بعيدا عن لغة التفاؤل المطلق، أو ما يصطلح عليه في أدبيات مدرجات جمهور الوداد والرجاء البيضاويين ب "التقواس"، يظل استحضار العقل واجبا لا ترفا، خاصة حينما يتعلق الأمر بحدث تتماس فيه الكرة بالسياسة والملعب بالشارع. إن أمنياتنا القلبية تذهب بلا شك نحو فوز المنتخب المغربي بكأس إفريقيا 2025، ليرصع رفاق أشرف حكيمي خزانة المغرب بلقب طال انتظاره منذ عام 1976، لكن المنطق البارد يفرض علينا طرح التساؤل المسكوت عنه: – ماذا لو عجز منتخب أسود الأطلس عن تحقيق هذا الأمل الذي يبدو أن المغاربة يتعلقون به اليوم أكثر من أي وقت مضى؟ إن هذا التساؤل ليس تشاؤما مجانيا، بل هو محاولة لقراءة تداعيات السقوط في لحظة بلغت فيها التوقعات الشعبية عنان السماء.. فالمشهد الذي شهده ملعب مولاي عبد الله بالرباط عقب التعادل أمام منتخب مالي، لم يكن مجرد غضب عابر، بل كان بروفة لزلزال اجتماعي وشيك… تلك الشتائم التي انهمرت فوق رؤوس اللاعبين، واستهزاء الجماهير بالمدرب الوطني وليد الركراكي "راس لافوكا"، لم تكن سوى قشرة رقيقة تخفي تحتها بركانا من الإحباط الشعبي الذي ضاق ذرعا بالمقايضة بين الرغيف والكرة. إن الحقيقة التي يتهرب منها كثيرون هي أن إنجاز مونديال قطر لم يكن نتاج عبقرية الركراكي الذي تسلم المنتخب قبل شهرين فقط، بل كان ثمرة عمل شاق للمدرب البوسني وحيد خليلوزيتش. ومنذ تلك اللحظة، تضخمت "أنا" الركراكي بشكل نرجسي مفرط، أنظر كيف يواجه الصحفيين بتعالٍ، ويعتمد اختيارات عشوائية قائمة على العاطفة، كإصراره على العميد غانم سايس المجهد بدنيا.. ولا يمكن إغفال "لعنة حكيم زياش"، فاستبعاد نجم بسبب تدوينات آزر فيها أهالي غزة وانتقد التطبيع، جعل المنتخب يبدو في نظر قطاع واسع وكأنه منتخب المؤسسة المنفصل عن نبض الشارع. حينها سيجد "راس لافوكا" نفسه وحيدا بلا محام، وسيسقط القناع الكروي ليظهر الوجه الحزبي.. وستتبخر كاريزما "المعجزات" عن لقجع، ليعود إلى حجمه الطبيعي أحد رؤوس حزب "الجرار".. هناك حيث لا صوت يعلو فوق صوت الإسكوباريين، ولا خبرة تعلو على فحص ألوان "التقاشر"، وحيث تتحول السياسة من تدبير الشأن العام إلى رعاية طوابير الفراقشية… لن تجدي حينها خطابات التبشير بمغرب "ما بعد 31 أكتوبر"، ولن تقنع المساحيق السياسية مواطنا جائعا بأن فخامة الملاعب تنوب عن الحق في السكن أو الحرية. فمنذ ملحمة قطر 2022، والإعلام الرسمي يكسر الدنيا بالحديث عن أسطورة "أكاديمية محمد السادس لكرة القدم"، ويقحم اسمها في كل منجز، حقا كان أو باطلا.. لكن الشعب ينتظر نتائج "أكاديمية" من نوع آخر، أكاديمية تجعلنا نفتخر بها بين الأمم، تسجل أهدافا رائعة في مرمى الصحة والتعليم والشغل والرخاء الاقتصادي… إن الرخاء والعدالة الاجتماعية هما البطولة الحقيقية.. فما جدوى تصدير النجوم للملاعب العالمية أمام العجز عن بناء نظام يحمي الفقراء وعموم الشعب من المحن والأزمات؟ بينما تحاول الدولة تسويق واجهة براقة، لا يزال صدى أنين معتقلي حراك الريف يتردد في الزنازين، ولا تزال قضية معتقلة الرأي سعيدة العلمي ورفاقها من "جيل زد" المعتقلين بسبب تدويناتهم تلطخ ثوب المونديال. لقد رُوّج كثيرا لما يسمى "نهاية سنوات الرصاص"، لكن الواقع يقول إنها استُبدلت ب "القبضة الرقمية" ضد كل من يصرخ: "باراكا من التيرانات.. بغينا الصبيطارات والحرية"… بلا شك أن السلطات الأمنية أعدت الرد القمعي "الواجب" على أي تظاهرات، لكن الفشل الكروي قد يكون الفتيل الذي يوقظ الألم الاجتماعي دفعة واحدة. إن الكأس التي ينتظرها المغاربة حقا، والتي تستحق أن يُطلق عليها وصف "كاس حياتي" كما كان يطلقها الأجداد في العقود الماضية على ذلك الكأس البسيط الذي يشربون فيه الشاي المنعنع بلذة وقناعة ليست هي كأس إفريقيا، ولا حتى كأس العالم بذاتها. إن الكأس المنتظرة هي الفوز بكأس الديمقراطية والكرامة والحرية… هي تلك اللحظة التي يشعر فيها المغربي أن "الهدف" قد سُجل في مرمى الفوارق الطبقية والظلم الاجتماعي. صافرة النهاية في نهائيات الكان قد تكون هي صافرة البداية لإدراك أن العشب الأخضر لا يُنبت خبزا، وأن بريق الذهب في الكؤوس لا يحجب عتمة الزنازين أو بؤس المستشفيات… السيناريو الأسود على مرمى خطوة.. والكارثة الأسوء بالباب… والرهان اليوم هو هل سنربح الكرة ونخسر الإنسان؟ أم أن الأوان قد آن لنشرب من "كاس حياتنا" طعم الحرية الحقيقية؟