خلف كأس العرب موجة عنيفة من التفاعل والحماس بين جماهير المنتخبات المشاركة فيه خلافا لما يفترض أن يحدث بعد واحدة من أبشع المآسي المعاصرة التي استهدفت قلب الأمة العربية والإسلامية النابض بالعزة في غزة، والتي امتدت لتتحول إلى عدوان شامل حتى أصبحت الأراضي العربية مشاعا للإسرائيلي، أو تلك التي يشيب بذكر فظائع مرتزقتها الولدان في السودان الجريح، هذا دون ذكر للواقع المزري الذي يعيشه كل شعب على حدة، حيث كان يجب أن يعم حداد شامل من أقصى الأمة إلى أقصاها، أو في الحد الأدنى أن يسود الهم المشترك والتأدب مع جراحاتنا النازفة كما يحدث عند الشعوب السوية. اللافت هو القدرة الفائقة على التخدير الذاتي، فرغم أن التأثر والحزن الشديد كان السمة الطاغية لدى الغالبية من العرب والمسلمين في بدايات محرقة غزة إلا أنهم سرعان ما تجاوزوا هذه الصفحة كأنهم يشاهدون مقطعا مؤثرا من فيلم أو يقرأون صفحة حزينة من رواية يملكون بسهولة القدرة على طي صفحتها كأن شيئا لم يقع. واللافت أيضا أن كل المخزون العصبي المتراكم بعد أشهر تمت إزاحته وتوجيهه للتطاحن الداخلي غير المكلف. الأخطر من الرغبة اللاشعورية الدفينة عند الشعوب لتصريف فائض الغضب المحتقن داخلها هو تلك الآلة الدعائية الرهيبة التي أظهرت قدرة ليس فقط على منح مجال واسع لتصريف الأحقاد وتداول السباب والشتائم بل على برمجتها في الوقت الذي تريد وبعثها من رماد وأحيانا خلقها من لا شيء. لا شك أن التعصب الكروي كان أرضية ملائمة للاحتراب بين المختلفين إلا أنه ليس دائما انعكاسا للصراعات المجتمعية، فهو يمتاز بمنطقه الخاص الذي يناقض في كثير من الأحيان الخريطة المجتمعية خارج الملاعب، فما يولد العداء الكروي هو الاحتكاك المتكرر بين الفرق، فكلما تيسر التواصل بين الجماهير كلما نشب الخصام والصراع، وهكذا نجد أن الصدام بين أبناء نفس المدينة أو المنطقة وأحيانا نفس الحي أشد من الصدام مع البعيد المختلف ثقافيا ومجتمعيا ( ديربيات لندن، القاهرة، الدار البيضاء…. ) لدرجة يتمنى الجمهور معها خسارة من يشاركه كل شيء أمام من يناقضه. كما أن الولاء للنادي عند بعض المتتبعين يرتبط بتعلقهم بلاعب معين كلما غير فريقهم غيروا انتماءهم، وهكذا نجد قواعد عديدة تتحكم في سلوك جمهور الكرة الحقيقي غير المتأثر بالاستغلال السياسي لها. لذلك كان مستغربا اعتماد تصنيف "أنا وأخي على الغريب" الذي روج له البعض في كأس العرب الأخيرة حول عرب آسيا مقابل عرب إفريقيا والذي تحمس له الجميع دون وعي تاركين كل الاحتراب المحلي وراءهم (شمال إفريقيا، الخليج، الشام والعراق) كأنهم اكتشفوا للتو رابطة مخفية، حتى أن التقسيم المعروف تاريخيا هو أهل المشرق وأهل المغرب، حيث كانت مصر تنتمي للمعسكر الأول بل هي زعيمته، حتى أن إعلامها الرياضي لم يكن يقصد بشمال إفريقيا إلا دول المغرب حصرا دون أن يدخل بلده في هذه المجموعة. فالمعيار الجغرافي المعتمد اليوم مبني على غير أساس بدليل أنه لم يعتمد إلا في النسخة الحالية، أما النسخ السابقة فقد عاصرنا فيها أن جل الاحتكاكات تحدث بين المنتخبات المتقاربة كعادة المباريات الرياضية كما في مباراة المغرب – الجزائر في 2021 ومباراة الأردن – فلسطين في الألعاب العربية دورة 1999. إن الحقيقة الظاهرة أن التلاعب بالشعوب بلغ مستويات قياسية حتى باتت توجه ذات اليمين وذات الشمال دون أن يخطر ببال أفرادها أن يسألوا عن تقلباتهم المستمرة، خصوصا مع ضمور النخب والتيارات المؤدلجة التي أضحت إما شريكة في بروباغندا الأنظمة المكثفة أو فريسة لها. هنا نعود لسطوة منصات التواصل الاجتماعي والهالة الإعلامية الضخمة في قلب الحقائق وتزييف الوعي، فيكفي تجنيد عدد من المؤثرين لإشعال فتيل أي نزاع ويتكفل جحافل المتابعين وكتائب الذباب الإلكتروني بتوسيع دائرة الحريق. غسيل دماغ الجماهير هذا ليس جديدا، فمنذ أكثر من عقد باتت الأنظمة تتحكم بنسب عالية في شعوبها بشكل أشد حتى من عصر أحادية القناة أو الإذاعة أو الجريدة بدليل صعود الشعبوية العدوانية في كل الدول العربية تقريبا، والتي تقتات على تغذية النعرات الخارجية، فيحصل الحاكم على صك براءة من كل الفظائع التي ارتكبها بحق شعبه بعد أن استنفر الشعب الجاثم على رقبته ودفعه إلى صب جام غضبه على من لا دخل له في مآسيه. قد يقول قائل أننا بصدد لعبة والتفاعل فيها وإن كان عنيفا، فهو عابر فكلام الليل يمحوه النهار، لكن الحقيقة أن المخلفات النفسية التي تتراكم والشروخ التي تنشأ نتيجة الحملات المكثفات تبلور وعيا مشوها، ولنتذكر الكم الهائل من الشتائم التي نالت من القضية الفلسطينية التي لو أنفق نتنياهو الملايين من أجل تحصيل هذه النتيجة والعودة إلى ما قبل السابع من أكتوبر لترميم صورة كيانه ما أفلح، لكن منافسة كروية لا محل لها من الإعراب حققتها. كرة القدم والمنافسات الرياضية عموما سيف ذو حدين، قد تثمر تعاونا وتواصلا إذا سبقها تكامل سياسي واقتصادي وثقافي ثم تأتي الرياضة لتضفي عليها طابعها التنافسي المرح، أما أن تكون السمة الأساسية هي الفرقة والتشرذم في هذه المجالات فستستغل الكرة في تأليب هذه المشاعر العدوانية، وهو ما حصل مع الكأس الأخيرة التي ابتُدِعت فيها صراعات من العدم حتى خرجنا من الكأس مخدرين منتشين بانتصارات كلامية جوفاء وسيل من الاتهامات والشتائم من كل نوع.