بين قاعات الدرس الفرنسية والفضاء الرقمي الذي صار موطناً أثيراً للشباب، تضع بريجيت بروت إصبعها على سؤال بات يفرض نفسه بإلحاح: كيف نتعامل مع جيل زِد، جيل المراهقين والشباب الذين يبدو أنهم فقدوا الرغبة في التعلّم، أو على الأقل لم يعودوا يجدون فيه معنى؟ في كتابها الجديد (Génération Z. Libérer le désir d'apprendre، دار أوديل جاكوب، 2023)، تقترح بروت مقاربة مختلفة، لا تقوم على لوم الشباب ووصمهم بالكسل أو اللامبالاة، بل على محاولة فهم عالمهم، ثم مرافقتهم من الداخل ليتصالحوا مع فكرة التعلّم والجهد.
شباب عالق بين السرعة والفراغ تبدأ بروت، المتخصصة في البيداغوجيا النفسية (Psychopédagogue) والمسؤولة عن شعبة الإجازة في علوم التربية بالمعهد الكاثوليكي بباريس (ICP)، من تشخيص بسيط لكنه عميق: جيل زد يعيش في عالم الفورية والاستهلاك. هو جيل تربى على الهواتف الذكية وال«لا محدود» (unlimited)، معتاد على الإشباع اللحظي، لكنه في المقابل يُطالب بأن يلتزم بمسار دراسي طويل الأمد يتطلب الصبر والمثابرة. النتيجة، كما تقول، هي توتر دائم مع الزمن، وظهور السؤال المزعج: «ما الفائدة؟». من هذا المنظور، نفور الشباب من المدرسة ليس تمرداً بلا معنى، بل انعكاس لوضع اجتماعي وثقافي مضطرب، يخلق في داخلهم انقساماً وجودياً بين الاستهلاك والجهد، بين الحاضر الفوري والمستقبل الغامض. هذا الوصف يذكّرنا اليوم بما نراه في شوارع المغرب: آلاف المراهقين والشباب يخرجون في احتجاجات عفوية تحت شعار "جيل زد"، يطالبون بالتعليم العمومي الجيد، بالصحة، وبفرص الشغل. خلف هذه الشعارات تكمن نفس المعضلة: ما معنى المدرسة إذا لم تعد تعطي أملاً بمستقبل أفضل؟ بروت تؤكد أن المدرسة، سواء في فرنسا أو المغرب، لم تعد قادرة على استيعاب التحولات. فهي مازالت أسيرة النموذج العمودي التقليدي، حيث المعلم يلقّن والتلميذ يتلقى، بينما هذا الجيل يعيش وفق منطق أفقي، شبكي، يقوم على المشاركة والتفاعل اللحظي. هذه الفجوة تظهر اليوم بوضوح في المغرب: حين يشعر تلميذ ثانوي أن صوته لا يُسمع داخل القسم، فإنه يجد في تيك توك أو ديسكورد منصة أقوى للتعبير. وعندما يغيب الحوار داخل المؤسسات، يتحول الشارع إلى ساحة النقاش المفتوح. وفي حوار مع الكاتبة نشر على موقع الجامعة الفرنسية التي تدرس فيها، سألت عن الكاتبة عن ما هية الاحتياجات الخاصة لهذا الجيل في تعلّمهم؟ فكان ردها أن هذا الجيل الذي وُلد بين 1997 و2010 – يتميز بثلاثة "C" أساسية: Créer (الإبداع)، Communiquer (التواصل)، Collaborer (التعاون)، معتبرة أنهم يحتاجون داخل القسم إلى لعب دور نشط. يمكن أن يتجسد في "تحمل مسؤولية تنظيم أعمال المجموعات، أو إدارة مستوى الضوضاء داخل القسم لخلق جو عمل جيد، أو حتى أن يُستمع إليهم بشكل أكبر في مجالس الأقسام". وفي نفس الحوار سألت الكاتبة عن ما الذي ينبغي تغييره بشكل مثالي لتمكينهم من التعلّم بشكل أفضل؟ فكان جوابها كالتالي "إن الإيقاع المدرسي أصبح أقل فأقل ملاءمة. ينبغي أن يتم إنجاز كل العمل المدرسي داخل القسم لا في المنزل، مع تنويع صيغ أوقات العمل: مرة في ثنائي، ومرة في مجموعة، وأخرى بشكل فردي. وهذا ما يُسمى ب (البيداغوجيا الفارقية)"، مشيرة إلى أن ما يحتاجه هذا الجيل هو مزيد من الإبداع في طرق التدريس، لكسر القوالب التقليدية وصقل فضولهم. حكايات تكشف أزمة أعمق الكتاب لا يكتفي بالتشخيص، بل يقدّم عبر قصص واقعية سبلاً عملية من خلال استعراض ثالث حالات لثلاثة شبان من نفس الجيل، هم "مارين" Marine التي لا تريد النجاح ولا الفشل، تعكس حالة كثير من الشباب المغربي الذي يتردد بين مواصلة الدراسة أو الهجرة. و"ألبا" Alba الغارقة في الكمالية، تذكّر بالطلبة المتفوقين الذين ينهارون تحت ثقل الضغط النفسي وغياب الأفق. و"بول" Paul الذي يحمّل النظام مسؤولية كل شيء، يشبه أصوات المحتجين في الرباط أو فاس الذين يرون أن فشل المؤسسات التعليمية مسؤولية سياسية قبل أن تكون فردية. جوهر أطروحة بروت أن التحيز يمكن أن يٌعلَّم، وأن الحل ليس في زيادة الامتحانات أو العقوبات، بل في مرافقة التلاميذ لاستخراج إمكاناتهم، عبر بناء علاقة تقوم على الثقة والاعتراف، وتعليمهم كيف يتعلمون (استراتيجيات، منهجية، تنظيم)، وتربيتهم على الصبر والجهد، وعلى مواجهة الإحباط، بدل ثقافة "السهولة والفورية"، وإشراك الأسرة والمدرسة في تربية مشتركة (coéducation). هذه التوصيات تكاد تكون نسخة تربوية لما يطالب به شباب المغرب في احتجاجاتهم: مدرسة تعطي معنى، لا مجرد شهادات؛ مدرسة تعلم كيف نعيش ونواجه المستقبل، لا كيف ننجح في الامتحانات فقط. القراءة بعيون مغربية إن قراءة الكتاب بعيون مغربية ستكشف للقارئ أن ما تصفه بروت عن الشباب الفرنسي ينطبق إلى حد بعيد على الشباب المغربي اليوم. الفارق أن هذا الأخير يعيش فوق ذلك ضغطاً اجتماعياً واقتصادياً خانقاً: بطالة مرتفعة، مؤسسات تعليمية عمومية متهالكة، ومستقبل يراه كثيرون مسدوداً. هنا بالضبط تكمن قوة الكتاب: أنه يدعونا إلى قراءة احتجاجات "جيل زد" ليس فقط كحراك سياسي أو اجتماعي، بل كصرخة جيل فقد المعنى في المدرسة والحياة العامة، ويطالب بأن يُعطى له حقه في الأمل وفي "الرغبة في التعلّم". "جيل زد: تحرير الرغبة في التعلّم" هو كتاب يرفض خطاب "التقريع" الذي يصوّر الشباب كجيل ضائع. على العكس، ترى بروت أن وراء اللامبالاة الظاهرة طاقة هائلة تنتظر أن تجد فضاءً يسمح لها بالانطلاق. وبالنسبة للقارئ المغربي، قد يكون هذا الكتاب أداة لفهم أعمق لما يحدث اليوم في الشارع: جيل خرج يطالب بالصحة والتعليم والكرامة، لكنه في العمق يطالب أيضاً بشيء أكثر بداهة: أن نعيد له المعنى، وأن نساعده على استعادة الرغبة في التعلّم والحياة.