ميزانية 2026.. حكومة أخنوش تعد بجيل جديد من برامج التنمية الترابية تفاعلا مع خطاب العرش    مالية 2026… 4.5% نمو مستهدف و3% عجز في الميزانية ومديونية في حدود 65,8%    وفاة مولاي جمال الدين القادري بودشيش شيخ الزاوية القادرية البودشيشية عن عمر 83 سنة    بطاقة «نسك» لمطاردة الحجاج غير الشرعيين وتنظيم الزيارات .. طريق الله الإلكترونية        المغرب يحتفي بأبنائه في المهجر ببرامج صيفية تعزز الانتماء للوطن وتواكب ورش الرقمنة (صور)    بورصة الدار البيضاء تنهي تداولاتها على وقع الارتفاع    آلاف المغاربة يتظاهرون للمطالبة بدعم غزة للأسبوع ال88 على التوالي    قادة دول ورجال أعمال يلتمسون ود ترامب بالذهب والهدايا والمديح    تمديد فترة تجديد الانخراط بنادي الرجاء الرياضي إلى غاية هذا التاريخ    أخبار الساحة    في مبارياته ببطولة أمم إفريقيا : المنتخب الوطني للمحليين يواجه كينيا في طريقه نحو اللقب الثالث    جمال بن عمر: لا يمكن تسوية نزاع الصحراء بتدخل خارجي.. وربط البوليساريو بإيران وحزب الله يقوض فرص الحوار    وفاة طفل غرقاً داخل حوض مائي بإقليم الحسيمة    المعرض الوطني للطوابع والمسكوكات يتوج نسخته الثانية في مدينة خنيفرة بندوة علمية حول تاريخ النقود والبريد    عيطة الحال ... صرخة فنية من قلب البرنوصي ضد الاستبداد والعبث    الرباط تحتضن النسخة الأولى من «سهرة الجالية» بمناسبة اليوم الوطني للمهاجر    موجة حر مع الشركي وأمطار رعدية مرتقبة من الجمعة إلى الثلاثاء بعدد من مناطق المغرب    المغرب في قائمة الوجهات الأكثر تفضيلا لدى الإسبان في 2025    ارتفاع صاروخي في صادرات الطماطم المغربية نحو إسبانيا بنسبة 40%    الشرطة توقف طبيبا متلبسا بتلقي رشوة 3000 درهم مقابل تسريع خبرة طبية    موجة حر تصل إلى 48 درجة وزخات رعدية مرتقبة في عدد من مناطق المملكة    قتيل ومصاب في انهيار بمنجم إميضر    الجمارك المغربية تجدد إجراءات الرقابة على المعدات العسكرية والأمنية    رحيل الفنان المصري سيد صادق عن عمر 80 عاما في وفاة مفاجئة    بطولة إسبانيا.. مهاجم برشلونة ليفاندوفسكي يتعرض للإصابة    مدافع برشلونة إينيغو مارتينيز في طريقه إلى النصر السعودي    بطولة أمم إفريقيا للمحليين.. بوابة اللاعبين المحليين صوب العالمية    بلدية إسبانية تتخذ قرارا مثيرا للجدل بحق المسلمين    المغرب يصدّر أول شحنة من القنب الهندي الطبي نحو أستراليا    وفاة الفنان المصري سيد صادق    مقاييس الأمطار المسجَّلة بطنجة ومناطق أخرى خلال ال24 ساعة الماضية    السلطات تحجز بالفنيدق طنا من البطاطس مجهولة المصدر وغير صالحة للاستهلاك        لطيفة رأفت تعلق على "إلغاء حفلين"    النجم الحساني سعيد الشرادي يغرد بمغربية الصحراء في مهرجان "راب افريكا"    جبهة تحرير فلسطين تعلن مقتل وشاح    العربيّ المسّاري فى ذكرىَ رحيله العاشرة    سان جرمان يتوصل الى اتفاق مع ليل لضم حارسه لوكا شوفالييه    واشنطن تعلن عن جائزة 50 مليون دولار مقابل معلومات للقبض على الرئيس الفنزويلي    مسؤول أممي يرفض "احتلال غزة"    مدرب الرجاء يمنح فرصة لأبريغوف    "أوبن إيه آي" تقوي الذكاء الاصطناعي التوليدي    توقعات أحوال الطقس اليوم الجمعة    الدرهم المغربي بين الطموح والانفتاح النقدي... هل يطرق أبواب "العملات الصعبة"؟    أطروحات يوليوز    المغرب على رادار البنتاغون... قرار أمريكي قد يغيّر خريطة الأمن في إفريقيا    هنا جبل أحد.. لولا هؤلاء المدفونون هنا في مقبرة مغبرة، لما كان هذا الدين    عمليتا توظيف مالي لفائض الخزينة    المغرب يواجه ضغوطا لتعقيم الكلاب الضالة بدل قتلها    تسجيل 4 وفيات بداء السعار في المغرب خلال أشهر قليلة    "دراسة": تعرض الأطفال طويلا للشاشات يزيد من خطر الإصابة بأمراض القلب    من هم الأكثر عرضة للنقص في "فيتامين B"؟        الملك محمد السادس... حين تُختَتم الخُطب بآياتٍ تصفع الخونة وتُحيي الضمائر    جو عمار... الفنان اليهودي المغربي الذي سبق صوته الدبلوماسية وبنى جسورًا بين المغرب واليهود المغاربة بإسرائيل    المغاربة والمدينة المنورة في التاريخ وفي الحاضر… ولهم حيهم فيها كما في القدس ..    من الزاويت إلى الطائف .. مسار علمي فريد للفقيه الراحل لحسن وكاك    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أنبوبة عصير مخططة
نشر في لكم يوم 29 - 04 - 2013

قبل أسبوع تقريبا اتصل بي أحد أصدقائي، وافيته في مقهى معينة، وجدته برفقة سيدة وطفلة، قدم لي تلك السيدة المحترمة على أنها روائية لها ثلاث روايات في السوق، وأنها عضو في اتحاد كتاب المغرب، ومحامية. ثم قدمني لها تقديما باذخا جدا يتجاوز مقامي، نافخا ريشي أمامها بكلمات كبيرة وغريبة من التعظيم والتبجيل وسواه. ولم يكتفِ بذلك فقط، بل زاد في النفخ بالطريقة نفسها التي ينفخون بها كبشا هزيلا بعد ذبحه في العيد حتى يبدو وهو منفوخ كأنه عجل، أو كما تنفخ عجلات الجرّارات الخلفية.
السيدة صدقت كلامه لأنه كان جديا ويحرك يديه بطريقة متقنة ويوزع نظراته بيننا بالتساوي بثقة زائدة فيما يقول. لكنه كان يخفي ابتسامة هازئة خلف ذلك، بل قهقهة عملاقة، فأنا أعرفه جيدا وأعرف ألاعيبه ومزاجه الساخر الشديد التهكم والتنكيل بالجميع، وقد بدا له مناسبا ذلك المساء أن ينكل بي باستمتاع. بدا لي أن السيدة صدقت كلامه فحبلت بسرعة بفضول كبير في اتجاهي. ما كان مني إلا أن عدلت جلستي على الكرسي، لأجلس بطريقة صحيحة حتى أكون عند حسن ظن الصورة الوهمية التي رسمها لي صديقي الشرير كما يرسم رسام الكاريكاتير شخصية ما بأنف كبير، أكبر حتى من الوجه.
قدمت لي طفلتها الجميلة المؤدبة، كانت تشرب عصير تفاح ماصّة حلاوته بأنبوب بلاستيكي مخطط ومعقوف، تتابع حديثنا بخجل وبراءة وتبتسم وتمصمص العصير. تحدثنا في أمور الأدب والفن كما يليق بكتاب حقيقيين لا يمزحون في الأدب. ذهب بنا الحديث يمينا وشمالا كزورق في عاصفة غير قوية. تأرجحنا في الآراء وقفزنا فوق المواضيع وقطع رنين الهواتف مرارا موضوعا ما فأكملناه بعد انتهاء المكالمات بالبدء في مواضيع أخرى. أعطتني الكاتبة نسخة من رواية. كتبت لي إهداء جميلا ووقعت بحرفية توقيعا فاتنا، إنها محامية وبديهي أن تتقن التوقيعات. تبادلنا أرقام الهواتف. قالت لي بلهجة محببة: أريد رأيك في الرواية، إنها روايتي الأخيرة، ويهمني كثيرا رأيك. قلت لها: حاضر سيدتي، سأقرأ الرواية بسعادة. ذهبنا أنا وصديقي في اتجاه السويقة بعد أن ودعناها، والطفلة أخذت معها في يدها أنبوبة العصير المخططة لتمصمص بها الهواء..
في البيت فتحت الرواية بفضول ومحبة، بدأت بقراءة أول صفحة، لاحظت أولا أن الرواية طويلة جدا، وستحتاج مني لأيام، لكن إن كانت جميلة فقد أتمنى أن تكون أطول. تعثَّرَت عيني بالسطور وسقطَت مرارا، لكني قاومت وتابعت القراءة. قلت في نفسي ربما هذه مجرد البداية ويجب أولا أن أتورط في الرواية قبل أن أحكم. لاحظت أن الطباعة جيدة جدا، والغلاف جميل للغاية ومنمق ومزين بلوحة بديعة، وأن دار النشر شهيرة. الصفحة الثانية أَكْفَسُ من الأولى! والثالثة جعلتني أتأكد أنني لن أكمل هذه الرواية حتى في تازمامارت، لن أكملها حتى لو وضعوا البنادق على رقبتي. قلت في نفسي إنها سيدة محترمة ولطيفة ويجب أن أقرأ الرواية إكراما لذلك على الأقل. تذكرت المناسبات العائلية، حين يضعون أمامك صحنا كبيرا مليئا باللحم والبطاطا الحلوة والبطاطا القصبيّة والزيت ويجب أن تأكل وتُغَمِّسَ حتى لا تغضبهم، يجب ألا تفكر، بل أن تأكل. من العيب والعار ألا تأكل. لا يهم هل أكلت قبل أن تأتي وبطنك مليئة، أو أنك مريض، أو نباتي، أو مخلص لريجيم معين. بل يجب أن تفتح فمك كقط سمين وتأكل بتحفز، وحين تكون تأكل سيقولون لك: كُلْ كُلْ، لماذا لا تأكل؟! حتى تكاد تصرخ فيهم: هل آكل بفمَيْن؟ إنني آكل! هل يبدو أنني أغني؟! إلخ..
عوض القراءة حاولت أكل الرواية، لكن كلما أكلت كلمة إلا وشعرت بالتخمة، لا أستطيع المواصلة، سأستسلم، سأرفع يدي إلى أعلى كلص ضبطته الشرطة، لن أقرأ، أقسم بالله لن أقرأ، لقد سلَّمتُ حِماري، أسلوب ركيك جدا كمرق دون لحم ودون خضار ودون توابل ودون مرق! ماذا سأقرأ؟! هذا تعذيب نفسي قاس أن أقرأ هذه الرواية الطويلة جدا كالمؤبد! فتحتها في المنتصف، لا يوجد أي اختلاف، بدايتها كوسطها كنهايتها، نفس النغمة الرتيبة، نفس الإيقاع الميت، نفس المصطلحات الشاحبة! كيف استطاعت هذه السيدة الصبر على كتابة هذه الرواية لنصبر نحن على قراءتها؟! هل عندها عقل أم هي حمقاء وتخفي حمقها خلف شياكتها وجمالها ومهنتها كمحامية؟! هل ستخدعني أنا يعني بكونها محامية؟ هل تدافع عن المتهمين بهذا الأسلوب؟ وبهذه اللغة؟ أحسست أن العالم غريب عني حقا، أو أنني أنا الغريب عنه. أنا مستعد أن أقرأ مرافعة قانونية طويلة على أن أقرأ هذه الرواية! انتهى الموضوع، لن أقرأها ما حييت. شعرت براحة شديدة وأنا أغلقها إلى الأبد. شممت عطرا غريبا، قرّبت الرواية من أنفي، إنه عطر السيدة الفاغم، عطر راق وجميل. شممتها مرة أخرى بلذة، كدت أقبّلها. أن أشمها أفضل من أن أقرأها. أن أشمها بانتشاء هذا سيجعلني أتخلص من عذاب الضمير. إن سألتني هل قرأت الرواية سأقول لها: نعم لقد شممتها ورائحتها رائعة وجميلة جدا وهي من أجمل الروائح التي قرأت وشممت في حياتي. سأقول لها: حقا أنت روائية تعرف كيف تنتقي عطرا مميزا. بل عوض مميزا سأقول لها مائزا، لأنهم يستعملون هذا المصطلح الحامض كثيرا هذه الأيام. رواية حامضة يجب أن نمجدها بمصطلحات حامضة. وأنا أشم عطرها بدأ الشيطان بإغوائي، تخيلت نفسي أشم شعر السيدة وعنقها وصدرها. تخيلت أنني سأقبلها وأعضها و .. لكني لعنت الشيطان وطردته ليخرج من النافذة كبعوضة جائعة.
اتصلَت بي قبل يومين، جاء صوتها رقيقا جدا وناعما أكثر مما كان ناعما في المقهى، ربما لأنها كلمتني من البيت، وفي الليل. ربما كانت ترتدي ثياب النوم، وليس ثيابا رسمية للمرافعة كما في المقهى أو في المحكمة، كان شعرها منسدلا وقد تعشت للتو وتشعر باسترخاء وأنوثة على ما بدا لي. تكلمنا قليلا لكن الصمت بيننا كان واضحا أنني أنتظر سؤالها. أصرت أن أعطيها رأيي. حاولت التهرب، لكنها حاصرتني في زاوية. لا أريد أن أكذب ولا أريد أن أكون وقحا. أصلا من أنا لأحاكمها أو لأحاكم ما تكتب؟؟ حاصرتني أكثر بحرفية مثلما تحاصر متهما آخر للدفاع عن متهمها. أجبتها بصوت متقطع أنني لم أكمل الرواية. عقَّبَت بسرعة: إذا لم تعجبك؟؟ شعرت بنرفزة مفاجئة أن تحاصرني هكذا. تلبسني الشر. أحسست بلذةِ أن أصدمها، أن أكسرها كما تُكسر مرآة. دار في خاطري دورانا سريعا كل المشهد الثقافي المضحك، استحضرت كل السماسرة، استحضرت الجمهور الطيب الذي تخدعه الصور والإيحاءات، استحضرت رؤساء الاتحادات وبيوت الشعر، استحضرت أصدقائي الكتاب الحقيقيين الذين لم يستطيعوا طبع حتى كتاب واحد ولو طباعة رديئة كطباعة كناش الحالة المدنية، وكيف يهمشونهم كأنهم موتى، أو يدفنون كتبهم في نسخ قليلة لا تصل إلا إلى بائع الزريعة، استحضرت أنني لا أريد شيئا من الأدب سوى قلة الأدب، وأنني لا أصلح أن أكون مهذبا واجتماعيا ومنضبطا داخل قطيع، بل أنا ذئب شارد. استحضرت كل ذلك وغيره في لحظة خاطفة، في ثانية كثيفة ومضغوطة كرصاصة، في جزء من الثانية. كانت فترة صمت قصيرة، كرجوع إلى الخلف من أجل تسديد لكمة. قلت لها بوقاحة وصلافة: لم أقرأها ولن أقرأها لأنها رواية تافهة وفاشلة ولا تستحق ذلك الغلاف، وأفضل لك بعد المرافعات أن تتعلمي الطبخ من شميشة، وأنني أراهن أن زوجك لم يقرأ تلك الرواية كاملة فكيف تريدين أن أقرأها أنا؟! أقفلَت الهاتف في وجهي. لم تتفوه بكلمة. لم تشتمني. بل انسحبت انسحابا غامضا. أحسست أنني تجاوزت حد الوقاحة. لم أخاطبها هي، بل كنت أخاطب دولة ومشهدا ثقافيا حقيرا ما هو إلا ظل مهذّب للاستبداد، وكانت هي مجرد تمثال لكل ذلك. حاولت الاتصال بها مرارا، لكنها لم تجب. أردت الاعتذار لها بصدق. من حقها أن تكتب ما تريد. من حق الجميع أن يكتبوا. مالي أنا و كل ذلك. هل أنا كاتب روايات؟ هل أنا الدونكيشوت؟ ثم هل حقا تلك الرواية رديئة فعلا؟ كيف تكون رديئة وقد لاقت نقدا كثيرا واحتفاء وحفلات توقيع وبِيعت؟ حاولت الاتصال بها لكنها رفضت أن ترد. ضميري أنبني كثيرا، خصوصا أنها مؤدبة ولطيفة. لحسن حظي وصلتني منها رسالة قصيرة في الهاتف بالأمس، بمجرد أن قرأتها شعرت بارتياح شديد، لأنها دافعت عن نفسها، وردت لي الصاع صاعين، كما يليق بمحامية ترفض الهزيمة. كتبَت لي ما مضمونه: أنت إنسان تافه ومعقد ولا تستحق الجواب، أتمنى فقط أنك لم تصدق ما قاله عنك صديقك المعتوه في المقهى حين كان يمدحك دون حياء، لأنكما بدوتما كالسّفّاجْ ومْهِيوْلْ.. أجبتها في رسالة قصيرة بما يلي: لماذا لا نحدد موعدا لنلتقي مرة أخرى في المقهى وتحضري معك طفلتك الجميلة تلك لتمصمص العصير بسعادة بينما نناقش نحن الأمر من زوايا أخرى؟.. ضغطتُ على زر أَرْسِلْ، وصلت إليها الرسالة في نفس اللحظة دون ساعي بريد، لكنها لم تجبني إلى حد الآن.
محمد بنميلود


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.