عُرِف إقليم حوز مراكش بتاريخه العريق، فقد عَرَفَت مراكزه العلمية نشاطا علميا وثقافيا منذ قرون طويلة، وقد كان من بين هذه المناطق العلمية منطقة "مسفيوة"، كما كانت أيضا مركزا قرائيا بامتياز، حتى اشتهر عند طلبة القرآن في العصور الأخيرة هذا الرمز الذي يرمزون به للقبائل والمناطق التي اشتهرت بازدهار قراءة القرآن فيها بصفة متميزة، فيرمزون لها برمز (مسجد)، فالميم "مسفيوة"، والسين "سوس"، والجيم "جبالة"، والدال "دكالة"، وقد أرخت جملة من الوثائق والتحبيسات بالإضافة إلى عدد من المخطوطات لهذا النشاط القديم في مختلف الجوانب العلمية والثقافية، وقد كان من بين هؤلاء الأعلام المحتفى به في هذه الورقات عالم موسوعي جليل، جمع بين العلم والتربية، وهو ما سنتعرف عليه من خلال سيرته، فنسأل الله أن يرحمه ويعلي مقامه وقدره. -اسمه ونسبه: أحمد بن الحسن الزيادي المسفيوي، وأصل والده من دوار أغبالو تديلي مسفيوة. -نشأته وطلبه للعلم: أتقن العلامة أحمد الزيادي حفظ القرآن رسما وأداء وتعلم مبادئ العلوم بالبادية، ثم تابع دراسته بكلية ابن يوسف في عهد رئيسها العلامة بنعثمان، حتى تضلع في النحو والصرف والبلاغة والعروض والمنطق والأصول، وفي التوحيد على المنهج الأشعري، وفي الفقه المالكي: عبادات ومعاملات، وفي الميراث والحساب والتوقيت، وفي التفسير والحديث. درس متون وشروح الأجرومية والألفية واللامية والجمل والزواوي والجوهر المكنون والبيقونية وابن عاشر ورسالة ابن أبي زيد القيرواني والعاصمية ومختصر الشيخ خليل وتفسير القرآن، وصحيح البخاري وموطأ الإمام مالك وما سوى ذلك من أمهات الكتب والمراجع. -مشيخته العلمية: أخذ عن كبار علماء ابن يوسف آنذاك أمثال: * العلامة سيدي احماد أڭرام. * والعلامة سيدي محمد بلحسن . -أسرته العلمية: نشأ العلامة أحمد الزيادي في أسرة أحبت العلم، وخرجت علماء فقهاء، فقد كان والده العلامة الفقيه الحسن الزيادي أحد العلماء خلال القرن الماضي، وكان ضمن من تتلمذ على العلامة الحاج علي المسفيوي بقرية "سڭر"، قبل أن ينتقل هذا العالم إلى قرية أخليج بأوريكة . -أحمد الزيادي: العالم المربي بمدرستي أغمات وتغنبوشت: العلامة أحمد الزيادي رحمه الله كان شيخ مدرسة أغمات وتغنبوشت بإقليم حوز مراكش. وقد درس عليه علماء وفقهاء، نذكر من بينهم: 1-العلامة الفقيه سيدي محمد بن الحسن فاضل: عضو المجلس العلمي المحلي بالحوز سابقا، ورئيس المجلس العلمي الجهوي بجهة مراكشآسفي حاليا، وهو شيخه في الطريقة، وأخذ عنه العلم مشافهة وأجازه إجازة مطلقة في الطريقة وفي العلوم. 2-العلامة الفقيه الحاج الحسن فاضل: شيخ مدرسة مولاي ابراهيم العتيقة: وهو والد العلامة الحاج سيدي محمد فاضل، وقد قرأ بمدرسة تغنبوشت خمس سنوات على العلامة الحاج الزيادي. 3-الأستاذ الفقيه راغب الحسين المسفيوي: بعد أن أتقن حفظ القرآن ذهب إلى أغمات عند الفقيه أحمد الزيادي ودرس عنده مدة. 4-الفقيه الأستاذ أحمد هزميري الأغماتي: قرأ القرآن الكريم مع مجموعة من المتون العلمية على الفقيه السيد أحمد الزيادي. 5-العلامة عبد السلام جبران المسفيوي. -لمحة مختصرة عن مدرستي أغمات وتغنبوشت: تتواجد مدرسة أغمات بجماعة أغمات بجوار مسجد الوطاسيين قرب السوق المركزي الذي يقام كل يوم جمعة، وهي من المدارس التي اندثرت. وقد عرف نشاطها في الستينات على يد العلامة الزيادي، فقد قرأ عليه فيها الفقيه الأستاذ لحسن طالبون قبل سنة 1367ه مدة سنتين، وقرأ فيها أيضا الأستاذ الفقيه راغب الحسين قبل سنة 1364ه، وقرأ بها أيضا الفقيه الأستاذ أحمد هزميري الأغماتي؛ كما سبق التنبيه عليه. أما مدرسة تغنبوشت فتقع بدوار أيت عبد السلام بقبيلة مسفيوة. مكانة الزيادي (الابن) العلمية والسلوكية: برز العلامة الزيادي في العلوم الشرعية، وكان مقدما في الطريقة التجانية، وهو الذي مكث بمدرسة أغمات يدرس أكثر من 15 سنة، ثم بمدرسة تغنبوشت التي مكث بها إلى حين وفاته رحمه الله. فإلى جانب تكوينه العلمي في علوم الشريعة، فقد كان رحمه الله عارفا بالتحصيل العلمي والبحث بين ثنايا الكتب لا يترك شاذة ولا فاذة إلا تعرف عليها من خلال ما تصل إليه يده من المراجع. ومن أغرب ما يعرف من تعلق الفقيد بالعلم والشؤون الإسلامية أنه لا يمر بين يديه كتاب إلا قرأه كله وسجل ما يهمه منه في كناش خاص، ومع اشتغاله الدائم بهذا العمل الجليل الذي لازمه رحمه الله طيلة حياته كان يعيش على "أظفاره" ومن كد يده "فلاحا صغيرا"، ومن هذه الحرفة وحدها كان يعول أسرته وعياله إلى جانب المكافأة الوحيدة التي كان يتلقاها من الأوقاف باعتباره واعظا تابعا للمجلس العلمي. وباختصار شديد كان العلامة الحاج أحمد الزيادي رجل العلم والفكر، ورجل العبادة والذكر، ورجل البحث والاطلاع والتقييد والضبط من أجل التبليغ والتربية والانتفاع. حكاية: يقول الأستاذ البشير المحمودي رحمه الله: "من عجائب ما شاهدت في ذاكرته وعبادته أنني زرته أخيرا قصد تعزيته في زوجته، ولم أكن قد زرته في منزله قط لبعد سكناه عن مواقع النقل، وكان رحمه الله يتحدث معي فكنت أستمع إليه طيلة ثلاث ساعات، فلما افترقنا للنوم تنحى جانب الغرفة وبقي جالسا يذكر الله أو يتلو القرآن حتى قمنا لصلاة الصبح، أما أنا فاشتغلت قبل النوم بتسجيل ما سمعته من إملائه رحمه الله، فكان 24 صفحة من حجم الكناش الصغير". آثاره العلمية: للعلامة الزيادي رحمه الله طرر كثيرة على كتبه؛ ككتاب الشفا للقاضي عياض وغيره، كما له تقاييد مختلفة. ومن تقييداته: -توثيقه لتفاصيل وفاة العلامة الحاج علي بن أبي جمعة المسفيوي الوريكي، حيث يقول في كناشته: "الحمد لله حق حمده: توفي العلامة الدراكة الفهامة الولي الكبير شيخ والدنا، السيد الحاج علي المسفيوي المدفون بزاويته بمدشر أخليج وريكة يوم الإثنين بعد العصر في الساعة الرابعة، وأدخل القبر في الساعة التاسعة عام 1331 ه، تغمده الله برحمته، وأسكنه فسيح جنته مع النبيئين والصديقين والشهداء والصالحين، وجزاه عن الأمة المحمدية خير جزاء، آمين". – توثيقه لتفاصيل وفاة العلامة عبد السلام جبران المسفيوي، حيث يقول: توفي العلامة صديقنا الأوحد وحبيبنا الأمجد العارف بالله الحجة الهمام أوحد أهل زمانه علما وعملا ومعرفة وحالا السيد الحاج عبد السلام جبران يوم الثلاثاء الرابع والعشرين من ربيع الأول سنة 1413 ه وصلي عليه في مسجد كليز ودفن في مقبرة الصالحين بباب اغمات تغمده الله برحمته وأسكنه فسيح جناته مع النبيئين والصديقين والشهداء والصالحين وإنا لله وإنا إليه راجعون ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم لا إله إلا الله الحليم الكريم سبحان الله رب العرش العظيم اللهم أجرنا في مصيبتنا هذه واعقبنا خيرا منها وصلى الله وسلم على سيدنا محمد الفاتح الخاتم وعلى آله وصحبه وسلم تسليما آمين . وفاته: توفي العلامة أحمد الزيادي يوم الأربعاء 15 شعبان 1420ه الموافق 26/11/1999م عن سن يناهز التسعين. وقد كتب في وفاته أبياتا الأستاذ البشير المحمودي رحمه الله، والأستاذ حلمي أحمد التجاني، والأستاذ الحسن بن محمد الغدويني، وبعضها مثبت في كتابنا "المدارس العلمية العتيقة بإقليم حوز مراكش وأثرها في ترسيخ الثوابت الدينية والوطنية". وما الغاية من وراء ما نقدمه، إلا أن نسهم بوضع لبنات نافعة في صرح هذا البلد العظيم، الذي يرعاه مولانا أمير المومنين، وحامي حمى الملة والدين، جلالة الملك محمد السادس أدام الله عزه ونصره، وحفظه في ولي عهده مولاي الحسن، وفي صنوه السعيد مولاي رشيد، وفي كافة أسرته الملكية الشريفة، إنه سميع مجيب. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه والتابعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، والحمد لله رب العالمين. مصادر الترجمة: * ورقات الأستاذ البشير المحمودي كتبها عند وفاة العلامة الزيادي رحمهما الله. * تقييدات العلامة أحمد الزيادي مدونة في كتبه وكناشته، الأستاذ عبد الغني فاضل. * أشعار وتقييدات مختلفة في ترجمة العلامة الزيادي. الأستاذ عبد الغني فاضل. * إفادات العلامة محمد فاضل حول ترجمة العلامة الزيادي (الأب والابن). * المدارس العلمية العتيقة بإقليم حوز مراكش وأثرها في ترسيخ الثوابت الدينية والوطنية، تأليف: الدكتور أمين انقيرة، تقديم ومراجعة العلامة محمد فاضل رئيس المجلس العلمي لجهة مراكش أسفي، دار القلم، الطبعة الأولى: 2023م.