الركراكي يرفع إيقاع "أسود الأطلس"    مؤتمر نصرة القدس و"معا للقدس": أية قوة يتم إرسالها لغزة يجب تحديد ولايتها بواسطة مجلس الأمن بالتشاور مع الشعب الفلسطيني    دعم المقاولات الصغرى بالمغرب .. "الباطرونا" تواكب والأبناك تقدم التمويل    47735 شكاية وصلت مجلس السلطة القضائية والأخير: دليل على اتساع الوعي بالحقوق    مقترح عفو عام عن معتقلي حراك "جيل Z"    الحموشي يتقلَّد أرفع وسام أمني للشخصيات الأجنبية بإسبانيا    "لارام" تدشن أول رحلة مباشرة بين الدار البيضاء والسمارة    اتفاق مغربي سعودي لتطوير "المدينة المتوسطية" بطنجة باستثمار يفوق 250 مليون درهم    تحيين مقترح الحكم الذاتي: ضرورة استراتيجية في ضوء المتغيرات الدستورية والسياسية    انتخابات العراق: ما الذي ينتظره العراقيون من مجلس النواب الجديد؟    هجوم انتحاري خارج محكمة في إسلام آباد يودي بحياة 12 شخصاً ويصيب 27 آخرين    ماكرون يؤكد رفض الضم والاستيطان وعباس يتعهد بإصلاحات وانتخابات قريبة    الوالي التازي: المشاريع يجب أن تكون ذات أثر حقيقي وليست جبرا للخواطر    التوقيت والقنوات الناقلة لمباراة المغرب وإيران في نهائي "الفوتسال"    مونديال أقل من 17 سنة.. المغرب يتعرف على منافسه في الدور المقبل    شراكة بين "اليونسكو" ومؤسسة "المغرب 2030" لتعزيز دور الرياضة في التربية والإدماج الاجتماعي    الرصاص يلعلع بأولاد تايمة ويرسل شخصا إلى المستعجلات    مديرية الأرصاد الجوية: أمطار وثلوج ورياح قوية بهذه المناطق المغربية    الرشيدي: إدماج 5 آلاف طفل في وضعية إعاقة في المدارس العمومية خلال 2025    إطلاق طلب عروض دولي لإعداد مخطط تهيئة جديد في 17 جماعة ترابية بساحل إقليم تطوان وعمالة المضيق-الفنيدق    بنسعيد في جبة المدافع: أنا من أقنعت أحرار بالترشح للجمع بين أستاذة ومديرة    "رقصة السالسا الجالسة": الحركة المعجزة التي تساعد في تخفيف آلام الظهر    "الفتيان" يتدربون على استرجاع اللياقة    استئنافية الحسيمة تؤيد أحكاما صادرة في حق متهمين على خلفية أحداث إمزورن    التدبير‮ ‬السياسي‮ ‬للحكم الذاتي‮ ‬و‮..‬مرتكزات تحيينه‮!‬ 2/1    كأس إفريقيا للأمم لكرة القدم (المغرب 2025).. تعبئة 15 ألف متطوع استعدادا للعرس القاري    إصدارات مغربية جديدة في أروقة الدورة ال44 من معرض الشارقة الدولي للكتاب    قراءة تأملية في كتاب «في الفلسفة السياسية : مقالات في الدولة، فلسطين، الدين» للباحثة المغربية «نزهة بوعزة»    نادية فتاح تدعو إلى وضع تشغيل النساء في صلب الاستراتيجيات الاقتصادية والسياسية    مراكش تحتفي بعودة السينما وتفتح أبوابها للأصوات الجديدة في دورة تجمع 82 فيلما من 31 دولة    والآن سؤال الكيفية والتنفيذ .. بعد التسليم بالحكم الذاتي كحل وحيد    حادثة سير خطيرة بالطريق السيار العرائش – سيدي اليماني    رسميًا.. المغرب يقرر منح التأشيرات الإلكترونية لجماهير كأس إفريقيا مجانا عبر تطبيق "يلا"    برلمانية تستفسر وزير التربية الوطنية بشأن خروقات التربية الدامجة بتيزنيت    "ساولات أ رباب".. حبيب سلام يستعد لإطلاق أغنية جديدة تثير حماس الجمهور    انعقاد الدورة ال25 للمهرجان الوطني للمسرح بتطوان    ملايين اللاجئين يواجهون شتاء قارسا بعد تراجع المساعدات الدولية    الحكومة تعتزم إطلاق بوابة إلكترونية لتقوية التجارة الخارجية    بورصة البيضاء تبدأ التداولات بانخفاض    رونالدو يكشف أن مونديال 2026 سيكون الأخير له "حتما"    بموارد ‬تقدر ‬ب712,‬6 ‬مليار ‬درهم ‬ونفقات ‬تبلغ ‬761,‬3 ‬مليار ‬درهم    الكاتب ديفيد سالوي يفوز بجائزة بوكر البريطانية عن روايته "فلش"    الشاعرة والكاتبة الروائية ثريا ماجدولين، تتحدث في برنامج "مدارات " بالإذاعة الوطنية.    المغرب ‬رائد ‬في ‬قضايا ‬التغيرات ‬المناخية ‬حسب ‬تقرير ‬أممي ‬    المشي اليومي يساعد على مقاومة الزهايمر (دراسة)    ألمانيا تضع النظام الجزائري أمام اختبار صعب: الإفراج عن بوعلام صنصال مقابل استمرار علاج تبون    مجلس الشيوخ الأميركي يصوّت على إنهاء الإغلاق الحكومي    وزير الداخلية يبدأ مرحلة ربط المسؤولية بالمحاسبة؟    إيران تعدم رجلًا علنا أدين بقتل طبيب    خمسة آلاف خطوة في اليوم تقلل تغيرات المخ بسبب الزهايمر    انخفاض طلبات الإذن بزواج القاصر خلال سنة 2024 وفقا لتقرير المجلس الأعلى للسلطة القضائية    دراسة تُفنّد الربط بين "الباراسيتامول" أثناء الحمل والتوحد واضطرابات الانتباه    وفاة زغلول النجار الباحث المصري في الإعجاز العلمي بالقرآن عن عمر 92 عاما    وفاة "رائد أبحاث الحمض النووي" عن 97 عاما    بينهم مغاربة.. منصة "نسك" تخدم 40 مليون مستخدم ومبادرة "طريق مكة" تسهّل رحلة أكثر من 300 ألف من الحجاج    وضع نص فتوى المجلس العلمي الأعلى حول الزكاة رهن إشارة العموم    حِينَ تُخْتَبَرُ الْفِكْرَةُ فِي مِحْرَابِ السُّلْطَةِ    أمير المؤمنين يأذن بوضع نص فتوى الزكاة رهن إشارة العموم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مُحمّد الصَبَّاغ أديب يَستعصي على النّسيان فى ذكرىَ رحيله
نشر في لكم يوم 20 - 01 - 2023

في ذكرىَ رحيلك العاشرة أيّها الصديق الأثير ، ما زلت أتطلّع إليك من وراء الغيب، وأنتَ في دار البقاء والنّقاء والصّفاء ، بعيداً عن داراليباب والسّخام والشّقاء، أنسج لك كلماتٍ خاطتها السّنون بأحرفٍ بلّورية صافية نقية من نُور سرمديّ، وأتذرّع الى الخالق الناطق لأترحّم على روحك الطاهرة في ذكراك ، بعد أن خطفتك منّا يدُ المنون التي ما انفكّت تتخبط فينا وبيننا خبط عشواء بدون هوادة، تسلبنا أقرباءنا وأحبّاءنا، وخلاّننا، وتتركنا حيارىَ ذاهلين في قبضة الزّمن الغاشم الذي لا يرحم. إنني ما زلت أذكر فى كل لحظة وحين مكاننا المعهود فى مقهي (باليما) بمدينة الأنوار الرّباط الفيحاء، وحُرقةٌ في النفس تتفاقم ، وغُصّةٌ في الحلق تتعاظم ، وحزنٌ في القلب، وفى الدّماغ لفقدانك وأنت في أوج عطائك ونشاطك وابداعك الفريد ...
أيّها الصّديق الصّدوق والانسان الخلوق، إنّني ما زلت أتذكّر إبتسامتك المعهودة، وتواضعك الجمّ، وكلماتك المنتقاة المتناغمة المتراصّة، كنتَ تبادل خلّانَك، وأصدقاءَك، وأحبّاءَك، الحديث، كأنك مخلوق بلّوري، طيّبَ المَعشر، هادئَ البال، خفيضَ الصّوت، يكاد حديثك أن يكون همساً، وديع النفس، رقيق المشاعر، حلو الكلام، صافي السّجايا، حميد الخصال والمزايا ، كريم المحتد، بلطفك الشديد، وببراءتك النقيّة، وبكلماتك الهادئة التي تخرج من فيك وبالكاد كانت تلامس آذانَ مُخاطَبيك، كنت تُحاوِرنا، بكلامك المقلّ، وبإصغائك الطويل، نابهاً، يقظاً، ذكيّاً، وقّاداً. أنت الذي أعطيتَ للحرف معنىً، وللكلمة مغزىً في هذا الرّبع القصيّ من وطننا الكبير، وألبست " الضّاد" هيبةً وسحراً، ودرراً ووقاراً بشهادة كلّ من قيّضَ الله له حظوة قراءة ابداعاتك الجميلة في مشارق الأرض ومغاربها .
نجمٌ سطع بين "دِرْسَا "و"غُورْغِيزْ"
هذا الاسم اللاّمع سَمَا به أدبُه، وازدان بيراعه شعرُه... في عام 2013 خَبَا وأفل نجم طالما حلّق عالياً في سماء الخلق، والعطاء، والإبداع في المغرب، إنطفأت شمعة طالما أنارت دياجي العتمة في هذا البلد الأمين، هذا النجمٌ الساطع بزغ، وأشرق، وأشعّت خيوطه الذهبية الأولى مُطلّة في خشوع بين ثنايا مرتفعات، وأخاديد وآكام، وهيادب السّحب المعبأة بالمُزن الرّاسية على قمم جَبَليْ "دِرْسَا "و"غُورْغِيزْ" الشّاهقين اللذيْن يحضنان بين تضاريسهما، وآجامهما مدينة تطّاوين الآمنة أو تطوان العامرة، التي تبدو للناظر إليها من بعيد وكأنّها حمامة ناصعة البياض، وهو الوصف الذي نعتها به الكاتب الإسباني الكبير بِينيتو بِيريثْ غَالْدُوسْ (1843- 1920) في روايته "عايطة تطّاوين" التي تدور أحداثها عن الحملة الحربيّة الضّروس، والهجمة العسكرية الشّرسة التي قادها الجنرال الإسباني ليوبولدو أودونيل عليها عاميْ 1860- 1859، والحمامة البيضاء هي الصّفة التي تُسمَّى بها هذه المدينة الجميلة حتى اليوم، الحمامة إيّاها لابدّ أنها نفس الحمامة التي سبق أن رمق أحمد شوقي سليلاتها السّالفات أو مثيلاتها السّابقات في مهجره، ومنفاه في الأندلس، والتي قال فيها أو عنها آنذاك : حمامةُ الأيكِ مَنْ بالشّدو طارَحَها / وَمَنْ وراء الدّجىَ بالشّوق نَاجَاها.. ! ولابدّ أن حمامة شوقي تذكّرنا حتماً بحمامة أبي فراس الحمداني عندما كان فى أسره عند الروم حيث يقول :
أَقولُ وَقَد ناحَت بِقُربي حَمامَةٌ / أَيا جارَتا هَل تَشعُرينَ بِحالي.. مَعاذَ الهَوى ماذُقتِ طارِقَةَ النَوى / وَلا خَطَرَت مِنكِ الهُمومُ بِبالِ.. أَتَحمِلُ مَحزونَ الفُؤادِ قَوادِمٌ / عَلى غُصُنٍ نائي المَسافَةِ عالِ ..أَيا جارَتا ما أَنصَفَ الدَهرُ بَينَنا / تَعالَي أُقاسِمكِ الهُمومَ تَعالَي.. تَعالَي تَرَي روحاً لَدَيَّ ضَعيفَةً / تَرَدَّدُ في جِسمٍ يُعَذِّبُ بالِ .. لَقَد كُنتُ أَولىَ مِنكِ بِالدَمعِ مُقلَةً / وَلَكِنَّ دَمعي في الحَوادِثِ غالِ . !.
في تطوان الفيحاء الأخت التوأم لغرناطة الحمراء، التي تعني باللغة القشتاليّة أو ( الاسبانية) "الرُمّانة" ماؤها عذب كماء الرُمّان.. لوْن غسقها وشفقها أحمرٌ كلوْن الرُمّان.. مَذاقها حُلوٌ ،لذيذٌ، مُزّ كطعم مَذاق الرُمّان...لا عجب إذن إن قيل إنّ الرُمّان فاكهة من فواكه الجنّة الموعودة.. وربّما هذا ما يفسّر أو يبرّر مصداقَ الأبيات الشّعريّة الجميلة المشهورة لشاعر الطبيعة، والخُضرة والمُحَيّا الجميل إبن خفاجة القائلة :
يَا أَهلَ أَندَلُسٍ لِلَّهِ درُّكُمُ / ماءٌ وَظِلٌّ وَأَنهارٌ وَأَشجارُ ..ما جَنَّةُ الخُلدِ إِلّا في دِيارِكُمُ / وَلَو تَخَيَّرتُ هَذا كُنتُ أَختارُ...
لاتَختَشوا بَعدَ ذا أَن تَدخُلوا سَقراً / فَلَيسَ تُدخَلُ بَعدَ الجَنَّةِ النارُ...!! ..ليس إذن كذلك من باب الصّدفة أن تُسمّى غرناطة ب " الرُمّانة" .
أمّا ( تطّاون) أو تطوان التي طرّزَ ونسجَ إسمَها الشّاعريّ اللاّمع أجداد أكارم من أرومة الأمازيغ الأحرار منذ بنائها أواخر القرن الخامس عشر من طرف الموريسكييّن النازحين، والتي تعني العيُون وهي فى صيغتها القديمة الأصيلة (تطّاوين) وهي جمع لمفرد (ثِيطّ) التي تعني (العيْن)،فإنها تُلقّب اليوم ب " الحَمَامَة" .. ففي زنقة القايد أحمد الريفي بالمدينة العتيقة وُلد الطفل الصبّاغ الذي سيحمل طفولتَه معه بين أحشائه وجوارحه، وقراطيسه وأقلامه طول حياته، والتي لم تنسلخ عنه، ولم تفارقه قطّ في رحلة عمره الطويلة إلى أن أسلم الرّوح إلى باريها في مدينة رباط الفتح .
"كتامة تطوان " و"المعتمد" العرائش
ما فتئت قصصك، ومقالاتك، وكتبك تعانق الآمالَ والآلامَ، وتتفجّر بالمكابدة والمعاناة إنها مشحونة بالرّموز والدّلالات البعيدة المدى العميقة الغور، إنّه أدب لا يُقرأ بالعين، أوباللسان، أو بالقلب، أو بالعقل وحسب، بل يُقرأ بهم جميعاً، إبداعاتك تستحوذ على كيان قارئها وتشدّه إليها شدّاً، و ما زالت صدى كلماتها، وشذى أسلوبها، ومعانيها، وأحداثها، وتعابيرها، وأغوارها وأبعادها تفعل فينا فعلَ السّحر، وما إنفكّت عالقة لصيقة بآذاننا وبأذهاننا، ووجداننا إلى اليوم. كنت كلّما سلّمتك مقالاً أوكتاباً من بواكير كتاباتي الأولى فى ذلك الزّمن الغابر الجميل من السبعينيات من القرن الفارط – وأنا بَعْدُ مازلت في مقتبل العمر وريعانه – تبادر بكلمات الشكر والإمتنان، كنت تعرف أنّ الذي يسلّمك أدبه، إنّما كان يسلّمك قطعة قُدّت من عقله، وذاته، وروحه، ووقته، وسُهاده، وسَهَره، ومُعاناته.
عزّ عليّ أيها الصديق النبيل ألاّ أكون إلى جانب هؤلاء الزّملاء الأكارم من فرسان القلم والابداع، من أصدقائك وخلاّنك، وتلامذتك، ومريديك، وجيرانك، ومحبّيك – وما أكثرَهم – الذين رافقوك إلى مأواك الأخير، عندما إختطفك منّا يدُ المنون، حيث شحط بيننا المزار ، وبعدت عنّا الديار، كان بيني وبين الوطن الغالي برزخ واسع، ويمّ عميق. ولكن على الرّغم من بعُد النّوى، وشساعة المسافات، فإنّك ستظلّ في قلوبنا، وأفئدتنا، ما حيينا، ستظلّ ساطعاً مشعّاً كالقمر الوضّاء في كبد السّماء، لامعاً كأنشودة صادحة في الآفاق، تطلّ علينا من وراء الأفق النائي، ومن خلف الغيب البعيد.
بعد انصرام هذه السنوات العشر العِجاف تحيّة حرّى إلى روحك الطاهرة من حاضرة غرناطة الفيحاء التي طالما هِمْتَ بها وعشقتها ، وكتبتَ، ونشرتَ ،وترجمتَ إلى جانب صفوةٍ من رفاقك المغاربة في درب الخلْق والإبداع للكثيرين من أدبائها وشعرائها، وفي طليعتهم الشّاعر المنكود الطالع، المأسوف على شبابه، فيدريكو غارسيا لوركا، في مجلتيْ "المُعتمد" التي كانت تصدرها صديقتك الأديبة الإسبانية ترينا ميركادير بمدينة العرائش، وفي مجلة "كتامة" التي كان يصدرها صديقك وصديقي الأديب الإسباني الراحل خاثنتو لوبث كورخي بتطوان العامرة ، وكلتا المجلّتين شكّلتا سبقاً عظيماً لم نرَ له نظيراً في العالم العربي حتى اليوم، إذ كانتا تصدّران في آنٍ واحدٍ في ذلك الإبّان باللغتين العربية والإسبانية ،وعرّفتا بلا تثاؤب بالآداب العربية والإسبانية فى ذلك الزّمن المبكّر خير تعريف. ذكراك العطرة في هذه الحقول الإبداعية وسواها بهذه المدينة الكبرى أخت مدينتك الجميلة تطوان،وفى سائر المدن الإسبانية الأخرى مازالت، وستظلّ نابضة، متّقدة في قلوبنا كالشّعاع النابض الوهّاج.
من روائعه التي لا يطولها النّسيان
قرأنا لك العديد من الرّوائع الموشية ، والحواشي المُطرّزة ، من أدبك وإبداعاتك، من منّا لا يذكر بنات أحلامك السّابحات في عالم أثيري بهيج، اللواتي ينسبنَ إنسياباً في رفق ودلال ورقّة مع أمواج فكرك وخيالك، فهذا "عَبيرُك المُلتهب" ما زال يفعل فينا فعلَ المياه العذبة في الأملاح، و"شجرة محّارك" ما زالت تستظلّنا بوارف ظلالها الفضيّة النقيّة الوضّاءة، المزخرفة الموشّاة، وما زلنا نقرّبها من فوهة آذاننا، في نشوة وإنتشاء الأطفال وبراءتهم، لتسمعنا على إيقاع هدير الأمواج العاتية البعيدة سحرَ الأسطورة المسحورة، وتحكي لنا خرافة الجنيّ المارد العملاق، الذي يستوي مُربّعاً كالحزمة داخل القنّينة الصغيرة، ثمّ ما ينفكّ يخرج منها في رفق وينتشر في الفضاء إنتشار مظلّة مظليٍّ جبّار في سديم السماء . و"لهاثك الجريح" ما زال يلهث في أناة، وينفث لنا مع كلّ زفرة من زفراته، أنّات، وآهات باكية شاكية متأنيّة. وما زال "زورق قمرك" المحمّل بطيب المسك، يحكي لنا عن أسراره كلما حوّم وسبح في البعد اللانهائيّ الفسيح، ثمّ لا يلبث أن يعود إلى مستقرّه ليستوي على عرش القلب ويحيط بشغافه وأعطافه وثناياه .
فوّاراتُ الظمأ وشلاّلاتُ الأسود
وتتسابق الحروف، وتتبارى وتتلاحق الكلمات في الحديث عنك وهو ذو شجون، وشدو، وهمس، وصياح، ما بين "أسد شلاّلاتك"، و"فوّارات ظمئك" و"عنقود نداك"، و"شموعك" البّارقات التي لا تنطفئ مهما بلغ عتيّ الريّاح، بل إنهّا تزيدها إتّقاداً، ولمعاناً، ونوراً، وبهاءً. هكذا كان الصبّاغ، فكأنّما من نفسه صيغ إسمه، فإذا الجوهر سرّ المخبر، وكأنّي بريشته قد قُدّتْ من روحه لتصبغ لنا ألواناً زاهية رائقة من الأدب الرفيع، وإذا بالكلمة عنده تشبه ملائكة الفجر الصّبوح، تتيه في دروب قلوبنا المظلمة، فتشعّ وتشيع فيها وعليها من نورها ضياءً ساطعاتٍ، سرعان ما تتحوّل في حياتنا إلى صوًى أو صُوّاتٍ، وأصواتٍ نهتدي على هديها في المسالك الوعرة، والحوالك الصعبة، فى مفاوزَ، ومهامه، وقفارَ حياتنا الرديئة في زمننا هذا الحزين .
"كالرّسم بالوهم" حزمة عواطف، وشحنة آهات، وباقة خواطر، تبدّت جدواها في حياتك ، فكان لها قلمك بالمرصاد مسجّلاً، حاكياً، شاهداً، ناطقاً، صادقاً، ينتقل بنا في سياحة فكرية وأسلوبية رائعة، فمن حديثك عن :ألفية ابن زيدون، وعن رحلته الضوئيّة من الأندلس إلى المغرب، ثمّ تعريجك على الشاعر الغرناطي لوركا المعنّى الحائر المكابد، ثم لا تلبث أن تذرف دمعات حرّى ساخنة على كوكب الشرق أمّ كلثوم التي تبدّت لك فيها الحرب والسلم، والنّار برداً وسلاماً، وخمرةَ هوىً، وأسطوانةَ حياة، تديرها ملايين الأصابع، ومنها تطير إلى لبنان المخضب، المتالّم والذي لا يبرحه الألقُ، والرّونقُ والبّهاءُ . ومنه تنتقل للحديث عن فلذات الأكباد الصّغار، أمل الغد ورجال المستقبل في كتاباتك الموفية الشهيرة للأطفال البراعم الصغار، ثم إعتراف لك بسبق عظيم في عالم القصّة بتقريظك لمجموعة العمّ بوشناق لعبد الرحمن الفاسي، الذي قلتَ عنه بأناقة أسلوبك : "أنّه ألبس القصّة في هذه الرّبوع عمامةَ التوحيدي، وخلعَ عنها قبّعةَ موباسّان"..!. وعن صديقك، الكاتب الراحل عبد الجبّار السحيمي قلت : "قبل أن يأتي هذا الوجه في سياق الرّؤيا، كانت القصّة في هذه الرّقعة ضرباً من الخرافة تُرسل في الأسمار، ثمّ استوت على يديْه فنّاً مُربّعاً يصدّره المغرب إلى الخارج مع أنفس ما يصدّره من بهاء."
عناق الأحبّة بين نعيمه والصَبّاغ
آهٍ أيها الرائد الواعد المجدّد من أيّ عهدٍ في المدائن والحواضر والقرى تدفّقت علينا بفنّك الرائق...؟ بشلالات أُسْدِك وشجرات محّاراتك..؟ وصدفاتك الملساء..؟ وعناقيدك المدلاّة الصّافية كثريّات الذهب..من أيّ عهدٍ نبع ونبغ هذا الشاعر النثّار.. والحالم السّماوي الذي كان عطاءً من نوع خاص، جادت به تربة المغرب الفيحاء، ونفخ فيه تراثنا العريق، واستظلّته أدواح الغرب، فكان هذا الحلم المبعثر في ثنايا الزّمن. .هذا الشّادي الذي تحوّل اليراع على يديه إلى نايٍ مصداح ، فأطربنا وأشجانا، وأعذبَ الكلامِ وحلوَه شنّف أسماعنا .
الأديب اللبناني الكبير الراحل أديب الفلاسفة أو فيلسوف الأدباء ميخائيل نعيمه عندما قدّم كتاب محمد الصّباغ "اللهاث الجريح"عام 1955 قال عنه بالحرف : "يعتبر الصباغ من ألمع رجالات النهضة الأدبية في المغرب العربي، فهو كاتب تتفجّر عواطفه وأفكاره من شق قلمه عنيفة، صاخبة، ولذلك تراه يتنكّب العادي والمألوف من قوالب البيان. إذا نظم فبغير وزن وقافية كما تشهد مجموعته الشعرية المترجمة إلى الإسبانية "شجرة النار" ، وإذا نثر كسا مفرداته وعباراته حللاً من الألوان بين زاهية وقاتمة، ثم أطلقها تدرج على أوتار تعدّدت مفاتيحها وتنوّعت قراراتها". كان محمد الصبّاغ بديعاً في الديباجة، والمعاني والبيان . كان أديباً سَمَا به أدبُه، إننا ما فتئنا نتذكّر كتاباته التي تطفح بالخير والرضى والمحبة والتفاؤل، وتحفل بالآمال، ونردّدها في ما بيننا بين الفينة والأخرى، وعلى الرّغم من الألم الذي يعصرنا، والحزن الذي يهدّنا، فإنّ هذا الكاتب الرائع والمبدع اللامع ما زال عندما نقرأ له من جديد يجعل شفاهَنا تندّ عن إبتسامات عريضة في زمننا هذا الكئيب .!
عن محمد الصبّاغ يقول بلديّه الصّديق العزيز الناقد المبدع إبراهيم الخطيب بقلبٍ نابضٍ بفيضٍ غامرٍ من المحبّة والصفاء والنقاء والإعجاب في مقالةٍ بنفس المناسبة تحمل عنوان: (استفسار جياد الكتابة) : "لبعض الكتاب، هشاشة الحدائق اليابانية الجميلة: والراحل محمد الصباغ (1929- 2013) أحد هؤلاء. وحين نتذكره ، بعد مرور عشر سنوات على رحيله ، فنحن نتذكر أيضا تلك الطقوس التي ارتضاها لنفسه ككاتب: طقوس الصمت المتعالي، والسير في الممرات الظليلة ، والكتابة بحد ريشة مغموسة في محبرة الشعر. نتذكر فيه اليوم أيضا كاتبا فذا أخلص لكتابته، وثابر في بنائها لبنةً لبنة، سنين متطاولة، بحيث شكّل منها جوهر رؤيته للعالم والناس، وشكلّت منه الشاعر الناثر بامتياز؛ كما نتذكر فيه، من جهة أخرى، أحد أبرز مؤسسي اتحاد كتاب المغرب، هذا الاتحاد الذي يعتبر تراثا وتاريخا ثقافيا وطنيا تكاثفت جهود أربعة أجيال لتجعل منه الحصن الثابت لثقافة يممت وجهها شطر المستقبل، ويمر اليوم للأسف بأزمة خانقة" .
*كاتب وباحث ومترجم من المغرب، عضو الأكاديمية الإسبانية – الأمريكية للآداب والعلوم – بوغوطا- كولومبيا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.