على تخوم سلاسل الأطلس الصغير، وفي فسحات الأرض الجافة الممتدة حول تارودانت، يشهد موسم جني فاكهة "الهندية" ( التين الشوكي) حركية غير مسبوقة، تؤشر على تحوّل صامت في مسار الفلاحة المحلية إذ لم تعد هذه النبتة الشوكية، التي طالما ارتبطت في الأذهان بالبقاء البيولوجي في وجه القحط، مجرّد محصول موسمي يُستهلك طازجا، بل غدت موردا اقتصاديا حيويا يدرّ أرباحا تُغري الفلاحين، وتُنعش القرى، وتدفع نحو أفق تنموي جديد في عمق سوس. في سنتها الثالثة، بدأت ثمار مشروع استنبات "الهندية" الذي أُطلق بدعم مباشر من وزارة الفلاحة في إطار استراتيجية "الجيل الأخضر"، تتجلّى بوضوح على مستوى العائدات الفلاحية، إذ تجاوز سعر الصندوق الواحد من الفاكهة هذا العام عتبة 250 درهما، وبلغ في بعض الأسواق نحو 400 درهم، وفقا لشهادات متطابقة من المنتجين المحليين. هذا الارتفاع الملموس في المداخيل لم يكن ليحدث لولا تدخل الدولة من خلال توزيع شتلات مقاومة لآفة القرمزية التي ألحقت أضرارا جسيمة بالمحصول في سنوات سابقة، إضافة إلى الدعم التقني والتأطير الميداني الذي مكّن الفلاحين من تبني تقنيات الريّ الموضعي وتحسين جودة الإنتاج. بين الحقول المترامية الأطراف، وقف الحاج عبد الله، فلاح مخضرم، يتفحّص بعين الخبير نضج إحدى الثمار، قبل أن يُعلّق بابتسامة رضى: "كنّا نبيع الهندية بأثمان زهيدة لا تغطي حتى مصاريف النقل، أما اليوم، فقد تحوّلت هذه الفاكهة إلى ذهب يُقطف. لا يعود الفضل في ذلك فقط إلى طبيعة الأرض، بل إلى التكوينات والمواكبة التي نتلقاها من مهندسي الفلاحة والمواكبة المنتظمة رغم كل الصعوبات". شهادته تتقاطع مع أخرى أدلت بها فاطمة العزيز، منسقة تعاونية نسائية حديثة النشأة، اعتبرت أن التين الشوكي ليس مجرد مورد رزق موسمي، بل فرصة لإدماج النساء في الدورة الإنتاجية، شريطة توفير وحدات تحويل وتثمين قريبة ترفع من القيمة المضافة وتقلّص من هيمنة الوسطاء. وفي أسواق الكردان وأولاد برحيل وإنزكان، حيث تنصب الصناديق الممتلئة في الأسواق وعلى جنبات الطرق الترابية، يزداد الإقبال يوما بعد يوم، ما يعكس تحسّنا واضحا في الوعي الاستهلاكي، كما في تنظيم العرض المحلي. محمد الهواري، شاب وجد في تجارة "الهندية" متنفسا من البطالة، يعبّر عن هذه الدينامية قائلا: "هذا الموسم، لا يكاد المنتوج يبيت في الحقل، فالتجار يتوافدون باكرًا، والسوق تطلب أكثر مما ننتج. نحن بحاجة الآن إلى تخطيط يسمح لنا بالمنافسة في أسواق المدن الكبرى، وربما حتى التصدير". ولا تتوقف رهانات المشروع عند العائدات المادية فقط، بل تتعداها إلى أبعاد بيئية وتنموية أوسع. فزراعة التين الشوكي تُسهم، وفق خبراء، في مقاومة التصحر، واستصلاح الأراضي الهامشية، واستدامة الموارد الطبيعية. كما أن نجاح هذه الزراعة المجالية يفتح الباب أمام الاستثمار في منتجات مشتقة من الفاكهة، كالعصائر والمربى والزيوت ومستحضرات التجميل، وهو ما يتطلب تعبئة استثمارات جديدة وتحديث سلاسل التوزيع. وفي انتظار موسم جديد من "الهندية"، تظل هذه الفاكهة، بما تحمله من دلالة رمزية على المقاومة والقدرة على التكيّف، عنوانًا لنهضة فلاحية صاعدة في قلب سوس. نهضة قد تكون صامتة، لكنها راسخة، تمضي بين أشواك الأرض لتثمر أملا، وتكتب لفلاحي تارودانت فصلا جديدا في رواية الكفاح والتجدّد رغم الجفاف وقلة الماء وهجرة الفلاحين لعشرات الضيعات الفلاحية.