جمعية "التحدي" تدعو إلى إقرار المناصفة الكاملة في انتخابات مجلس النواب المقبلة    الصحافي الراحل أنس الشريف الذي قتله الجيش الإسرائيلي ترك وصية مؤثرة عن حياته وعائلته وغزة    السكتيوي يرحب بالانتقادات بعد خسارة المغرب أمام كينيا ويكشف أسباب تراجع الأداء    وزراء خارجية 24 دولة يطالبون بتحرك عاجل لمواجهة "المجاعة" في غزة        توقيف مشتبه به في حريق غابة "كرانخا" بشفشاون    رحيل الأديب المصري صنع الله إبراهيم عن 88 عاما    الذكرى ال46 لاسترجاع إقليم وادي الذهب: ملحمة بطولية في مسيرة استكمال الاستقلال وتحقيق الوحدة الترابية    إطلاق الصاروخ الأوروبي أريان 6 إلى الفضاء    هل ‬دخلنا ‬المرحلة ‬ما ‬قبل ‬الأخيرة ‬لتطبيق ‬مقترح ‬الحكم ‬الذاتي ‬؟ ‬    في ‬اللقاء ‬الذي ‬جمع ‬الوزير ‬برادة ‬وقيادات ‬النقابات ‬التعليمية :‬    مدريد ‬تتصدى ‬لقرار ‬يميني ‬يمنع ‬الشعائر ‬الدينية ‬ويستهدف ‬الجالية ‬المغربية ‬في ‬مورسيا    راشفورد ينتقد يونايتد: "يفتقر إلى الخطط"    أسعار الجملة للخضر والفواكه بالدار البيضاء تسجل تفاوتاً كبيراً بين المنتجات    مؤسسة محمد السادس للعلوم والصحة تجري بنجاح أول عملية زراعة كلية مع عدم توافق فصائل الدم ABO على المستوى القاري    في ‬مذكرة ‬وزير ‬الداخلية ‬إلى ‬الولاة ‬والعمال ‬حول ‬الجبايات ‬المحلية ‬ورؤساء ‬الجماعات ‬الترابية:‬    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية اليوم الأربعاء    فرنسا.. توقيف مراقب جوي بعد قوله "فلسطين حرة" لطاقم طائرة إسرائيلية    تراجع الدولار مع ترقب خفض أسعار الفائدة الأمريكية في شتنبر    فهم باش تخدم.. مهندسة شابة طموحة تروي رحلتها بين مقاعد الدراسة وآفاق الاقتصاد الفلاحي (فيديو)    بورصة الدار البيضاء تستهل تداولاتها بأداء شبه مستقر    توقعات أحوال الطقس لليوم الأربعاء    القوات المسلحة تحقق في تعنيف أحد المهاجرين    دول أوروبية تتوعد النظام الإيراني بإعادة تفعيل آلية العقوبات    بوتين يشيد بالقوات الكورية الشمالية    اعتقال شخص بعد إطلاق نار داخل مطار سيدني    فوضى "الجيليات الصفراء" ببني ملال        تسكت تتألق في أمسية "رابافريكا"    الجبهة المغربية لدعم فلسطين: سيون أسيدون وُجد فاقدا للوعي داخل منزله وعليه آثار إصابات على رأسه وكتفه "غير طبيعية"    دورة سينسيناتي لكرة المضرب: ألكاراس يتأهل لثمن النهاية    تقرير: المغرب في المركز السادس إقليميا بعدد مشاريع الاستثمار الأجنبي المباشر في 2024    منير القادري يتخلى عن مشيخة الزاوية البودشيشية لفائدة أخيه معاذ القادري    غزة: صندوق الثروة السيادية النرويجي يسحب استثماراته من 11 شركة إسرائيلية        أنفوغرافيك | 25.84 مليون درهم.. لتمويل 40 مهرجان وتظاهرة سينمائية    حملة أمنية بوزان تطيح بمروجي مخدرات وتوقف مطلوبين للعدالة    توجيه الدعوة ل 26 لاعبا من المنتخب المغربي لكرة القدم لأقل من 20 سنة للمشاركة في وديتي مصر    المقاصة.. انخفاض النفقات الصادرة بنسبة 19,2 في المائة عند متم يوليوز الماضي    المحلي يواصل التحضيرات للقاء زامبيا    "الكاف" يوجّه إنذارا لكينيا بسبب خروقات أمنية في بطولة "الشان"    بورصة الدار البيضاء تنهي تداولاتها بارتفاع طفيف    اطلاق فعاليات الأبواب المفتوحة لفائدة الجالية المغربية بالخارج    الدوزي يلهب الحماس في "راب أفريكا"    الرباط تحتضن أولى نسخ "سهرة الجالية" احتفاءً بأبناء المهجر (صور)    مهرجان "راب أفريكا" يجمع بين المتعة والابتكار على ضفة أبي رقراق    حين يلتقي الحنين بالفن.. "سهرة الجالية" تجمع الوطن بأبنائه    دراسة: الأطعمة عالية المعالجة صديقة للسمنة    عوامل تزيد التعب لدى المتعافين من السرطان    دراسة: استعمال الشاشات لوقت طويل قد يزيد خطر الإصابة بأمراض القلب لدى الأطفال والمراهقين    دراسة: الفستق مفيد لصحة الأمعاء ومستويات السكر في الدم    دراسة تحذر.. البريغابالين قد يضاعف خطر فشل القلب لدى كبار السن    "بعيونهم.. نفهم الظلم"    بطاقة «نسك» لمطاردة الحجاج غير الشرعيين وتنظيم الزيارات .. طريق الله الإلكترونية    هنا جبل أحد.. لولا هؤلاء المدفونون هنا في مقبرة مغبرة، لما كان هذا الدين    الملك محمد السادس... حين تُختَتم الخُطب بآياتٍ تصفع الخونة وتُحيي الضمائر    المغاربة والمدينة المنورة في التاريخ وفي الحاضر… ولهم حيهم فيها كما في القدس ..    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محمد بلاوي: بورتري قناة الجزيرة القطرية
نشر في الوجدية يوم 04 - 11 - 2010

لا يعتمد الإعلام المعاصر أية مرافعات موضوعية لتنفيذ مهماته الإعلامية. لقد حل الضغط السيكولوجي السريع على الوعي والعقل والذاكرة، مكان الضغط على ثقافة المتلقي. أصبحت وسيلة السيطرة المثلى عليه هي الطرق على الباب السيكولوجي للحاجة والعادة والغريزة لديه، بشكل مباشر.
وأصبح إخراج المشهد الإعلامي في الصوت والصورة وهوامش العرض الإيحائية الصامتة، هو الذي يتكفل بإنتاج المضمون أو المشاركة المباشرة والعملية في إنتاجه. أي أن الإعلام تحول إلى وجبة دعائية سريعة كالدعاية التسويقية يخاطب السلوك الارتدادي، وليس المنطق العقلي والمعرفي....
وتحمل فضائية الجزيرة الناطقة بالعربية، فضل أو لعنة الريادة في هذا الفن الإعلامي المتمكن في المنطقة العربية. فالطاقم المرئي فيها متناغم مع فسيفساء النوايا الإعلامية للمشاهد المعروضة. ولكن هذا الإختيار المتقن للقطع البشرية المكوِنة، من حيث الخامات، والموضعة، والجهد التهذيبي الفائق الذي بذل فيها، يلفت النظر أيضا، إلى أن في الأمر ما يتجاوز البراءة. فأنت أمام آلة فريدة في أناقتها التصنيعية ونجاعتها وكلفتها، تلغي أي افتراض للعفوية. وفيما عدا قطعة واحدة، لا بد من ذكرها للموضوعية، تبدو مهلهلة ومريضة الصنعة، ورديئة الخامة، فإن العقل ليحتار في ذلك الجهد التأسيسي الذي استطاع أن يجمع تلك النجوم المرهقة الجمال، أو المرهقة الندرة في مكان واحد....
بالطبع لم أكتب هذه الكلمات للتغني بالذوق الرفيع للمؤسسين. فالخبراء الأجانب، لا يحفلون بقضايا الذوق والقيمة إلا كآليات توظيفية في الوصول لأهدافهم، ولا يستحقون منا كضحايا لهم، سوى الحذر. لذلك فإن مقالب قناة الجزيرة الإعلامية، هي التي يجب الإنتباه إليها أولا. وعلى سبيل التذكير، تعلمون عن ذلك المقلب العريق، الذي شربه الكثيرون ذات يوم، عندما أعلن مجلس الأمن القومي الأمريكي، التعبئة العامة على كل المستويات، للقيام بقصف مقر قناة الجزيرة من الفضاء الخارجي...
وأنا شخصيا أحب هذه المقالب، وبرنامج حصاد اليوم، وما وراء الخبر، لأني أحاول من خلالها قراءة، نوايا أمريكا السياسية في موقع ما، للمرحلة الجارية. وأنصح المعنيين بمتابعة هذه البرامج بعقولهم وليس بعيونهم، ليستغنوا عن التخمينات بشأن الوجبة الإعلامية المقدمة. ستموت في يوم من الأيام السبعة، ولا يهم أي يوم، ولكن لماذا تموت مخدوعا؟ مت وأنت تعرف قاتلك إذا قتلت. وعلى الأخص حاول ألا تموت بوجبة إعلامية مسمومة. إنها ميتة غبية، تقيد ضد مجهول، وتكون أنت المجهول الوحيد في القضية! أنا حنظلة، كما تعلمون، قتلوا الذي خلقني ( يعني ناجي العلي )، ولكنني ما زلت حيا! لماذا؟ لأني في حياتي ما أكلت وجبة لم أقم أنا بإعدادها. كنت أتضور جوعا أحيانا، وأحيانا آكل هوا، ولكن هوا نظيف، وليس هوا شوارع ومقاهي وسراديب فضائية. هذا هو الذي يسمونه الوعي! أفكر بنفسي ولا آكل من أفكار غيري وخاصة الأفكار التي توزع مجانا على الناس، من قبل الذين قتلوا ناجي العلي....
ومع أن الجزيرة تشبه بحيرة يسبح فيها كل البجع الأمريكي في المنطقة، إلا أن المهم في كل المشهد الجميل، هو الرقصة التي يؤديها البجع. فمن الواجب الإنتباه بشكل خاص، للأداء الفني الذي يؤديه، وللجهة التي يميل إليها برقابه الطويلة الرائعة. فهذه الحركات الموجهة، هي المؤشر على التعليمات الصادرة من وراء الكواليس. لا تهتموا بالبرامج المزمنة، فهي برامج ذات نفس إيديولوجي واستراتيجي معروف، ترمي إلى خلق التراكمات، واحتضان الإشكالات المقيمة، والمحافظة على آفات النفس العربية العريقة، ورفدها بآفات إضافية. وهذه كلها يمكن اختصار دوافعها في شعار سياسي غربي مزمن وأبدي " ألموت لعروبة الشرق الأوسط!". فهي برامج إستراتيجية، ولا تخدم معرفة اليومية السياسية الميدانية، بل تخدم إشاعة الدمار البنيوي. فبرنامج " حفار القبور " و " مسامير فكاهية " و " الشريعة والموت "، هي برامج دخانية لنشر البلبلة والتعمية على الواقع الذميم، وحفظ التخلف السياسي والثقافي والوعيوي عموما...
وقد اعتادت فضائية الجزيرة تنويع مقالبها، بين مقالب بيئية تخص الصيانة، هدفها تجديد المصداقية والشرف الإعلامي للفضائية. وهي عادة مقالب ذات طبيعة إما تهويلية مثل نفخ البالونات، وإما تلفيقية من أساسها. وتنصب غالبا على تذمر أمريكا، أو بعض الدول الأخرى من ثورية الإلتزام الإعلامي وصراحته لدى الجزيرة، مما يجعل أمريكا وتلك الدول، تقوم باعتقال مراسلي الجزيرة على خلفيات سياسية تخص أمن الرأي العام، أو تتجاوز ذلك إلى التفكير بإجراءات عسكرية قتالية ضدها، كما كادت أمريكا تفعل لولا رأفة القدر...
أما النوع الثاني من المقالب فهو المقالب التعبوية. وهي التي تخص تدمير بنية "العدو" النفسية، وفتح القماقم المعمورة بجن التعددية المذهبية والطائفية والعرقية، أو إغلاقها حسب الأمر اليومي للحملة الإعلامية. وكوني لا أكشف مستورا بهذا الشأن، فإن ذلك لا يقلل من أهمية الإنتباه الدائم، والحذر من شياطين القماقم الذين يسرقون الإنتباه والحذر بألاعيبهم العريقة والمستحدثة. فقد كان سليمان عليه السلام قد دربهم كما تدرب حيوانات السيرك على طاعة أوامره، قبل أن يحبسهم في القماقم. ومهما بلغت فضائية الجزيرة من إحكام الصنعة، والقدرة على الحقن الناعم، فإن العطر الإعلامي مثل العطر النسائي مهمته أن يفوح. كما أن تراكمات التجربة وطول العهد بها، لا يمكن إلا أن توحي بالسياق. فالمهارات المكررة، تفضحها الألفة مع الوقت. فلو أخذنا القضية العراقية على سبيل المثال، لوجدنا أن أرشيف الذاكرة بما يخص هذه القضية وحدها، يكفي لوعي الجائحة الإعلامية التي تنفذها الجزيرة في الخلاء العربي الواسع، بحذافيرها.
تأسست قناة الجزيرة بين يدي اتخاذ قرار غزو العراق الأخير، وطرح قضية الشرق الأوسط الجديد بكل ثقلها التنفيذي. وقد تساوق اختيار الموقع، مع كون قطر ملكية أمريكية صهيونية، سياسية وعسكرية واقتصادية كاملة. أي أنها دولة إعلامية فقط مثل قناة الجزيرة سواء بسواء، ولها وزير خارجية وداخلية واحد. ومنذ ذلك الحين التأسيسي وقناة الجزيرة، ملتزمة تعبويا بالتمهيد لما سيجري في العراق، وبقضية الشرق الأوسط الجديد، ومفاوضات التسوية، والتطبيع السياسي والإقتصادي والثقافي. وعندما وقع الغزو الأخير للعراق، كان مراسلو الجزيرة وكأنهم يركبون الصواريخ الموجهة، أو ينتظرونها في أماكن الحجز. وكانت النغمة الإعلامية التي اتبعتها الجزيرة، هي ذات نغمة إعلام الغزاة الدبلوماسي المباشر، وليس الإعلامي الفضائي. فلم تكن لها كما يبدو استقلالية السي إن إن أو المحطات البريطانية أو الإسرائيلية. وكانت عبارة عن سيمفونية إعلامية تتكون من مقدمة " الرئيس المخلوع " ( بقيادة الطبل البلدي، مع جمل أوركستراوية متناثرة على السياق )، وجرائمه بحق الشعب العراقي، (على خلفية أوركسترا ناعمة وحزينة ، بمشاركة متوترة للكمان في المقدمة، تتخللها تدخلات درامية متأزمة للسكس( اختصار ساكسوفون ) )، واحتلاله للكويت وحربه ضد إيران وحزب الدعوة والأكراد وأسلحة الدمار الشامل، ( ردح جماعي للجوقة، ثم تدخل غير مفهوم للكمان يشبه عواء الكلاب )، علاوة على مفاسده الشخصية ( ثلاث حركات شرسة وغليظة، القيتارة، والسكسوفون والطبل البلدي على التعاقب ثم انكسار عنيف ). وكان إسقاط تمثاله يعرض كفاصلة بين الجمل المنطوقة مع كل توابعه وهوامشه المثيرة. ولم تتغير تلك السيمفونية الإعلامية حتى اليوم إلا على مستوى الوتيرة وتقلبات درجة الحرارة السياسية...
يقولون القدم تعرف حذاءها. وهي قضية فلسفية مركبة، انتبه إليها أجدادنا بحس التجربة، واستغرقت الغرب مراحل معرفية وفلسفية طويلة لينتبه إليها، من خلال نظريات الحداثة الفلسفية، في كون التضاد يساوي التطابق، والتشابه يساوي الإختلاف، وأن البنية تحس جوهرها التطابقي عند رؤية مضادها الذي هو مطابقها. وحينما يكون الوعاء الكرتوني مضادا للمنتج بتفاصيله المتعددة، فمعنى ذلك أنه صنع خصيصا له، أي صنع مضادا ليكون مطابقا. وقناة الجزيرة هي تركيب بنيوي حداثي من حيث المضمون المعماري، مختلفة ذاتيا من حيث الهدف عن وعائيته ولكنه في النهاية متطابق بنيويا حول الأداء. صحيح أنها تكون مباشرة في أدائها أحيانا على الطريقة التقليدية للإعلام، ولكن ذلك يكون تعديلا مؤقتا لملائمة ميدانية الحدث وبنية المتلقي، ولكنها على الأغلب تتبع طريقة (السم والسمن ) التطابقية. والتطابق بين المنحى الإعلامي للجزيرة والأهداف المرحلية لأمريكا، بغض النظر عن المنهج المتبع لتحقيق الهدف،، هو تطابق مثالي مكشوف للعين والأذن والعقل. تتصاعد الحملة الدولية الأمريكية ضد إيران، فيتصاعد معها الموضوع الإيراني في إعلام الجزيرة على مستوى الدس والتحريض والحقن والإستعلام بنفس الوتيرة من الانغماس. ويصبح ثلاثة أرباع الوقت الإعلامي في الجزيرة مخصصا للشأن ( الإيراني ) لتفجير العبوات الإعلامية الناعمة أو الخشنة في وجه النظام الإيراني. وتتحرى قناة الجزيرة " الموضوعة الإعلامية " لثورة الهرمونات المخابراتية في أوساط الطلبة الإيرانيين بوصفها العفوي، وكأنها زلزال إيديولوجي متوقع يلخص الأزمة السائدة بين الشعب الإيراني وقيادته. تلغي من عقل المتلقي أولا، أي احتمال بكون القضية (ثورة هرمونات أمريكية مضادة عن طريق التحكم عن بعد)، ثم تبدأ في التوسع في تحري الدوافع السياسية والإقتصادية والاجتماعية وراءها. وينتج عن ذلك أن النظام الإيراني هو نظام آيل إلى السقوط بسبب المحافظين الخمينيين الذين ينفقون خبز الشعب على شراء اليورانيوم والأبحاث الذرية. كذلك يحصل الآن بالنسبة للسودان. لم يبق طوطم أو طابوا طائفي لم تقلبه الجزيرة في جنوب السودان. تحاور وتشاور وتداور وتناور، ويتحول الإعلام الإخباري إلى إعلام بحثي مصحوب بالأرشيف والتحريات، فتنتعش الذاكرة الطائفية، وتنفتح القماقم، وتسرب التوجيهات من خلال رقصات البجع إلى آلياتها الميدانية المعتمدة، فتنضج النوايا، وتتفجر الغرائز، وتدمر مشاريع التنمية، وتتمزق القوى الوطنية، وتبيع أمريكا وإسرائيل الأسلحة للأطراف المتنازعة مقابل إتباع إرشاداته السياسية، وفتح المجال أمام رجال ونساء المخابرات، بوظائفهم السياسية والإقتصادية والحقوقية المختلفة. وهكذا أيضا في فلسطين، تناصر حماس ضد عباس عندما تريد إسرائيل وقف المفاوضات، وتفعل العكس حينما تريد إسرائيل العكس. وفي العراق تدعم العملية السياسية وعلاوي والمالكي وطارق الهاشمي والحكيم والسيستاني، ثم تأخذ بالتقلب مع السياسات الميدانية لهؤلاء بمقياس التزامهم بالسياسة الأمريكية , فتؤيد المالكي على طول الخط - كأمريكا، ثم تنقلب عليه على طول الخط – كأمريكا، ثم تنضم إلى حملة ويكيليكس الأمريكية ضد المالكي وإيران في العراق، وتصبح فجأة صديقة لروسيا العدوة الجديدة لإيران، والعضو الأوروبي الجديد في النادي الدولي الصهيوني. وهكذا.... لا تدري أين سيضيء فانوسها السحري في المرة القادمة لأن السياسة الأمريكية لا تدري أين تضع قدمها في هذه المرحلة. وأعتقد أن دائرة الضوء السحرية للجزيرة، إذا تشكلت حكومة في العراق موالية لأمريكا، ستتركز على دولة الأكراد في شمال العراق، الذين يقول بعض شعرائهم أنهم سبط يهودي كان ضائعا في كهوف شمال العراق. ولو أخذنا المرحلة الحالية للمناخ العالمي، فإن قناة الجزيرة قد تبدو مثل أم العريس، أشد انهماكا بالشأن العراقي من انهماك ميكي الأفرو سكسوني بالشأن السوداني.
لم يعد خافيا على أحد أن هناك خلافا بين ليبرمان ونتنياهو وبين وزارة خارجية قناة الجزيرة. والأمر هو انعكاس مباشر للخلاف بين هذين، وبين الخط الصهيوني الأوبامي والخط الصهيوني المحافظ في أمريكا. ومن المعلوم أن الخط الصهيوني الأوبامي يكاد يخسر، أو هو قد خسر المعركة داخل أمريكا. ولكن الأوبامية لم تعد شأنا أمريكيا داخليا. لقد أصبحت خطا دوليا بامتياز، يتعلق به كل حلفاء وأتباع أمريكا من دوليي العالم، لمواجهة الخط المترفع والصارم للبوشية تجاههم. أوروبا المنبوذة شرق أوسطيا من جانب إسرائيل والبوشية، تؤيد الأوبامية بارتياح سياسي كبير، لأنها تضمن لها مواجهة السياسة الأمريكية التي تؤكد على علاقة التبعية الأوروبية للسياسة الأمريكية، وتؤيد النبذ الإسرائيلي لها من التدخل المباشر في قضية الحل الشرق أوسطي، وتضمن لها مع ذلك استمرار ولائها للصهيونية العالمية والشعب اليهودي. وقد تبلور هذا في السياسة الدولية على شكل حملة أوروبية تشمل روسيا، وتجمع عجائز النظام العربي ما عدا الأردن، ويقودها العثماني أردوغان في المنطقة، لإشاعة النهج الأوبامي الدمث في العلاقات الدولية من ناحية، وتحقيق الإجماع البوشي الأوبامي حول وجوب سحق إيران من ناحية أخرى. ولذل توجب على قناة الجزيرة أن تنضم إلى موقع ويكيليكس، وتسريباته الأمريكية، والدعم الدولي الصهيوني الأوبامي له، لأنه لم يعد هناك ما يمنع المالكي من تشكيل الحكومة العراقية الذي سيصبح عمقا استراتيجيا لأيران، سوي إعادة الفوضى الطائفية والحرب الأهلية وتقسيم الساحة العراقية.
باختصار، يجب الحذر الشديد في هذه المرحلة الحاسمة من التاريخ العالمي ومنطقتنا بوجه خاص، من قناة الجزيرة، و مقالبها الإعلامية الإجرامية. لم يسهم أي موقع إعلامي في العالم، في دمار بيئته الإعلامية وعيويا واجتماعيا وسياسيا كما فعلت قناة الجزيرة في المنطقة العربية. إن الإعلام في عالم اليوم الأمريكي الصهيوني، له بعد استراتيجي أكثر من الحرب والسياسة. فالحرب والسياسة ليس لهما غاية غير دمار العدو ماديا ومعنويا. ولكن الغاية الأساسية في الصراع بين أمريكا والصهيونية وبقية العالم، هي إحداث الإنقلاب في العينة البشرية وتوجيهها نحو الدمار الذاتي، لتتحول إلى عبوة إعلامية مسيرة تخدم أهداف العولمة بسلوكياتها طوعا. وهذا ما يفعله الإعلام اليوم، في عصر إبادة الهوية. لقد أصبحت الحرب والسياسة تخدمان الإعلام، لأنه أصبح نص القوة الأكثر تأثيرا ونجاعة في تحريك عقل وسلوك البشر، الذين تحولوا إلى أعضاء مباشرين في دورة اقتصاد عالمية تملكها أمريكا والصهيونية. في عالمنا الحديث الأعلام هو الآلية الأكثر مساهمة في تهميج العصر. هو الأكثر مساهمة في الدمار والخراب والتخلف والدم البشري، بما يثيره من حروب أهلية وفتن دينية وطائفية وعرقية بالتحكم عن بعد في العالم. إنه مسهم مباشر في قتل ملايين الأطفال وجرائم العنف المختلفة في العالم الثالث والرابع. والفضائيات والإنترنت والخلوي، علاوة على الوسائل التقليدية المحدّثة والفاخرة كما وكيفا، أصبحت هي الشيطان المعاصر الذي سيخرج النوع البشري من مقهى الأحلام السعيدة، ويأخذه إلى ملهى الوقائع السعيدة كما تدعي العولمة. مسخ تكنولوجي يحمل جمال المسوخية الشيطانية، يعلق جماجم الأطفال الرضع الرائعة الجمال حول عنقه، ويرتدي ربطة عنق، ويقبل أطفاله قبل النوم، ويحب فيروز وأم كلثوم وموزار وبتهوفن، ويبتسم، ويلقي التحية بدماثة، ويقص أظافره بعناية، ويحلق ذقنه ست مرات، ويساهم في قتل أطفال ونساء ورجال العالم والمنطقة وإماتتهم جوعا، ليس لأنه قاتل، ولكن لأنه يريد أن يربي أطفاله تربية جيدة، ويشتري لهم الألعاب، ويرسلهم إلى المدرسة بالسيارة، فهل هذا حرام؟ كلا! إنه ليس حراما! إنه جريمة وشلل إنساني وأخلاقي. إنه يمثل نموذج الكائنات الدودية من البشر التي تخرب معنى الحياة الإنسانية وشرفها لتعيش. هكذا وُجد اللصوص والمجرمون والساقطات والعملاء والخونة في المجتمع. أرادوا فقط أن يعيشوا ويربوا أطفالهم بمستوى أعلى من مستوى بقية الناس من العمال والمزارعين ومعلمي المدارس وأساتذة الجامعات وأصحاب الدكاكين، فأصبحوا عدوا لهم جميعا، فعملوا كفيروسات قاتلة، ليحصلوا على ما يريدون. أليس هذا من حقهم؟ من قال ذلك؟؟؟........
ذ.محمد بلاوي
صحفي بالإذاعة والتلفزة المغربية


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.