رحل عن دنيا الناس، يوم السبت، المناضل اليساري عزيز المنبهي، بعد صراع مع المرض في منفاه الباريسي، مخلفا وارءه إرثا من النضال نسجته تضحياته هو واسرته من الحزن والألم ولكن من الصمود والثبات على المبادئ أيضا. عزيز المنبهي، المناضل الذي لم يقهره السجن والمنفى لم يكن فقط أحد رموز النضال وقادة الحركة اليسارية المغربية، وإنما هو أيضا سليل أسرة سيتٌخلّد اسمها في سجل نضال الحركة الطلابية واليسارية المغربية.
أسرةٍ دفعت ثمن التزامها بالنضال غاليًا، حيث ستخلد شقيقته سعيدة المنبهي أيقونة وشهيدة النضال عندما ارتقت شهيدة داخل زنزانتها المنفردة، بينما سيُساق هو إلى زنازين التعذيب والاعتقال وينهي حياته في مطاردا ومنفيا في الغربة، لكنه ظلّ صامدا ثابتًا على قناعته: "كنتُ ماركسياً لينينياً، وسأظل ماركسياً لينينياً، وسأموت ماركسياً لينينياً." هذا الشعار لم يكن مجرد كلمات، بل مسار حياة صلدة في وجه الانكسار، يٌجسد معدن هذه الأسرة المناضلة الأصيلة. عٌرف المنبهى طيلة حياته بنضاله في صفوف الحركة الطلابية والنضال من أجل التغيير، وُلد في مراكش في 15 فبراير 1950، ونشأ في عائلة مناضلة، وكانت أخته الشهيدة سعيدة المنبهي رمزًا للثورة اليسارية بالمغرب. درس المنبهي الفلسفة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية في الرباط، وانخرط منذ مرحلة الجامعة في العمل السياسي، وانتخب أمينًا عامًا لاتحاد الطلبة في كلية الآداب بين 1969 و1972. وفي نفس العام انتخب رئيسا للمؤتمر الخامس عشر للاتحاد الوطني لطلبة المغرب عام 1972، وخلال قيادته للاتحاد الطلابي اعترف الاتحاد لأول مرة بقضية فلسطين كقضية وطنية للشعب المغربي. في حواره مع الصحافي سليمان الريسوني (نُشر في المساء عام 2013)، استعرض المنبهي مواقف ذلك المؤتمره التاريخي (المؤتمر الخامس عشر للاتحاد الوطني لطلبة المغرب)، وتفاصيل الحصار السياسي والملاحقة التي تعرض لها هو وباقي رفاقه المناضلين في سنوات سبعينات القرن الماضي التي دخلت إلى تاريخ المغرب المعاصر تحت عنوان "سنوات الجمر والرصاص". في بداية نشاطه السياسي داخل الجامعة، انضم المنبهي إلى الحزب الشيوعي المغربي، ولكن ما لبث أن انشق عنه عام 1970 بسبب تحوله تدريجيًا نحو مهادنة النظام، وشارك إلى جانب مناضلين آخرين في تأسيس المنظمة الماركسية اللينينية "إلى الأمام"، التي كانت تمثّل اليسار الجذري في المغرب الطامح إلى بناء حزب ثوري من العمال والفلاحين والطلبة. ونتيجة نشاطه النضالي، داخل الساحتين الطلابية والنقابة ، زبسبب مواقفه التقدمية الثورية، اختطف المنبهي عام 1973، وتعرض للتعذيب الشديد في "درب مولاي الشريف" السيّئ الذكر في الدارالبيضاء، وتمت محاكمته في إطار ما يعرف ب "قضية الجبهة الطلابية"، وحكم عليه بالسجن رغم خلو ملفه من أية أدلة، وبعد خروجه من السجن، رفضت السلطات تسليمه جواز سفره رغم تدهور حالته الصحية، واضطر لمغادرة المغرب بهوية أوروبية إلى المنفى وأقام في فرنسا، حيث ظل متمسكًا بمواقفه حتى وفاته. عائلة المناضلين المنبهي، هو أيضا الاسم العائلي لأشهر أسرة يسارية مغربية مناضلة، ويكفي هذا البيت أنه أنجب سعيدة المنبهي، شهيدة وأيقونة النضال في المغرب في زمن "الجمر والرصاص". وسعيدة هي الشقيقة الصغرى لعزيز، شاعرة ومناضلة منذ صغرها، أصبحت رمزًا للمقاومة بكل ما تحمله الكلمة من شاعرية وصمود، ولدت عام 1952 بمراكش وتُوفيت في 11 ديسمبر 1977 بالدارالبيضاء، بعد أن خاضت إضرابا عن الطعام في السجن. مثل شقيقها التحقت بكلية الآداب في الرباط ودرست الأدب الإنجليزي، وتخرجت ثم عملت أستاذة في السلك الأول بالرباط، انخرطت مبكرا في الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، ثم في منظمة "إلى الأمام" الماركسية اللينينية. اختُطفت في 16 يناير 1976، ثلاث سنوات بعد اختطاف شقيقها عام 1973، وتعرضت هي الأخرى للتعذيب في معتقل "درب مولاي الشريف" السيء الصيت، ثم نقلت إلى السجن المدني وعُزلت هناك بغرض كسر إرادتها، خاصة بعد مرافعتها القوية داخل المحكمة حول حق الشعب المغربي في تقرير مصيره بحرية وكرامة. في 8 نوفمبر 1977، خاضت سعيدة إضرابا مفتوحا عن الطعام لتحدي جلاديها وأيضا للاحتجاج على أوضاع السجناء السياسيين ورفض الدولة الاعتراف بهم كمعتقلين سياسيين، وتوفيت في 11 ديسمبر 1977 في مستشفى ابن رشد بالدارالبيضاء نتيجة إضرابها عن الطعام ومستوى الإهمال الطبي الذي تعرضت له، وكانت تبلغ من العمر عند استشهادها 25 ربيعاً. تركت سعيدة وراءها ديوانًا شعريًا كتبه بأظافرها ودمها على جدران زنزانتها، ما يعكس قوة روحها ونبضها المقاوم، ومن بين ما كتبت ، هذه الكلمات التي ستظل محفورة في ذاكرة المناضلين والأحرار، إنه الإرث الذي تركته لنا أسرة المنبهي، وهو ليس إرث أسرة واحدة، وإنما إرث وطنٍ بأكمله يحثنا على المقاومة ضد النسيان، ويذكرنا بأن الحرية والكرامة ثمنهما غالٍ. رحل عزيز المنبهي صامدا بعد صراع مع المرض في منفاه الباريسي، لم يقهره السجن ولم يكسره المنفى، مخلدا إسمه وإسم أسرته في الذاكرة النضالية المغربية كآخر فرسان الحركة الثورية في المغرب، ورحيله اليوم يعيد إلى الأذهان سيرة شقيقته سعيدة، وصوتها الذي ما زال يتردد صداه في ساحات النضال "تذكّروني بفرح، فأنا وإن كان جسدي بين القضبان الموحشة فإن روحي عاتيّة.. أما جراحي فباسِمَة، مٌحلِّقة بحرّية".. كلمات سيظل صداها خالدا مادام على أديم هذه الأرض أحرار وحرائر..