الحصيلة البشرية الثقيلة للفيضانات تطرح أسئلة ملحّة حول سياسات الوقاية وتدبير الكوارث الطبيعية. قراءة بلا تعاويذ "الصمود" الجوفاء. غمرت مدينة آسفي الساحلية، المدينة نفسها التي أنجبت لاعب كرة القدم حمد الله، والكاتب إدمون عمران المالح، والمخرج نور الدين لخمار، وأشهى سردين في العالم ، غمرًا حرفيًا، بفعل تركيبة باتت مألوفة للأسف.
في غضون دقائق، فاض مجرى الوادي الذي يخترق المدينة. سيل جارف أشبه بالجحيم، حمل معه الوحل والأنقاض والمركبات، واجتاح أزقة المدينة العتيقة الضيقة، وتسلل إلى البيوت، وجرف الممتلكات والأرواح. الحصيلة الرسمية تشير إلى 37 قتيلًا، ولا يُعرف ما إذا كان هناك مفقودون. خلف هذا الإحصاء المرعب، حيوات مدمَّرة، وعائلات ثكلى، ومدينة مذهولة. أين اختفى مديرو المخاطر؟ في اليوم السابق، أصدرت المديرية العامة للأرصاد الجوية نشرة إنذارية برتقالية تُحذّر من تساقطات مطرية رعدية قوية ومخاطر فيضانات. كانت المعلومة إذن عمومية ومتداولة عبر القنوات المعتادة. لكن لا أحد يعرف ما الذي أفضت إليه هذه النشرة: لم تُسجَّل أي عملية إخلاء وقائي، ولا نُشرت مسبقًا تجهيزات للحماية أو للضخ. اكتشف المسفيويون الفيضان لحظة بلغ فيها الماء عتبات بيوتهم. ما حدث في المدينة الأطلسية يندرج ضمن سلسلة من الوقائع التي لم يعد ممكنًا وصفها بالاستثنائية. ففي شتنبر 2024، أودت فيضانات بحياة 18 شخصًا في إقليم طاطا. وبانتظام، تخلّف السيول في المناطق الجبلية وراءها مواكب من الموت والخراب. الساعات والأيام التي تعقب الكوارث تعمل ككاشف للاختلالات البنيوية. في آسفي، تتحدث الشهادات عن فرق إنقاذ مُنهَكة، وتأخر مفرط في التدخل، وصعوبات في التنسيق، وارتجال كامل. لكن ما إن تنقضي حالة الطوارئ حتى يصعب الحفاظ على المستوى نفسه من اليقظة. كم من "مدير للمخاطر" (Chief Risk Officer) وُعِدنا به بعد جائحة كوفيد-19... اختلالات مماثلة سُجّلت بعد زلزال الحوز. فقد أشار المعهد الملكي للدراسات الاستراتيجية (IRES) إلى غياب سيناريوهات تنسيق مُعدّة سلفًا بين مختلف المتدخلين، ما جعل الاستجابة المحلية بطيئة وأحيانًا غير منسجمة. الإشكال ليس في حجم الإمكانيات بقدر ما هو في توجيهها وتوطينها ترابيًا. نفكّر وطنيًا، ونتصرف محليًا المغرب لا يفتقر إلى الأطر الاستراتيجية. بل على العكس: استراتيجية وطنية لتدبير مخاطر الكوارث الطبيعية، المخطط الوطني للماء، استراتيجيات قطاعية، ومشاريع نموذجية مثل "فيجيريسك للفيضانات". الوثائق موجودة، والتشخيصات والنيات مُسطّرة، لكنها تظل بلا ترجمة تنفيذية. المستوى المحلي هو الحلقة الأضعف، مع أنه الأقرب إلى واقع الميدان وإلى التذمّر المشروع للسكان. فبينما تقوم الوقاية من المخاطر أساسًا على الجماعات الترابية، نادرًا ما تتوفر هذه الأخيرة على الكفاءات التقنية، أو المعطيات، أو الموارد المالية الضرورية. مخططات جماعية لتدبير المخاطر؟ لجان محلية؟ غالبًا لا وجود لها إلا على الورق. كثيرًا ما تُتخذ قرارات استعجالية دون الاستناد إلى خرائط دقيقة للمخاطر. بعد زلزال الحوز، نُصبت مثلًا مراكز إيواء مؤقتة في مناطق مهددة بالفيضانات. وفي الوقت الذي يعيش فيه المغرب سنته السابعة على التوالي من الجفاف، ستتكرر نوبات الأمطار الغزيرة. هذا التناقض خادع، لأنه ينسجم مع التوقعات الموثقة بشأن التغير المناخي. في هذا السياق، تقوم منظمة "نشّفات" بعمل توعوي بيداغوجي لافت. فلنكن واضحين: الكوارث الطبيعية لم تعد استثناءً. إنها أصبحت دورة كاملة من السياسات العمومية يمكن تحليلها عبر ثلاث مراحل: الاستباق، وتدبير الطوارئ، ثم التعافي. قبل الكارثة: الاستباق، التوقّع، الوقاية الوقاية تبدأ بالمعرفة. خرائط المخاطر، الهيدرولوجية، والزلازلية، والمناخية، إما متقادمة أو مجزأة. المعطيات مشتتة بين الإدارات، نادرًا ما تُحدّث، ونادرًا ما تُدمج. نوبات الأمطار الشديدة والمركزة في فترات زمنية وجيزة تتطلب قدرات تنبؤ عالية الدقة، تجمع بين الأرصاد الجوية، والنمذجة الهيدرولوجية، والمعطيات الفضائية، والمعرفة الدقيقة بالمجال. الاستباق لا يعني فقط توقع الحدث، بل تحويل الإنذار إلى قرارات عملية: إخلاءات موجهة، تأمين المناطق الخطرة، وضع مصالح الإنقاذ في حالة استنفار، وإعلام واضح للسكان، خاصة عبر رسائل التنبيه الهاتفية. في آسفي، كما في غيرها، تعطلت هذه السلسلة. أثناء الكارثة: الإنقاذ، التنسيق، الحماية مرحلة الطوارئ تختبر قدرة الدولة على التحرك السريع والمنسق. بعد زلزال 2023، أُعلنت إجراءات تتعلق بإحداث مخزونات استراتيجية، وتحسين القدرات اللوجستية، وتوضيح سلاسل القيادة. لكن على أرض الواقع، لا تزال إدارة الأزمات تعاني من غياب مخططات تنسيق مُسبقة بين السلطات المحلية، والوقاية المدنية، والقوات الأمنية، والمصالح الصحية، والفاعلين الجمعويين. هذا النقص يعقّد تحديد الأولويات: أين تُوجَّه فرق الإسعاف أولًا؟ كيف تُنظم عمليات الإخلاء؟ كيف يُؤمَّن بسرعة إيصال الماء والغذاء والأغطية، وكيف يُوفَّر إيواء مؤقت يحفظ الحد الأدنى من الكرامة؟ بعد الكارثة: التعويض، التكيّف، التحول الخروج من الأزمة غالبًا ما يكون أطول المراحل، وأكثرها سياسية. تعويض الضحايا أولًا، في آجال معقولة وبمعايير واضحة، شرط أساسي لبناء الثقة بين الدولة والمواطنين. ثم تأتي إعادة الإعمار بما تطرحه من خيارات تتعلق بالتعمير، ومعايير البناء، وتهيئة المجال. الإبقاء على أنماط سكنية هشّة أمام الظواهر المناخية لا يعني سوى تسهيل وقوع الكارثة المقبلة. وينطبق الأمر نفسه على الفلاحة، وتدبير الماء، وتوسيع العمران على حساب الطبيعة. وعلى المدى الأبعد، يمرّ التكيّف أيضًا عبر التربية على المخاطر، وعبر لا مركزية حقيقية للاختصاصات في مجال الوقاية. وحين تخفّ وطأة الانفعال، يبقى مطلب واحد قائمًا: يجب أن تتوقف إدارة المخاطر عن كونها حبيسة التقارير وعروض "الباوربوينت"، وأن تصبح بوصلة دائمة للعمل العمومي. وإن أمكن، دون إزعاجنا بشرائح مثقلة بالكلمات الفضفاضة، من قبيل "الصمود" الغائم. المصدر: THE MOORISH CHRONICLER