تعيش مصر طيلة الأسبوعين الماضيين على وقع حراك سياسي بين مؤيدي السيسي و معارضيه، وقد شهدت بعض المدن المصرية مظاهرات مطالبة برحيل السيسي بعد جمود في الشارع المصري امتد لنحو 6 سنوات منذ إسقاط الرئيس محمد مرسي رحمه الله، و بعد مذبحة رابعة التي ارتكبها نظام السيسي في حق المعتصمين بميدان رابعة … وبغض النظر عن اختلاف وجهات النظر بين معارضي و مؤيدي السيسي و حكمه، فإن وضع مصر بعد 6 سنوات على الإطاحة بالحكم الديموقراطي، لا يدعو إلى التفاؤل ، …وهذا المقال هو محاولة للإجابة على بعض التساؤلات التي يتم طرحها و من ضمنها لماذا يهتم العالم عامة والعربي خاصة بالشأن المصري، و لماذا أغلب الشعوب العربية والإسلامية تعادي إلى حد بعيد فترة حكم السيسي، و إن كان البعض قد أيده في بداية صعوده للسلطة؟ و للإجابة عن هذه الأسئلة نحن مطالبين بتحليل وجهة نظر المصريين و ذلك بالاستناد إلى الوضع السياسي و الاقتصادي و الاجتماعي، طيلة سنوات حكم السيسي، ثم نوضح أهمية مصر بالنسبة للعرب و المسلمين، فمصر عمود الخيمة فإذا سقط العمود انهارت الخيمة .. أولا –سنوات عجاف: فقد شهدت السنوات الماضية التي حكم فيها السيسي البلاد، جملة من التطورات الاقتصادية المهمة كان أهمها القرار الصادر عن البنك المركزي المصري بتعويم سعر صرف الجنيه المصري في نوفمبر 2016، فيما شهدت العديد من القطاعات والمؤشرات الاقتصادية تحولات مهمة، فقد سجل الجنيه المصري هبوطاً سريعاً خلال هذه الحقبة، حيث اقترب سعر صرف الدولار الأمريكي من 20 جنيهاً، بينما كان الدولار الأمريكي يساوي 7.13 جنيه فقط، وذلك عشية الانتخابات الرئاسية التي فاز فيها السيسي، وهو ما يعني أن العملة المصرية فقدت أكثر من 60٪ من قيمتها خلال الفترة المشار إليها. كما ارتفعت ديون مصر الخارجية إلى مستويات غير مسبوقة خلال الفترة الأخيرة، حيث أعلن البنك المركزي المصري إلى أن الدين الخارجي بلغ 79 مليار دولار في نهاية يونيو 2017، مقابل 55.8 مليار قبل سنة من ذلك، بزيادة تعادل 41.57٪. وارتفع إجمالي دين الموازنة العامة للدولة (و يشمل الدين المحلي والخارجي) ليصل إلى 208.3 مليار دولار وهو ما يعادل 107.9٪ من الناتج المحلي للبلاد...ولازال مسلسل الاقتراض مستمرا وأخرها توجه هيئة قناة السويس، إلى اقتراض نحو 300 مليون أورو من بنوك خليجية… وكنتيجة لانهيار سعر صرف الجنيه المصري، و ارتفاع المديونية، عرفت البلاد ارتفاع حاد في أسعار العديد من السلع والمواد الأساسية، كما تسبب في ارتفاع نسب التضخم، إذ بلغ معدل التضخم 30 % في فبراير 2017.. كما ارتفع مؤشر أسعار السلع الغذائية الرئيسية بنحو 40٪. وهو الأمر الذي دفع بقاعدة واسعة من المصريين إلى الاحتجاج ضد رفع الأسعار. ولم تنجح هذه الاحتجاجات في وقف مسلسل ارتفاع الأسعار ، فقد رفعت حكومة السيسي أسعار السلع الأساسية كالوقود والكهرباء ومياه الشرب للاستخدام المنزلي، وأخر هذه الزيادات كانت في عيد الفطر الماضي…. ونتيجة لإنخفاض قيمة العملة و ارتفاع المديونية، وزيادة معدل التضخم، و ارتفاع أسعار المواد الغذائية، سجلت نسبة الفقر المدقع ارتفاعا بنحو 5.3 % سنة 2015، بينما كانت هذه النسبة تبلغ 4.4% سنة 2012، مع العلم أن نسب الفقر أكثر ارتفاعا مما يصرح به جهاز الإحصاء بالنظر إلى الطفرة في معدل التضخم و تآكل القيمة الحقيقية للعملة..أما نسب الفقر فقد انتقلت من 25.2 في المئة سنة 2011، إلى 26.3 في المئة سنة 2013، لتصل 27.8 في المئة في 2015.هذا إلى جانب تأكل شديد في الخدمات و السلع العمومية ، خاصة التعليم و الصحة بفعل انخفاض الإنفاق العمومي و غياب الحكم الرشيد… مؤشرات مصر اقتصاديا واجتماعيا تعبر بشكل جلي عن إنجازات الحكم العسكري في مصر، غير أن الوضع السياسي والحقوقي أكثر سوءا وأشد تأثيرا، فمصر السيسي أصبحت سجن كبير لمعتقلي الرأي وللمعارضين لحكم السيسي، فالمتعقلين بعشرات الآلاف، و قاسمهم المشترك رفض عسكرة الدولة، و التمسك بالشرعية و صناديق الاقتراع.. فمصر تعيش أسوأ لحظاتها، تفريط في الأرض، وسفك لدماء المعارضين، و تدمير لقرى ومدن بأكملها في سيناء و تهجير أهلها، وتبعية مهينة لأجندة صندوق النقد الدولي، وخضوع مهين لإرادة الإمارات و السعودية و الكيان الصهيوني.. ثانيا- مصر عمود الخيمة: حرصنا على مصر نابع من الدور المحوري لمصر، و حاجة العالم العربي و الإسلامي لمصر القوية المتماسكة، فمصر تشبه عمود الخيمة فإذا انكسر العمود سقطت الخيمة، و لتدليل على هذه الأهمية يكفي استحضار دور مصر في ثلاث حقب تاريخية. ففي العصور الوسطي كان الدور المصري بارزا في كسر الاجتياح التتاري الذي أسقط عاصمة الخلافة الإسلامية ببغداد وامتد إلى باقي الأقطار الإسلامية، وأمام الاستسلام العام للمسلمين أمام التتار، كانت مصر القوة المدمرة للتتار في معركة "عين جالوت" بقيادة القائد المسلم قطز. كذلك كانت مصر القوة المؤثرة في طرد الصليبين من أرض الشام، بل و لعبت دور جد محوري في جلاء الاستعمار الأجنبي عن أراضي الإقليم العربي في العصر الحديث. و إلي جانب هذا الدور العسكري الفعال لمصر، فإن قوتها الناعمة في العالم العربي و الإسلامي كان لها تأثير أكبر على وجدان أغلبية الشعوب العربية و الإسلامية.. إن تردي الوضع السياسي و الاقتصادي و الاجتماعي، و تراجع القوة الناعمة لمصر في محيطيها الإقليمي، كانت من بين أهم العوامل المفجرة لثورة يناير 2011 والتي أطاحت بنظام "حسني مبارك".. وهذه العوامل المفجرة لم تنتفي بعد بل الوضع ازداد سوءا و ما ذكرناه من مؤشرات يدل على ذلك… اليوم مصر في مفترق طرق خطير و شدة الانحدار نحو الهاوية تزدادا بوثيرة جد سريعة. فغياب الديموقراطية و الحرية التي تم الحجر عليها بعد انقلاب السيسي على إرادة صناديق الاقتراع ، تمثل السبب الرئيسي في انحدار مصر و عدم استقرارها.. لا نخفي موقفنا السياسي من حكم الرئيس مرسي و الإخوان المسلمين، فهذه القوة السياسية المؤثرة في مصر ارتكبت أخطاء سياسية بمحاولتها الاستئتار بتدبير الشأن المصري اعتمادا على منطق الأغلبية التي حصلت عليه بعد الانتخابات التشريعية و الرئاسية التي تمت بعد ثورة 2011، فالبلاد بعد الإطاحة بمبارك خرجت من حقبة حوالي 6 عقود من تكبيل الحرية و غياب التعددية السياسية بالمفهوم الحقيقي مع درجة فساد سياسي و اقتصادي وامني غير مسبوقة… لكن هذا الاستئتار لم يكن بسوء نية بقدر ما هو خطأ، و عدم تمرس سياسي و ضعف في الاستعداد للحكم و تدبير المرحلة الانتقالية… لكن في المقابل خسرت مصر رئيساً يصعب تعويضه لاسيما تصوراته السياسية و التنموية و توجهاته الاستقلالية في بناء الاقتصاد المصري و تحصين الأمن القومي لمصر، فتوجه الرئيس مرسي نحو دعم الاكتفاء الذاتي من الحبوب، و توجه شرقا نحو توسيع خيارات نقل التكنولوجيا المدنية و العسكرية للداخل المصري يعد بحق قررا سياسي استراتيجي… لكن شاءت إرادة السيسي و من وراءه القوى الأجنبية المناهضة لأي انبعاث حضاري لمصر أن تجهض تجربة تنموية سليمة من حيث المبدأ و القصد. فسقوط الديمقراطية و الانقلاب على الإرادة الشعبية، دمر مصر و أعاق تقدمها، كما أثر على باقي الإقليم.. نتمني أن تخرج مصر من كبوتها، لكن التمني لوحده لا يكفي فمصر اليوم في حاجة إلى خارطة طريق لتدبير مستقبل مصر، وسقوط نظام السيسي مسألة وقت ليس إلا.. فسياسة الحديد و النار والقبضة الأمنية، و التضييق على حركة الشارع، لايمكن أن تستمر طويلا، فمساحات الدعم الشعبي و الفئوي له تتقلص بالتدريج، بدليل المظاهرات الشعبية التي خرجت الجمعة ما قبل الماضية و التي رفعت شعار إسقاط النظام و رحيل السيسي… فالحكم الديمقراطي و المدني هو العلاج لمشاكل و أزمات مصر، فمصر طيلة القرن 20 و 21 جربت كل من الناصرية و القومية و الاشتراكية، و انتقلت من الحكم الملكي إلى الحكم العسكري، لكنها لم تجرب الحكم الديمقراطي المدني إلا سنة واحدة، وكان ذلك في حكم الرئيس المدني محمد مرسي و بالرغم من صعوبة الوضع العام خلال هذه السنة، استطاع هذا الرئيس أن يضع الأساس لسياسات و إستراتيجيات في غاية الفعالية، و من ذلك احترام حرية الإعلام و التعبير والاحتجاج… فالعودة إلى الحكم المدني و الاحتكام لصناديق الاقتراع هو المدخل الوحيد لوقف نزيف التدهور الاقتصادي والاجتماعي و الأمني في مصر السيسي، و حالة الإحباط بعد ضعف مظاهرات الجمعة الماضية ينبغي أن لا يكون لها تأثير على إرادة التغيير التي تستوطن قلب وعقل غالبية المصريين ، فالتغيير في مصر قادم لا محالة واستمرار السيسي في الحكم سيزيد من تأزم أوضاع مصر خاصة و انه أصبح عبأ على عموم الشعب المصري و على داعميه بالدرجة الأولى، فالرجل يخدم أجندة صهيونية و استمراره في السلطة وبال على مصر وشعبها، بل امتد شره إلى فلسطين وأهلها من خلال انخراطه المحموم في صفقة القرن، و إلى ليبيا وشعبها من خلال إعاقته لمسار التسوية و دعمه لفصيل على أخر…لذلك فإن رحيل السيسي خدمة للسلم و الأمن في مصر وعموم الإقليم، و شرط لوقف نزيف الدم في كل بقاع العالم العربي لأن مصر القوية الداعمة لقضايا الأمة، خير علاج لحالة الفوضى التي تعم المنطقة، فالسعودية والإمارات لا تستطيع أن تكون بديلا عن مصر في مواجهة التدخل الأجنبي السافر في المنطقة، فقوة مصر و سلامتها ووطنية حكامها وانتمائهم العربي الاسلامي، شرط لسلامة وأمن عموم الإقليم… والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.. أكاديمي متخصص في الاقتصاد الصيني و الشرق آسيوي، أستاذ العلوم السياسية.