دخلت جنازة أحمد الزفزافي، والد قائد "حراك الريف" ناصر الزفزافي، سجلّ المواكب الجنائزية الشعبية الكبرى التي عرفها المغرب خلال ربع قرن الأخير، بعدما خرجت مدينة الحسيمة في موكب جنائزي مهيب لتشييعه وسط شعارات حملت أكثر من رسالة سياسية إلى من يهمهم الأمر. كما أضفى السماح لناصر الزفزافي بحضور الجنازة بترخيص استثنائي على المشهد رمزية خاصة، إذ امتزج الحزن العميق بمطالب شعبية واضحة تدعو إلى طي صفحة الاحتقان وإطلاق سراح معتقلي قادة "حراك الريف"، فيما حرص ناصر نفسه على بعث رسائل تدعو إلى طي صفحة الماضي وبدء أخرى جديدة للمصالحة والبناء.
وطيلة تاريخ المغرب، شكلت المواكب الجنائزية، خاصة تلك الشعبية، فضاءات لبعث رسائل سياسية أو فضاءات للتعبير الشعبي، كما حدث مع الجنازة الشعبية الكبيرة لعبد الرحيم بوعبيد الذي توفي بداية تسعينات القرن الماضي، وحملت جنازنه رسائل سياسية عابرة لحدود الحداد. لكن طيلة ربع القرن الماضي، مع استثناء الجنازة الرسمية والشعبية للملك الراحل الحسن الثاني، فقد برزت بوضوح الدلالات السياسية للمواكب الجنائزية في ديسمبر 2012 حين خرج عشرات الآلاف في الرباط جاؤوا من جميع أنحاء المغرب لتشييع عبد السلام ياسين، مرشد جماعة العدل والإحسان. كان المشهد بمثابة استفتاء شعبي على حجم قاعدة اجتماعية واسعة لحركة معارضة ظلت خارج مؤسسات الدولة، وحمل دلالة قوية على استمرار حضورها الشعبي رغم غياب الاعتراف الرسمي بها، ورغم المنع الذي طال حتى مراسم التشييع آنذاك، عندما منع الموكب الجنائزي من عبور شارع محمد الخامس في الرباط، وحرم الكثير من المشيعيين من الحصور والسير مع المشيعين، خاصة الأتباع الذين حاولوا المجيئ مناطق بعيدة، وتم منعهم في محطات النقل العمومي ومحطات القطارات. وفي أكتوبر 2016، مثّلت جنازة بائع السمك محسن فكري الذي أثارت وفاته المأساوية مفروما داخل شاحنة للنفايات، لحظة فارقة في تاريخ مدينة الحسمية والريف عموما، عندما حمل المشيعون جثمانه سيراً على الأقدام لمسافة تقارب 18 كيلومتراً حتى مقبرة إمزورن، في موكب شعبي ضم نحو 25 إلى 30 ألف مشارك، جعلت من جنازته أكثر من مجرد وداع، بل مسيرة احتجاجية ضد "الحكرة" والتهميش، لتصبح الجنازة رمزاً لغضب اجتماعي مهّد لانطلاق موجة احتجاجات ما عرف ب "حراك الريف" الذي هز المنطقة ولا يزال حاضرا كأحد أبرز علامات فقدان الثقة بين الدولة والمجتمع خلال العقد الأخير. أما في مايو 2007، فقد ودّع المغاربة إدريس بنزكري، رئيس هيئة الإنصاف والمصالحة، في جنازة اتسمت بمزج بين الطابع الشعبي والحضور الرسمي، إذ شارك الأمير رشيد ومسؤولون كبار إلى جانب حشود من المواطنين وفاعلين حقوقيين. الرجل الذي قضى 17 عاماً في السجون قبل أن يصبح مهندس مسار العدالة الانتقالية، غادر الحياة وسط التفاف جمعي عكس مكانته كمناضل يساري سابق وكرمز لمرحلة انفتاح حقوقي في المغرب لا زال متعثرا حتى اليوم. هذه المواكب الجنائزية الشعبية الأربعة، على تباين خلفيات أصحابها، أظهرت أن الجنازة في المغرب ليست مجرد طقس وداع، بل فضاء شعبي للتعبير عن رسائل سياسية واجتماعية. من عبد السلام ياسين إلى محسن فكري، ومن إدريس بنزكري إلى أحمد الزفزافي، حملت الحشود في صمتها أو هتافاتها إشارات مباشرة إلى الدولة والمجتمع معاً، بأن الذاكرة الجماعية تصوغ في لحظة الحزن خطاباً موازياً لا يقل قوة عن أي منبر سياسي.