تلقت أوساط سياسية وإعلامية، خصوصا المعادية لوحدتنا الترابية، باستغراب تعبير السلطات العليا الإسبانية عن موقفها الواضح من التسوية السياسية النهائية للنزاع المفتعل حول الصحراء المغربية، بدعمها لمبادرة الحكم الذاتي للأقاليم الصحراوية في إطار السيادة المغربية. هذا الاستغراب أو الاندهاش في حد ذاته، إن دل على شيء فإنما يدل على أن هذه الجهات المستغربة المندهشة المتفاجئة تقدم حجة على أنها خارج التاريخ وخارج سيرورة الأحداث ومنطق الواقع والحقيقة، وأن آلياتها التحليلية الفكرية والسياسية لتطورات الأحداث وللتقدم الحاصل في إدارة وتدبير النزاع حول الصحراء المغربية في أروقة المنتظم الأممي خاصة، وفي واقع الحال، لم تكن في مستوى التوقعات وصيرورة التاريخ، فكل مسارات قضية النزاع المفتعل المذكور كانت تتجه إلى دعم الحل السياسي بعيدا عن أطروحة الانفصال، منذ أن طوى المنتظم الأممي موضوع استفتاء تقرير المصير الفاشل، في كل تقاريره وشهاداته، ومنذ منعطف إطلاق مسلسل التسوية السياسية على أساس تقدم أطراف النزاع بمقترحات جدية وواقعية وذات مصداقية لبناء الثقة في حل سياسي تفاوضي ممكن، ومنذ تنظيم موائد مستديرة لبحث هذا الحل، ومنذ طرح المغرب عام 2007 لمقترح الحكم الذاتي للأقاليم الصحراوية، كمقترح وحيد متقدم به حظي بإشادة دولية وأممية واسعة، ووصف بأنه يتمتع بالمصداقية والواقعية والجدية، وظلت التقارير الأممية تشير إليه وتوجه إليه الأنظار كأساس مقبول لحل النزاع، في انتظار توافق جميع الأطراف المعنية على أساسه، لإنهاء عقود من استهداف أمن المنطقة بمخططات التقسيم والتفكيك والانفصال والتحريش بين الشعوب والدول لا لشيء إلا لخدمة أطماع عدوانية انتهت كل مبررات وجودها بتصفية الاستعمار وتركته، وبسقوط جدار برلين وانتهاء الحرب الباردة وظهور متغيرات ومستجدات في المنطقة ترتبط بدخول أطراف خارجية مشبوهة تدعم الانفصال والإرهاب، وتستغل بؤر التوتر لنقل الأنشطة المحرمة دوليا إليها من اتجار بالبشر وتهريب للأسلحة وتأمين معابر للمخدرات وقطع للطرقات ونشر للرعب. إن إسبانيا في تعبيرها الواضح عن موقفها من حل النزاع المفتعل حول الصحراء المغربية على أساس مقترح الحكم الذاتي في إطار سيادة المغرب ووحدته الترابية، إنما انحازت لمنطق التاريخ ضد الجمود القاتل والانتظارية المعطلة للمصالح والمؤثرة سلبا في الدينامية المتصاعدة للمبادلات والعلاقات والتعاونات بين دول الجوار، وانتصرت للسلام وللشرعية الدولية بضم موقفها إلى مواقف الدول الغالبة في تدبير هذا النزاع المفتعل في الأروقة الأممية، والتي تتجه إلى دعم الوحدة الترابية للدول في مواجهة النزعات الانفصالية، ودعم الاستقرار والأمن الإقليميين والدوليين ضد الحركات الإرهابية، وهي بموقفها الواضح هذا ستكون داعما قويا للمبعوث الأممي في جهوده النبيلة لإعطاء مصداقية لعمليات التفاوض السياسي على حل دائم وواقعي ونهائي وشامل وتجاوز الجمود الذي كرسه الحياد السلبي الممد للنزاع والابتزاز إلى ما لا نهاية. إسبانيا لم تنحز لا للمغرب ولا للمشرق وإنما انحازت للإشارات المستقبلية الواعدة بالخير، التي تنتظرها وتنتظر جوارها ومنطقة غرب المتوسط، في حال ما إذا واصلت تعاونها الأمني خاصة مع القوى المحبة للسلام والاستقرار، وواصلت التزاماتها بتعزيز الثقة في الشراكة الندية والاستراتيجية بينها وبين أكبر حليف وصديق تجمعه معها روابط الجوار الجغرافي والتاريخ المشترك ونوعية المبادلات التجارية والاقتصادية، والتنسيقات الأمنية في أكثر من ملف حارق ومؤثر. فمم الاستغراب والاندهاش والمفاجأة، اللهم إلا إذا عد المستغربون المندهشون المتفاجئون إسبانيا المهددة بالانفصال وبالإرهاب وباختلالات في توازناتها المالية والاقتصادية، عونا للانفصال وسندا للإرهاب وحليفة لكل قوى الشر في المنطقة ضد مصالحها وشعبها، حينها يمكنهم أن يزعموا أن موقف إسبانيا الإيجابي والداعم للوحدة الترابية للمغرب مثير للاستغراب والدهشة والاستنكار. فإسبانيا تدرك قبل غيرها، وهي القوة الاستعمارية السابقة لمناطق من شمال إفريقيا، أنها لا يمكنها أن تواصل التفكير في مصالحها القومية والمستقبلية وفي استقرارها وأمنها ورخائها وازدهارها، في الوقت الذي تدس فيه رأسها في رمال الغموض والتذبذب في المواقف وعدم الوضوح واقتحام الحاجز النفسي الذي يفصل بينها وبين الانضمام لنداءات المساعدة على تخطي مأزق النزاع المفتعل حول أرض من مستعمراتها القديمة، التي تعلم علم اليقين، عند استعمارها لها، من كان بالفعل صاحبها، ومن هي سلطة الدولة التي تحظى بشرعية ولاء ساكنتها لها. إسبانيا تدرك باتخاذها لهذا الموقف الإيجابي الداعم للوحدة الترابية للمغرب، أن لعبة تأجيج الصراع والنزاع حول الصحراء لا يهدد منطقة جوارها فحسب، وإنما يهددها بأوخم العواقب في هويتها ومصداقيتها وفي سياستها الأمنية والديبلوماسية، التي دفعت غاليا ثمن توريطها المجاني في العداء مع المغرب من قبل العصابة الحاكمة في الجزائر وصنيعتها الانفصالية. لم الاستغراب من عودة إسبانيا من طريق منحرف وملتو، حالك الظلام وواعد بكل أشكال التطاول والانتهاكات والخروقات والمعاكسات والمناطحات، إلى جادة الصواب وإلى السكة الصحيحة والحتمية في اتجاه المستقبل المشترك مع شريكها الإفريقي الأول ومع جنوبها المغربي، بوابتها على إفريقيا وعلى العالم العربي والإسلامي، وأحد جذور حضارتها وعمارتها وتاريخها وسلالتها. لم تفعل إسبانيا في موقفها هذا إلا أن جددت كل تأكيداتها القديمة على الروابط التاريخية والبشرية والاقتصادية التي جمعتها وتجمعها بالمغرب وبالدولة المغربية بعمقها الصحراوي الذي تشكل منه يوما وجه الأندلس الحضاري. فإذا كانت جذور شجرة المغرب ضاربة في الصحراء وفي إفريقيا، فإن أغصانها وأوراقها الظليلة باسقة ممتدة في أوروبا عبر البوابة الإسبانية، ولا عجب ولا غرابة أن تعود إسبانيا إلى هذه الحكمة التاريخية والجغرافية التي تربطها ببلد تتقاسم معه التغذية المشتركة لما يجمع البلدين من مصير مشترك على ضفتي غرب المتوسط. بخلاصة، لقد اختارت إسبانيا الوضوح الإيجابي والمنتج والمتجاوز للعثرات الذي طالما عبرت عنه قبل الأزمة مع المغرب، وقبل ظهور تصرفات عدائية وسلوكات مشينة لا تتطابق مع خطاب التحالف والصداقة والود والشراكة الاستراتيجية وتطعن في الثقة المتبادلة بين البلدين، وهي اليوم إذ تعيد تصحيح المسار في اتجاه مستقبل أكثر أمنا وسلاما وعدلا ووضوحا، فذلك منها هو الموقف الطبيعي الذي لا يمكن أن يستغربه إلا من لا يسره أن تنتصر إسبانيا على نزعات التآمر والابتزاز التي تجرها إلى الخلف. فالذي ابتز إسبانيا وضغط وتآمر وزور وحور ليس هو المغرب الذي لم يقم إلا بواجبه تجاه الصداقة وشراكة "رابح- رابح" مع جاره وشريكه الإسباني، بمطالبته هذا الشريك بمزيد من الانسجام بين التعهدات والممارسات وبين الأقوال والأعمال، وبالخروج من المنطقة الرمادية التي تؤثر الاستفادة الأحادية من ثمار التعاون والشراكة، ومن جهود الآخرين في دعم استقرارهم وأمنهم دون التقدم خطوة في اتجاه مبادلتهم الدعم بالدعم والأمن بالأمن والسلام بالسلام. أما هؤلاء الذين يدعون بالويل والثبور على إسبانيا ويصفونها بالخائنة والناقضة للمبادئ والمنقلبة والخانعة والخاضعة والمنبطحة للموقف المغربي والأطروحة الوحدوية المغربية، ويرون هذه العلاقة الطيبة المتجددة مع المغرب انتصارا للمغرب وهزيمة وخضوعا واستسلاما لإسبانيا، فإنهم تناسوا أن إسبانيا كانت من الدول السباقة في عهد حكوماتها السابقة كحكومة ثاباطيرو إلى الإشادة بمقترح الحكم الذاتي للصحراء في إطار السيادة المغربية الذي قامت السلطات العليا الإسبانية اليوم بإعادة تأكيده وتبديد الغيوم بشأنه بشكل رسمي ونهائي، واعتباره أساس التسوية والحل للنزاع المفتعل، وتناسوا أيضا أن الدول القوية والمؤثرة في العالم لم تكن في إشادتها بهذا المقترح مهزومة ولا خانعة ولا خائنة ولا هي تحت الضغط أو التهديد المغربي ولا فوقه، بل انتصرت للحق وانحازت للسلام وللشرعية ولما يفرضه عليها واجبها في ضمان الاستقرار والأمن ووحدة تراب الدول الأعضاء في الأممالمتحدة، وتناسوا أيضا أن استمرار عدد من الدول الإفريقية والعربية والإسلامية في فتح قنصليات لها بمدن أقاليمنا الصحراوية وتواصل اعترافها بمغربية الصحراء، واعتراف الولاياتالمتحدة بها كذلك، لا علاقة له بهزيمتها أمام المغرب ولا بانتصار وهمي عليها، وإنما بموقف نبيل وسيادي، لا يمكن لمنطق العصابات وتجار البطولات الوهمية أن يفهمه أو أن يضعه في إطاره الصحيح والسليم. إن المغرب لا يبني انتصاراته على هزائم شركائه وجيرانه، ولا على الضغط والتهديد والابتزاز والحيل والدسائس، وإنما على الدفاع الأخلاقي النبيل عن مواقفه الثابتة المتوافقة مع القانون الدولي ومع الشرعية الأممية ومع القيم الإنسانية المشتركة، وبمنطق الربح للجميع في المعركة ضد التخلف وضد نزعات الإرهاب والتطرف والكراهية والاستعمار. وهذا ما فهمته السلطات الإسبانية وعادت فيه إلى ضميرها وما يفرضه اتجاه التاريخ وعلاقات حسن الجوار، فاستدركت ما فات وأدركت أن أمنها واستقرارها من أمن المغرب واستقراره واحترام وحدته الترابية، في انتظار أن تتدارك دول من الجوار هذا المعطى الجيوسياسي الذي بات يفرض نفسه بقوة أكثر من أي وقت مضى بعد اندلاع الأزمة الروسية الأوكرانية، وتساقط الأقنعة عن تجار الحروب والمآسي.