قدم الخبير الاقتصادي نجيب أقصبي قراءة نقدية لقانون مالية 2026، معتبرا أن المغرب يعيش ما يسميه "الموسم السنوي لقانون المالية"، بممارساته وطقوسه "التي تتكرر سنة بعد سنة"، لكنه يرى أن نسخة 2026 تكشف "تطورا مقلقا" في تدبير المالية العامة، تطورا "يكبر ويترعرع باستمرار" وبدأ يؤدي، بحسب تعبيره، إلى نوع من "التفكيك" في بنية الميزانية. في حلقة جديدة من قناته على يوتيوب بتاريخ 25 نونبر 2025، هاجم أقصبي بشدة النموذج الذي قدمته الحكومة في مشروع قانون مالية 2026، معتبرا أن ما يجري ليس مجرد وثيقة ميزانية سنوية، بل "نقلة خطيرة نحو تفكيك البنية التقليدية للمالية العمومية" عبر ما يسميه "التمويل المبتكر الذي لا يحمل من الابتكار شيئا، بل هو تمويل مبعثر يفتت الميزانية ويغطي على العجز الحقيقي".
وأكد أقصبي أن المغرب يدخل مرحلة مالية شديدة التعقيد "لا لشيء سوى لأن الحكومة تتغاضى عن المشكلات الحقيقية، وتستعيض عنها بحلول ظرفية، مكلفة وخطيرة على المدى البعيد". "تغييرات في آخر لحظة" يضع أقصبي سؤالا مركزيا ظل يتردد لسنوات: من أين تأتي الدولة بالأموال الضخمة لتمويل المشاريع الكبرى: الطرق، الملاعب، الكورنيشات، وتوسيع البنيات التحتية؟ ويؤكد أنه، رغم إعلان الحكومة أنها موجودة في الميزانية، فإن ما هو ظاهر "لا يكشف إلا جزءا بسيطا"، أما ما هو غير ظاهر "فلا يعلم علمه إلا الغيب". وأضاف: "ربما بدأت تظهر بعض الملامح اليوم، خصوصا مع توسع بنود غامضة، ومع تزايد الاعتماد على مصادر تمويل غير تقليدية". وأشار الخبير الاقتصادي إلى أن إعداد الميزانية هذه السنة عرف "تغييرات في آخر لحظة"، بعد إعلان زيادة ميزانيتي الصحة والتعليم إلى 140 مليار درهم. ويرى أن هذا يطرح سؤالا حتميا: هل أحدثت هذه التعديلات خللا في توازن الميزانية؟ مؤكدا أن قراءة الوثيقة تكشف "جوانب تمويل غير واضحة"، وأن "الهاجس القديم للتستر والغموض ما زال قائما ويزداد سنة بعد أخرى". ويُذكر بأن قانون مالية 2026 هو آخر ميزانية للحكومة الحالية، وهو ما يفتح الباب أمام ما يسميه "منطق التلميع": "الحكومة تعرف أنها قد لا تكون موجودة بعد انتخابات 2026، فتضع أرقاما ووعودا وهي تدرك أن غيرها سيتحمل النتائج". ويضرب مثالا بنسب النمو المتفائلة التي اعتمدتها الحكومة، إذ حددتها في 4.6 بالمائة، معتبرا هذا التفاؤل "مبالغا فيه وغير واقعي"، لأن الاقتصاد المغربي، كما يقول، "لم يحقق هذا المستوى إلا نادرا، وبشروط فلاحية ومناخية مواتية، وهي أمور غير متوفرة اليوم". ويتابع شارحا: "التفاؤل الكبير يعطي للحكومة قدرة على تلميع المؤشرات الأخرى، ذلك أن رفع الناتج الداخلي الخام حسابيا يجعل العجز يبدو أصغر، بينما هو في الواقع أكبر بكثير". وشدد على ضرورة التعامل بحذر مع ما يرد في الوثيقة: "هذه سنة خاصة... والمؤشرات فيها تحتاج إلى تنبيه وتحفظ". بعد ذلك انتقل أقصبي إلى جوهر التحليل: جدول التوازن العام، الذي يسميه "جدول اللا توازن". ويشرح مستويات الموارد والنفقات بلغة حسابية صارمة: "المداخيل العادية تبلغ 421 مليار درهم، منها 376 مليار كمداخيل جبائية، مقابل نفقات تصل إلى 592 مليار". ويقف عند الفرق بينهما: 171 مليار درهم، ويقول: "هذا هو العجز الحقيقي، وليس 3 بالمائة كما تريد الحكومة تقديمه. العجز الحقيقي يتجاوز 10 بالمائة من الناتج الداخلي الخام". وأضاف أن الحكومة تلجأ لتغطية هذا العجز إلى الاقتراض: "في سنة 2026 ستقترض الدولة 123 مليار درهم جديدة، لكنها رغم ذلك ستترك عجزا ظاهرا ب49 مليار، وهو ما تسميه الحكومة ب3 بالمائة، في حين الحقيقة الاقتصادية شيء آخر تماما". ويصف هذا الوضع بأنه "دوامة الاقتراض من أجل سداد الديون السابقة"، قائلا: "نقترض 123 مليار، ونرد 108 مليار... هذا ليس تمويلا للاستثمار، بل دوران داخل حلقة المديونية". "بنية الغموض المقلقة" وفي قراءته للمداخيل الجبائية، أوضح أقصبي أن ارتفاعها الملحوظ (13.6 بالمائة سنويا) لا يعود لإصلاح ضريبي حقيقي، بل إلى ثلاثة عوامل: التضخم وتطور الواردات، تشديد المراقبة الضريبية، وتوسيع الوعاء على حساب الشركات الصغرى والمتوسطة والطبقة الوسطى. ويشرح بالأمثلة: "الشركات التي تربح أقل من 300 ألف درهم ارتفع العبء عليها من 10 بالمائة إلى 20 بالمائة. أما الكبار فانخفض العبء من 31 إلى 20 بالمائة". ويقول بوضوح: "اليوم 95 بالمائة من المواد والخدمات الأساسية تخضع للسعر الأعلى للضريبة على القيمة المضافة، أي 20 بالمائة. والضريبة العمياء لا ترى جيب الغني من جيب الفقير". وتابع مؤكدا أن الطبقة الوسطى "هي التي تؤدي الضريبة على الدخل"، بينما "الكبار يمتلكون القدرة على شراء خدمات الخبراء لتقليص العبء الجبائي". ولهذا يخلص إلى أن "تحسن المداخيل الضريبية مبني على تكريس الحيف واللاعدالة الضريبية". ثم انتقل إلى المداخيل غير الجبائية، التي تبلغ 45 مليار درهم، معظمها من أرباح المؤسسات العمومية. ويشير إلى أن "مكتب الشريف للفوسفاط وحده يعطي سبعة مليارات، والمحافظة العقارية ستة مليارات، وبنك المغرب 3.6 مليارات"، لكنه يلاحظ "غموضا كبيرا" في كيفية توزيع هذه الموارد داخل البنود، وهو ما يكرر أنه "جزء من بنية الغموض المقلقة". ويصل أقصبي إلى واحدة من أكثر النقاط حساسية: الاستثمارات. ويقول إن رقم 380 مليار درهم الذي تقدمه الحكومة "غير واقعي"، لأن نسب الإنجاز الفعلية لا تتجاوز في كثير من الأحيان "55 بالمائة أو 60 بالمائة". ويلفت النظر إلى أن ثلثَي هذه الاستثمارات هي استثمارات عمومية، بينما يبقى القطاع الخاص عند الثلث: "منذ خمس سنوات ونحن نسمع عن تعبئة القطاع الخاص، والواقع لم يتغير". بعد ذلك سلط الضوء على الحسابات الخصوصية للخزينة، التي يسميها "ميزانية موازية" لأنها تمثل 167 مليار درهم، أي 22 بالمائة من مجموع النفقات. ويزيد الأمر وضوحا حين يكشف أن مداخيل هذه الحسابات تصل إلى 357 مليار درهم، وهو ما يعادل "45 بالمائة من نفقات الدولة"، قائلا: "هذه ميزانية موازية بكل معنى الكلمة... تُدار بمرونة عالية، ومن دون مراقبة فعلية، وغالبا بعيدا عن البرلمان". ويشرح خطورة ذلك قائلا: "من بين قواعد المالية العمومية أن الأموال التي لا تستعمل تعود إلى الميزانية العامة، لكن في هذه الحسابات تنتقل تلقائيا للسنة الموالية، وتستمر في التراكم". وأضاف: "البرلمان يناقش الميزانية العامة لشهرين، لكنه لا يناقش هذه الحسابات التي تضم مبالغ أكبر من الميزانية نفسها". وقدّم أمثلة على هذه الحسابات، أبرزها: صندوق الجماعات المحلية (67 مليار)، صندوق الرعاية الاجتماعية (36.5 مليار)، صندوق معدات القوات المسلحة الملكية (11.5 مليار)، وصندوق دعم السكن (5.7 مليار)، وصندوق الزلزال (5 مليارات)، وصندوق تنمية الرياضة الذي خُصص منه 5 مليارات لتمويل الملاعب. ويقول مستنكرا: "مواطن بسيط يريد معرفة كلفة هذه الملاعب لا يجد جوابا... لا توجد شفافية، ولا معلومات واضحة". التمويل المبتكر أو "المُبعثر" ثم انتقل إلى جوهر الجزء الثاني من تحليله: التمويل المبتكر أو ما يسميه التمويل المبَعثر، الذي يقوم على تحويل ممتلكات الدولة إلى سيولة. ويشرح العملية بالتفصيل قائلا: "هي عملية ليزباك... الدولة تبيع مبنى أو مستشفى لصندوق عمومي، ثم تكتريه منه، وتؤدي سنويا كراء لهذا المبنى الذي كان ملكا لها". وأضاف: "يسمونها تمويلا مبتكرا، لكنها في الحقيقة تقنية تجارية معروفة في القطاع الخاص منذ سنوات، عندما تحتاج شركة ما إلى سيولة فتبيع أصولها ثم تكتريها". ونبّه إلى أن ما كان يُفوت سابقا في إطار الخوصصة "كان مؤسسات سوقية: بنوك، فنادق، شركات تجارية"، أما اليوم "فالدولة تمس صلب الخدمة العمومية: المستشفيات، الإدارات، المدارس"، وعلّق قائلا: "هنا تكمن الخطورة... نحن ندخل منطقة حمراء تمس الوظائف الأساسية للدولة". وقدّم أرقاما صادمة: منذ 2019 وإلى أكتوبر 2025، جمعت الدولة 126 مليار درهم من هذه العمليات، وإذا أضيفت حصيلة سنة 2025 فقد يصل المجموع إلى 142 مليار، أي ما يعادل "9 بالمائة من الناتج الداخلي الخام". وقارن: "الخوصصة في عشرين سنة جلبت 103 مليارات... أما التمويل المبتكر فجلب 142 مليار في خمس سنوات... هذا وحده كافٍ لفهم حجم ما يحدث". وكشف أن ما لا يقل عن 592 ملكا من أملاك الدولة تم تحويله في هذا الإطار، وأن مؤسستين عموميتين فقط، صندوق الإيداع والتدبير والصندوق المغربي للتقاعد، تحملتا 85 بالمائة من عبء هذه العمليات. وأضاف: "الصناديق التي يفترض أن تؤمن معاشات المغاربة تُستخدَم الآن لشراء ممتلكات الدولة، بينما الدولة تكتريها وتؤدي مقابلها". وحذر أقصبي من أن المغرب "يدفع ثمن كل حل ظرفي مرتين: مرة حين يبيع الأصل، ومرة حين يدفع ثمن كراء ما باعه". وقال: "ما نجهله اليوم أكثر بكثير مما نعرفه... وأرقام العجز الحقيقي لا يمكن تغطيتها بالمساحيق. نحن أمام لحظة تحتاج إلى شفافية وشجاعة، لا إلى حلول ترقيعية".