغلول النجار الباحث المصري في الإعجاز العلمي بالقرآن عن عمر 92 عاما    توقيف مسؤول بمجلس جهة فاس مكناس للتحقيق في قضية الاتجار الدولي بالمخدرات    تتويج إسباني وبرتغالية في الدوري الأوروبي للناشئين في ركوب الموج بتغازوت    حصيلة ضحايا غزة تبلغ 69176 قتيلا    بين ليلة وضحاها.. المغرب يوجه لأعدائه الضربة القاضية بلغة السلام    بأعلام فلسطين والكوفيات.. عشرات النشطاء الحقوقيين والمناهضين للتطبيع يشيعون جنازة المناضل سيون أسيدون    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الإثنين    مديرة مكتب التكوين المهني تشتكي عرقلة وزارة التشغيل لمشاريع مدن المهن والكفاءات التي أطلقها الملك محمد السادس    عمر هلال: اعتراف ترامب غيّر مسار قضية الصحراء، والمغرب يمد يده لمصالحة صادقة مع الجزائر    الكلمة التحليلية في زمن التوتر والاحتقان    الرئيس السوري أحمد الشرع يبدأ زيارة رسمية غير مسبوقة إلى الولايات المتحدة    التجمع الوطني للأحرار بسوس ماسة يتفاعل مع القرار التاريخي لمجلس الأمن حول الصحراء المغربية    مقتل ثلاثة أشخاص وجرح آخرين في غارات إسرائيلية على جنوب لبنان    دراسة أمريكية: المعرفة عبر الذكاء الاصطناعي أقل عمقًا وأضعف تأثيرًا    إنفانتينو: أداء المنتخبات الوطنية المغربية هو ثمرة عمل استثنائي    "حماس" تعلن العثور على جثة غولدين    النفق البحري المغربي الإسباني.. مشروع القرن يقترب من الواقع للربط بين إفريقيا وأوروبا    درك سيدي علال التازي ينجح في حجز سيارة محملة بالمخدرات    الأمواج العاتية تودي بحياة ثلاثة أشخاص في جزيرة تينيريفي الإسبانية    فرنسا.. فتح تحقيق في تهديد إرهابي يشمل أحد المشاركين في هجمات باريس الدامية للعام 2015    لفتيت يشرف على تنصيب امحمد العطفاوي واليا لجهة الشرق    الطالبي العلمي يكشف حصيلة السنة التشريعية    ميزانية مجلس النواب لسنة 2026: كلفة النائب تتجاوز 1.59 مليون درهم سنوياً    تقرير: سباق تطوير الذكاء الاصطناعي في 2025 يصطدم بغياب "مقياس ذكاء" موثوق    بنكيران: النظام الملكي في المغرب هو الأفضل في العالم العربي    الدار البيضاء: لقاء تواصلي لفائدة أطفال الهيموفيليا وأولياء أمورهم    إسبانيا تشارك في المعرض الدولي لكتاب الطفل والشباب بالدار البيضاء    "أونسا" يؤكد سلامة زيت الزيتون    "يونيسيف" ضيفا للشرف.. بنسعيد يفتتح المعرض الدولي لكتاب الطفل والشباب    بيليم.. بنعلي تقدم النسخة الثالثة للمساهمة المحددة وطنيا وتدعو إلى ميثاق جديد للثقة المناخية    مخاوف برلمانية من شيخوخة سكانية بعد تراجع معدل الخصوبة بالمغرب    تعليق الرحلات الجوية بمطار الشريف الإدريسي بالحسيمة بسبب تدريبات عسكرية    الداخلة ترسي دعائم قطب نموذجي في الصناعة التقليدية والاقتصاد الاجتماعي    مهرجان الدوحة السينمائي يعرض إبداعات المواهب المحلية في برنامج "صُنع في قطر" من خلال عشر قصص آسرة    وفاة "رائد أبحاث الحمض النووي" عن 97 عاما    اتصالات المغرب تفعل شبكة الجيل الخامس.. رافعة أساسية للتحول الرقمي    الأحمر يوشح تداولات بورصة الدار البيضاء    سبتة تبدأ حملة تلقيح جديدة ضد فيروس "كورونا"    فرحة كبيرة لأسامة رمزي وزوجته أميرة بعد قدوم طفلتهما الأولى    دراسة: المشي يعزز قدرة الدماغ على معالجة الأصوات    الوجبات السائلة .. عناصر غذائية وعيوب حاضرة    بينهم مغاربة.. منصة "نسك" تخدم 40 مليون مستخدم ومبادرة "طريق مكة" تسهّل رحلة أكثر من 300 ألف من الحجاج    وضع نص فتوى المجلس العلمي الأعلى حول الزكاة رهن إشارة العموم    حِينَ تُخْتَبَرُ الْفِكْرَةُ فِي مِحْرَابِ السُّلْطَةِ    أمير المؤمنين يأذن بوضع نص فتوى الزكاة رهن إشارة العموم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قراءة في كتاب " الدين والفلسفة العدمية" تأملات في الفن والأخلاق والحضارة للكاتب مصطفى الجباري

لأول مرة يتخلى مصطفى الجباري عن أدوات السرد الروائي ويقتحم "مجاهل بطاح التأملات الفكرية " (1) . لقد كانت هذه التأملات في الأصل صفحات كثيرة لكن قدر لها أن تخرج على هذا المنوال ، بحجم متوسط وخمسة فصول وفي مائتين وستة وثمانين صفحة ،والفصول على التوالي هي : الجناية والجناة ، الفن واجهة لتسويق ، نتائج الفكر الفلسفي، من العدمية إلى العدم، محاولات وجهود لإنقاذ الحضارة الغربية ، دوستويفسكي وذوبان روسيا في حضارة الغرب.
ملاحظات إطار:
1 من الممكن الاكتفاء بالشق الثاني من عنوان الكتاب ليفي بالمقصود (تأملات في الفن والأخلاق والحضارة) خاصة وأن الشق الأول من العنوان يتضمن مصادرة وحكما أوليا على تيار فلسفي برمته (الفلسفة العدمية).
2 غلاف الواجهة يكاد يكون مباشرا وضع بألوان بنية متدرجة وأما الصورة فتقع خلف عنوان الكتاب ،وهي عبارة عن أعمدة أسطوانية لبقايا أثرية مأخوذة من زاوية جانبية ، ترمز الصورة لحضارة سادت ثم بادت ، لعلها حضارة اليونان أو الرومان مهد الحضارة الغربية الحديثة وأصلها الأول .
3 الغلاف الخلفي للكتاب تضمن صورة نصفية للكاتب واقفا وخلفه يظهر جانب من مكتبته الشخصية فيما يبدو ،وتحت الصورة قائمة اسمية بما صدر للكاتب من مؤلفات.
4 صفحات الكتاب كثيرة و بإطالة قد يجد معها القارئ العادي مشقة معينة ، وربما المتعة الكاملة إذا تعلق الأمر بالقارئ المهتم ذي النفس المقاوم للاستغراق الزمني والمولع بالقراءة.
5 الكتاب صادر عن طوب بريس للطباعة والنشر 2013 وهي طباعة ذات جودة مقدرة من الناحية التقنية والفنية إلا ما كان من ملاحظات طفيفة.
الفصل الأول : (الجناية والجناة)
وعلى خطى المنهج الذي اختاره الكاتب، يعلن أنه لا ينزع فيما سيصل إليه من خلاصات ،لا إلى تأويل ولا إلى" تمحل مذهبي إيديولوجي تؤججه عواطف ناقمة " (2) . من جهة ثانية وقبل الشروع الفعلي في التحليل ، يضع الكاتب توجيهات حول القراءة والمعرفة وما ينتمي منها حقا لمجال المعرفة ، ولهذا فقد أثار سؤالا مقلقا مفاده " متى نفلح في أن ننتج معرفة يسري مفعولها سريان معجزة سيدنا موسى عليه السلام ؟ و أردف السؤال بآخر في نفس الصفحة (3) متعلق بالهدف العام :" ماذا أبتغي وراء هذا اللون من الكتابة ؟ "
اختار الكاتب أن يقدم بين أيدينا مبادئ منهجية توجه قراءته هذه والتي يعتبرها " تأملات وجودية المشرب في الشكل والمقاربة التحليلية…(لكنها) وجودية لبارئ الكائنات "(4) ذلك بهدف إعادة الاعتبار لمبحث الأنطولوجية المفترى عليه من قبل لؤم الوجودية الملحدة والتي قال " نيتشه " أحد روادها الكبار: " لقد مات الإله وسيظل ميتا ونحن الذين قتلناه" (5).
وقد أعلن الكاتب في غير مواربة ولا لف أنه سيلجأ في هذه التأملات إلى " اتكاء سيعمد إلى تفجير أذواق مدرسة العرفان الصوفي لأنها جديرة بإنقاذ حضارة الإنسان الحداثي من أورام قلقه "(6)، إنها إذن وجودية الأذواق العرفانية الكفيلة بالإجابة على أسئلة الوجودية القلقة ، وفي سياق ذلك يصر الجباري على أن يعلي من قيمة خطاب العرفان دون وجل ولا تردد .
ولأن السياق مناسب فقد استحضر الكاتب ويليام رايتش الألماني وكتابه : " أنصت أيها الإنسان الصغير" الذي أثار الانتباه إلى "حقارة الكائن الانساني وضعفه ونبه على مخاطر عجرفة العقل الغربي" الذي " تورط في الإجهاز على عملية التديُن كأصل " (7).
ففي الصفحتين المواليتين يناقش مسألة الإيمان والإلحاد وأطروحات الفكر الوجودي وقضاياه الأساسية ومفاهيمه المركزية كالحرية واتخاذ القرار والمسؤولية والإثم والاغتراب واليأس والموت و يذكر بهيمنة الكنيسة على الحياة العامة في أوروبا في مقابل محاولة إجهاز الوجوديين على منظومة الدين المسيحي وتنصيب العقل إلها يحتكم إليه وهو المنحى ،كما يلاحظ المؤلف، الذي سار عليه بعض المقلدة من مفكرينا في العالم العربي والإسلامي ،واكتفى هنا بضرب مثال بعميد الادب العربي طه حسين .
وفي معرض مناقشة الكاتب للوجودية الملحدة كان يسعى لتأسيس " وجودية بأدوات منهجية وتصورات معرفية من شأنها تعميق أساسيات العرفان الإلهي"(8) ويسوق في ذلك نموذج طه عبد الرحمن الفيلسوف المغربي الرائد صاحب كتاب سؤال الأخلاق الذي هو " مساهمة نقدية للحداثة الغربية " حيث يرى الفيلسوف المغربي أنه " إذا جاز عندهم أن ينتقدوا الديني بواسطة ما هو لا ديني فلم لا يجوز عند سواهم أن ينتقدوا اللاديني بواسطة ما هو ديني" . وكانت مناسبة ليعلي الكاتب من شأن الفيلسوف المغربي إذ يرى فيه خلف ابن حزم أو ابن تيمية أو الشاطبي…وقد أتاح له السياق أن يناقش حسن حنفي (من خلال دراسة "متى تموت الفلسفة ومتى تحيا " ، فهو يرى أن الفلسفة تموت إذا تحولت لأداة تبرر المعطيات الدينية أو الفلسفية وتحيا إذا جعلت من مهمتها نقد الواقع والأوضاع القائمة "(9) ، ولم ينس المؤلف أن يعرج على مسألة العلاقة بين المنقول والمعقول أو الحكمة والشريعة من جهة و قضية " الدين أفيون الشعوب " من جهة ثانية كما هي عند كارل ماركس .
الفصل الثاني: (الفن واجهة لتسويق نتائج الفكر الفلسفي) :
يتدارس في هذا الفصل مضامين الفن العبثية وكيف أساء بعضهم استثماره ومال به نحو التمرد على تعاليم السماء حيث يشرع المؤلف في بيان أهمية وخطورة الفن المتجلية في كونه " يحدث طفرات كالسحر تهتز معها رعشات الروح والوجدان" (10) وكيف أن الفن يتأطر برؤية فلسفية كما هو الوضع عند البير كامو و بلزاك واستندال و دوستويفسكي و بروست ومالرو وكافكا محاولا إثبات العلاقة الحميمية بين الفن والفلسفة والرغبة في هدم أطروحة الغيب ومنظومته الأخلاقية، وهو ما حاول الكاتب تقديم أمثلة عليه من خلال " اللامنتمي " لكولون ولسن الذي يتطلع لتخليص حضارته المريضة عبر أطروحة الفكر الوجودي ذاته (11) وفي نفس الآن باعتماد اطروحات المسيحية ذاتها حيث " لا أمل في علاج حضارة الغرب بأجوبة الدين المسيحي" (12) .
ويستمر الكاتب في عرض كثير من أفكار الفلاسفة الذين جاهروا بالعداء للدين المسيحي كمالرو الذي يرى أن مهمة الفن هي كشف سر وجود الإنسان الجديد وتبيان اهتزاز جميع الثوابت وإعادة تقييم كل القيم وإخضاع كل الحقائق للشك "( ص50 ).ولهذا الغرض لا تنقص الكاتب الشواهد التطبيقية من الأجناس الأدبية والتي بلورت لديه رؤِية خاصة للفن إذ هو عنده "سفير الفطرة يستجلب أمواج الجمال والسعادة "(13).
وفي جانب محاولات الإنقاذ وصرخات الألم الذي تعيشها الحضارة الغربية الحديثة يعرض الكاتب شواهد على ذلك من أمثال محاولات كاسيرر وأوغسطين…
الفصل الثالث : (من العدمية إلى العدم) :
شكل هذا الفصل مناسبة للتذكير بإساءة الكنيسة للدين المسيحي وللعقل البشري عموما وكون العدمية تقليعة ضد غباوة رجال الدين ولكنها اغتراب وخروج عن مركزية الكون وفلسفة تستهدف " قضية موت الألوهة وسقوط القيم العليا"(14) و الجباري يرى أن فردريك نيتشه هو حامل لواء الوجودية (زعيم أطروحة إرادة القوة) هذا القسُ الصغير الدي تحول إلى أكبر مارد مهاجم للمسيحية في العصر الحديث.
و الكاتب يلوم وينتقد مثل هذه المواقف المهاجمة للدين المسيحي وإن كان الأصل هو فساد علماء هذا الدين وأتباعه، وما مهاجمة المسيحية من لدن هؤلاء إلا ردُ فعل طبيعي للانحراف الذي مس المسيحية ،لكن الحل عند الكاتب يكمن في " المسلك السليم القويم هو العودة بالناس إلى جوهر نبع الوحي". وأقد حاول بعدها التصدي لأطروحات رواد العدمية من خلال نموذج نقيض كرواية البؤساء لفيكتور هيغو وبطلها جون فالجان ،وهو بالطبع كما يرى المؤلف عمل إبداعي خالد يؤكد أن النبل متجذر في النفس الإنسانية ، في حين يرى فردريك نيتشه وبمنطق الحرب وخداعها ان الكذب والزيف سلاح يربك حسابات العدو ، يعني المسيحية كدين ، ليبقى الطرح النيتشوي واضحا قويا فهو ألذُ خصوم المسيحية وهو في ذلك يصرخ بأعلى صوته : " إما أن يميتنا هذا الدين أو نميت نحن هذا الدين"(15) .وقد اختار الكاتب ألا يعذر نيتشه في عدائه للدين وإن كانت المسيحية قد " انتقمت لنفسها " من ألذ خصومها الذي مات مجنونا وأصيب بانهار عقلي . وعلى خطى نيتشه سار جون بول سارتر الذي أعلن : " لقد مات الله لكن الإنسان حي " و " إذا لم يكن الله موجودا فليست هناك أي قيم أو قناعات يمكن لوجودها أن يقر تصرفاتنا أو يصادق عليها" (16)
لم يكتف الجباري باستهداف نيتشه وانتقل إلى عدمي آخر سخر أدواته الفنية في الهجوم الساخر على الكنيسة وحراسها، إنه استندار صاحب رواية " الأحمر والأسود " الذي كان على حد تعبير الكاتب "يطمع في أن يصبح المقدس هو المدنس والمدنس هو المقدس"(17)
وعلى غرار العمل الروائي يمتاز المؤلَف(بفتح اللام وتشديدها) بقدرة الكاتب الجباري الواضحة على التوغل في أغوار النفس البشرية واستكناه حقائقها الدقيقة ومثال على ذلك : " نفسية نيتشه تمكن منها داء البغض والكراهية للدين ولأي رمز ياتي من جهته كانها حالة من الرهاب الديني تفعل ميكانيزمات هيستيرية لا يهدأ توترها المتشنج إلا حين تقابل الدين ورموزه بالشتم والإبعاد " (18)
ويبدو واضحا أن الجباري لم يجد صعوبة في عرض ومناقشة الأطروحات الفكرية لرواد الفن والفلسفة الغربية وإصدار أحكام نهائية فيها ، فقد فحصها وتأملها أثناء قراءته للأعمال الروائية الكبرى ؛ ففي البؤساء مثلا ، يجد المؤلَف المقابل المباشر للأحمر والأسود لاختلافهما في الرؤية للقيم والأخلاق ذلك أن استندال في نظر الجباري هو مؤسس العدمية حقا .
وعبر صفحات طوال يسعى الكاتب أن يدعم أطروحته المركزية ،(مأساة حضارة الغرب والحاجة لمنهج الدين في الإصلاح والإنقاذ (19) ؛ ففي الصفحات ما بعد 121 لا يمل المؤلف من ترديد مسألة العلاقة بين الفلسفة والدين ووجه التكامل بينهما وعلى الخصوص بين الفن والدين . وهنا عمد لسرد أسماء وهبت نفسها لتسخير الفن خدمة للقيم الدينية كالحق والجمال والخير حيت يتعين الشعور بالحاجة إلى العيش داخل مملكة الله ، لا كما ما عبر عنه هيمينغواي على لسان أحد أبطال روايته " وطن الجندي : " الجندي الذي عاد من الحرب فقالت له أمه وهي تحاوره :خلق الله لكل إنسان عملا لهذا لا تجد يدا كسولة في مملكته " فأجابها بما ينمُ عن خواء المعنى داخل كيانه قائلا : " لست في مملكته "( 20).
ومعلوم أن هذا الروائي اختار أن يضع نهاية لحياته بإطلاق رصاصة على نفسه. ويتابع المؤلف عرض نماذج أخرى من عالم الإبداع الروائي كالشاعر رامبو البوهيمي الذي ربط علاقة جنسية شادة بالشاعر فيرليولينهي ، ففي هذا الفصل يمضي قدما في سرد أمثلة أخرى للوجودية الإلحادية (العدمية التي ترى أن لا غاية ولا قصد ولا معنى من الحياة والوجود) من المدرسة السوريالية حيث تبلور تيار" اللامعقول "والعبث في الفن والمسرح من خلال وجودية سارتر وعبثية ألبير كامو صاحب رواية (الغريب) و شذوذ سوريالية يونسكو (صاحب مسرحية المغنية الصلعاء) ، فكل هؤلاء ينظرون لفكرة التعالي عن الانتماء إلى نظام هذا الكون وأن لا قيمة للحياة ولا معنى للأخلاق فكل شيء عبث في عبث.
وأمام هذا الطوفان العبثي يرى المؤلف أن المنقذ من الضلال هو " العودة إلى فطرة الضمير الديني… والتصالح مع الإله "، إله الدين الإسلامي هذه المرة ، وينتقل ثانية إلى السوريالية (21) التي يعتبرها " نحلة تدعو إلى تفجير قيود العقل ولو أدى ذلك إلى استخدام مطارق مادية" فالسوريالية عند الجباري اتجاه لقيط يروم الشذوذ سواء في المنهج أو الفكر أو السلوك وينشد التمرد والجنون بغرض القضاء على العلاقات التي تفرضها الأسرة والآداب العامة إذ لا شيء محرم في مذهبها (22)
الفصل الرابع : (محاولات وجهود لإنقاذ الحضارة الغربية) :
في هذا الفصل يواصل الكاتب ذكر أسماء شهود من الحضارة الغربية الذين شخصوا أمراضها وأبانوا زيفها وعللها ومن هؤلاء مؤرخ الحضارات العملاق إرلوند توينبي الذي يرى أن " أزمة المجتمع الغربي روحانية وليست مادية " والذي يعتبر قومه " تائهين في بيداء…انصرفوا عن طريق الرب الواحد القهار الذي آمن به أجدادهم"(23) (توينبي :" محنة الحضارة") كما يسوق الكاتب شهادة أخرى للمؤرخ شبينجلر في كتابه " تداعي الحضارة الغربية " والذي ربط فيه بين التداعي والترف وهيمنة الفكر المادي. بالإضافة إلى ذلك ساق الكاتب شهادة كولون ويلسن الذي قال في " ما بعد اللامنتمي " : "حضارة تنتظر أن يلتهمها الإفلاس الماحق " . ومعلوم أن ويلسن هو صاحب " المعقول واللامعقول في الأدب المعاصر"
ويشاء الكاتب أن يختم الفصل الرابع بومضات إشراقية من كلام الفيلسوف المغربي المعاصر طه عبد الرحمن في كتابه " سؤال الأخلاق " الذي أسسه صاحبه على سؤال منهجي حاسم متعلق بالهوية الإنسانية ومفاده " أيهما أخصُ بالإنسان العقلانية أم الأخلاقية ؟ "
الفصل الخامس/ الأخير: (دوستويفسكي وذوبان روسيا في حضارة الغرب):
أفرد الكاتب فصلا خاصا بهذا الروائي والمفكر الاستثنائي ، ويدل ذلك على إعجابه المفرط بمشربه الفني وربما الفكري أيضا ، وقد أغدق الجباري على المبدع الروسي أوصافا ونعوتا ارتقت به إلى مستوى النبوغ الذي تجاوز كثيرا من الأوصاف المعتادة، فهو عند الجباري "عملاق روسيا الحديثة " الذي قبض على زمام الفن فلم يفلته حتى رحل"(24) وهو أيضا " أسطورة خالدة " و" الهرم المهيب " و"هبة الفن "(ص211 ) وأيضا " مفخرة روسيا" ومن الزاوية الفكرية يعتبر الجباري دوستويفسكي "الكائن المعذب بفكرة وجود الله "(25). إن الجباري يرجح فرضية كون مبدع روسيا كان مؤمنا . يقول المؤلف : " دوستويفسكي عابد الطبيعة، نبي الجسد ،ودوستويفسكي المسيحي نبي الروح"(26) .ولم يكتف الجباري بهذه " الشهادة " فعززها بأخرى ترى في هبة روسيا العملاق " نبي الاستبصارات الكشفية وميتافيزيقي الجمال الأخلاقي " إذ يكفي أن نتذكر أنه مبدع رائعة " الإخوة كرامازوف" وهي الرواية التي تحكي عن المعنى واللامعنى… والجباري في هذا الفصل بدا مولعا بموسوعية دوستويفسكي إلى درجة كبيرة . ومن غريب الصدف أن تكون ملامح صورة وجه الجباري شبيهة بصورة العملاق الروسي دوستويفسكي .
وفي سياق الفصل الأخير الخاص بالخبير الروسي المتمكن ، يمارس الجباري لعبة النقد الأدبي في سياق العملية الفكرية بحرفية ومهارة عالية ولغة راقية ،يقول مستنكرا على البعض ومدافعا عن دوستويفسكي " هل يمكن لملحد أن يجعل الدين وفلسفة الأخلاق مشروعا لإنقاذ جوهر الحضارة من الموت والانحلال ؟"(27).
والواقع أنني لما تابعت هذا الفصل الخاص بالمبدع الروسي اندهشت لروعة كتابة الجباري وخاصة على مستوى استكناه فكر المبدع الروسي ، ولم أفلح أن أجد رابطا بين الجباري الذي تلفه البساطة والعفوية والجباري المتألق إبداعا وفكرا ، لكنني اهتديت إلى كون البساطة المفرطة هي سرُ صناعة المجد والرسوخ الفني والفكري ، إن لم أقل إنها (البساطة) المجد ذاته .
ففي حديثه عن مشروع دوستويفسكي يؤكد المؤلف أن مشروعه موجه للمثقف عبر معالجة مباحث الميتافيزيقا و والأسئلة الوجودية والشك واليقين والإلحاد والإيمان…ولذلك وهب الجباري لدوستويفسكي لقب السيادة " سيد كل المكتشفين لاختلال النظام في الجسد والروح"(28).
وانسجاما مع عنوان الفصل ، طفق المؤلف يشرح أسباب ارتماء روسيا ضمن موجة الإلحاد والعدمية وربطها بانفتاحها على الغرب في شقه الفني والفلسفي ، وهو ما تشخصه رواية " الأبله" حيث يظهر أن دوستويفسكي قد تأثر بالغرب فنيا وإبداعيا دون نمط العيش ومستوى القيم والأخلاق .
وربما عمد المؤلف لتخصيص فصل لدوستويفسكي لسبب ذاتي متعلق بإعجابه المفرط برواياته التي صرح في إحدى صفحات الكتاب أنه قرأها جميعها. يقول الجباري بلغة الاصطفاء والانتقاء : " ومن أجل نجاته من أمواج العدمية انتخبته ليكون رائد هذا الفصل " وكيف لا يعجب الجباري بالهبة الروسية وهو صاحب رواية " الأبالسة او الشياطين " التي أبانت عن مقاومة شرسة للخط الالحادي ، وعرضته للسخرية والنقد واعتبرته رجعيا على مستوى الاطروحة الفكرية وإن اعترف له (يعني للخط الإلحادي ) بالصَنعة الفنية . وعلى امتداد صفحات لا يخبو إعجاب الكاتب بالروسي العملاق، ويمكن القول أن سرَ إعجاب الجباري بالعملاق الروسي ، يظهر جليا حين يقول : " ما يعنيني من المشروع الفني لفنان روسيا هو ما يطال الأغلوطة الكبرى الزاعمة أن الفكر الديني يعقم خصوبة الفن وحريته " (.29)
ورغم أن الكاتب أعلن عن عدم ميله لممارسة النقد الأدبي والإبداعي فإننا نجده يدلي بملاحظات نقدية مدعومة بممارسته الإبداعية، يقول مثلا : " لقد كان استندال عملاقا أوغل في كشف خبايا النفس…لكأنك أمام مارد جبار لا يثنيه لغز الإبهام عن الغوص نحو تلك الأعماق الميتافيزيقية التي هي مصدر غموض وتناقض النفس البشرية…"(30) ، وكل ذلك عبر مساحات غير ضيقة قد تنسى معها أحيانا أنك بين يدي مؤلف في الفكر (الصفحات 111 112 113 وهو يفكك رواية "الأحمر والأسود ")، إذ يقتحم بك الجباري مجاهيل الرواية بقوة وعناد الناقد .
من جهة أخرى فإن الكاتب يمارس نوعا من الوعظ والتأطير بأسلوب فني وبلغة راقية "هنا يتميز منهج الدين في الاصلاح والإنقاذ ، إنه فلسفة احتوائية بالمعنى الذي يبقي على الأصيل ويحاور الدخيل ليطرده بالإقناع والمودة…في هذا السياق فإن مدرسة التصوف من أعمق المدارس فهما لعويصات الأسئلة الوجودية ومن أرقى التجارب الذوقية التي مجدت الجمال الروحي"(31 ).
والملاحظ أن المراجع المعرفية التي اعتمدها الكاتب الجباري ووضعها على شكل هوامش في نهاية كل صفحة ، هي نفسها موضوع دراسة مؤلفيها حيث يتضح أن الجباري اعتمد أولاً على آراء المؤلفين الذين تناول كتبهم وربط بين مؤلفاتهم وآرائهم حول الموضوع إذ قلما كان يلجأ إلى مراجع أخرى خارجية.
لقد تميز مؤلف الجباري بعملية الربط بين سلسلة من المؤلفات، تعتبر رائدة في وقتها ، عمل على التعريف بمشرب مؤلفيها والبحث عن العلائق بينها والكشف عن جانب من المفارقات الفكرية والتاريخية والمنهجية بينها ، و هذا المؤلف من الكتب التي تنهض بمهمة بيان زيف الأطروحات الفكرية التي طالما بثها مقلدة العرب بين صفوف الطلبة في الجامعات خلال الثمانينات والسبعينات ، مثل كتابات الطيب التزني وحسين مروة ومحمد عابد الجابري ومحمد أركون وهشام جعيط… والتي خلفت أتباعا كثرا.
وأحسب ان المقاربة التي اختارها المؤلف لقضايا الفن والفكر والحضارة لن ترضي البعض من ذوي النزوع الأيديولوجي اليساري أو العلماني… ولسوف يعتبرونها خارج منظومة الفكر والفلسفة ، ومن قبل فعلوا هذا مع كتابات علي سامي النشار وبعده طه عبد الرحمن ونفس الأمر مارسوه مع حجة الاسلام الإمام الغزالي أكبر ناقد للفلسفة في العصور الوسطى لما اعتبروه فقيها رجعيا متعصبا ضد الفلسفة ومكفرا للمتفلسفة.
والواقع ان مؤلف الجباري سيجد مكانه المناسب ضمن رفوف المكتبة العربية الاسلامية في جناح الفكر والفلسفة وسيسد تغرة بحجم حاجة المهتمين والدارسين والطلبة .
الهوامش :
1 مصطفى الجباري " الدين والفلسفة العدمية" تأملات في الفن والأخلاق والحضارة . ص.3
2 نفسه ص. 4
3 نفسه ص.6
4 نفسه ص.8
5 نفسه ص.9
6 نفسه ص.10
7 نفسه ص.14
8 نفسه ص.22
9 نفسه ص.26
10 نفسه ص.30
11 نفسه ص.36
12 نفسه ص.37
13 نفسه ص.56
14 نفسه ص.74
15 نفسه ص.85
16 نفسه ص.145
17 نفسه ص.100
18 نفسه ص.83
19 نفسه ص.120
20 نفسه ص.128
21 نفسه ص.160
22 نفسه ص.162
23 نفسه ص.194
24 نفسه ص.200
25 نفسه ص.202
26 "نفسه ص.203
27 نفسه ص.206
28 نفسه ص.216
29 نفسه ص.230
30 نفسه ص.112


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.