أضع بين أيديكم ملخصاً لكتاب "التطهير العرقي في فلسطين" ، تأليف "ايلان بابيه" وهو مؤرخ تقدمي إسرائيلي ، تميز بوضوح تحليله وموقفه الرافض للحركة الصهيونية وممارستها العنصرية البشعة ، خاصة فيما يتعلق بتنفيذها لعملية التطهير العرقي التي أدت إلى قتل وتشريد وطرد ثمانمائة ألف فلسطيني من وطنهم تحولوا منذ منتصف عام 1948 إلى لاجئين . إن الفكرة المركزية التي أكد عليها "ايلان بابيه" في كتابه هذا، تقوم على أن عملية التطهير العرقي، قد تم التخطيط لها بصورة مسبقة وواعية عبر شبكة مترابطة وتنظيم محكم وأوامر صريحة وواضحة تنطلق كلها من فلسفة الحركة الصهيونية وممارساتها المرتبطة – بصورة كلية – بالرؤية والمخطط الرأسمالي العالمي باعتباره صاحب المصلحة الرئيسية في قيام دولة إسرائيل في بلادنا، من هنا جاء كتاب "ايلان بابيه" ليفضح بالوثائق دور الحركة الصهيونية وعنصريتها ووظيفتها وتحالفاتها، وذلك ارتباطاً بموقفه الصريح المعادي للحركة الصهيونية والامبريالية الأمريكية وكل أشكال العنصرية والاضطهاد، دون أن يعني ذلك موقفاً صريحاً منه ضد وظيفة دولة العدو ومبرر وجودها في خدمة النظام الرأسمالي من ناحية أو مع قيام دولة عربية ديمقراطية علمانية في فلسطين من ناحية ثانية، رغم تأكيده على فكرة الدولة الديمقراطية الواحدة (إسرائيل) في ضوء المأزق المسدود الذي وصل إليه حل الدولتين. لكننا في كل الأحوال نقدر عالياً، وبموضوعية واحترام كبيرين، انحياز المؤلف، المؤرخ اليهودي الألماني الأصل "ايلان بابيه"[1] لرؤية ورسالة اليسار التقدمي رغم ما يشوبها من نزعة مثالية طوباوية، حينما يتحدث في كتابه "أن إسرائيل لا خيار أمامها سوى أن تتحول طوعاً في يوم ما إلى دولة مدنية ديمقراطية" (ص 285) أو حينما يتمنى " لو أن جامعة تل أبيب قامت بتقدير قيمة الأملاك الفلسطينية التي فقدت في دمار 1948 بما يوفر إمكانية العمل من اجل السلام والمصالحة" (ص 287 )، وفي المقابل، فان غشاوة هذه النزعة أو المنهجية المثالية تتلاشى حينما يستنتج "ايلان بابيه" بحق ان "هدف المشروع الصهيوني كان دائماً بناء "قلعة" بيضاء (غربية) في عالم "أسود" (عربي) والدفاع عنها" وهي رؤية تجسد موقفه الشجاع ضد الحركة الصهيونية وممارساتها منذ نشأتها وتطورها في بلادنا، الأمر الذي دفع به إلى مغادرة "إسرائيل" والعودة إلى أوروبا عام 2007 بعد ان أدرك – كما يبدو – ان الإنسان اليساري الملتزم بمبادئه، لا يمكن ان يدافع عن الظاهرة ونقيضها في آن واحد، بمعنى أنه لا يمكن أن يكون صهيونياً ويسارياً في آن، الا اذا كان انتهازياً كما هو حال الأغلبية الساحقة من لوحة اليسار اليهودي في إسرائيل[2]، اذ ان اليهودي اليساري (من مختلف الاصول والجنسيات) هو فقط من يرفض المساهمة في اغتصاب فلسطين واضطهاد شعبها من ناحية ويرفض الدور الوظيفي لدولة إسرائيل في خدمة النظام الامبريالي الرأسمالي من ناحية ثانية، وهو أيضا من يرفض الإقرار بوجود قومية يهودية او شعب يهودي، ما يعني بوضوح ان دولة "إسرائيل" نشأت وتأسست وفق مشروع رأسمالي امبريالي توسعي حدد لها وظيفتها منذ البدايات الأولى للفكرة الصهيونية التي تلفحت او تذرعت – كما تذرع النظام الرأسمالي أيضاً- بالفكرة الدينية او "التوراتية" لتضم في إطارها فسيفساء واسعة من أجناس بشرية، من أصول غربية وشرقية، من أوروبا وأمريكا وروسيا واسيا وإفريقيا، لا وجود لأي رابط اجتماعي او تاريخي بينهم، ويستحيل انصهارهم في مجتمع متجانس او قومية واحدة، لكنهم التقوا جميعاً بدوافع ومنطلقات وأهداف تعددت فيها الدرجات والوسائل والغايات، لخدمة المشروع الرأسمالي العالمي الذي حدد هدفه الاستراتيجي من إقامة هذه الدولة: "إسرائيل" تحقيقاً لوظيفة استهدفت وما زالت، اغتصاب بلادنا فلسطين أولاً، ثم الإسهام في إبقاء تطور شعوبنا العربية محتجزاً في اطار من التبعية والتخلف والخضوع كما هو حالنا اليوم، حفاظاً على المصالح الامبريالية في وطننا العربي بما يضمن استمرار الهيمنة على مقدراتنا وثروات شعوبنا ويحول دون تطورها او استنهاضها، ذلك هو الدور الوظيفي لدولة العدو الإسرائيلي التي تحولت اليوم الى دولة امبريالية صغرى تغذيها وتدعمها الامبريالية الأم … الولاياتالمتحدةالأمريكية … ذلك هو هدف عملية التطهير العرقي الذي مارسته الحركة الصهيونية على أبناء شعبنا الفلسطيني عشية 15/ايار/1948 او النكبة الأولى، التي تؤكد مقدماتها ونتائجها ان الصراع منذ اللحظة الأولى كان صراعاً عربياً صهيونياً. ففي ضوء أوضاعنا الفلسطينية الراهنة، يبدو ان الحل المطروح على أساس الدولة المستقلة بات افقه مسدوداً ان لم يكن بدأ في صيرورة التراجع او الصورة الممسوخة عبر حل تتوافق فيه المصالح الطبقية للقيادة المتنفذة مع المشاريع الأمريكية / الإسرائيلية في إطار حكم ذاتي موسع او دويلة ممسوخة في غزة. لذلك فان الخيار الذي قام على أساس أنه يمكن أن يحصل الفلسطينيون على دولة مستقلة، كان وهماً قاد إلى النهاية التي نعيشها، أي انقسام وتفكك الفكرة التوحيدية الناظمة للنضال التحرري الوطني والقومي لشعبنا، ودمار النظام السياسي والمشروع الوطني وتوسع السيطرة الصهيونية على الأرض، وأيضاً انفصال قطاع غزة عن الضفة الغربية في اطار الصراع بين هويتين: هوية الاسلام السياسي والهوية الوطنية/ القومية. لقد توضح خلال العقود الماضية، الى جانب تطورات الوضع الراهن والمفاوضات العبثية البائسة، بأن الدولة الصهيونية معنية بالسيطرة – المباشرة وغير المباشرة – على كل فلسطين، وأنها جزء من المشروع الامبريالي للسيطرة على الوطن العربي. وبالتالي يجب ان تتأسس الرؤية لدى كافة قوى اليسار الماركسي القومي العربي، انطلاقاً من ذلك وليس من خارجه، فالدولة الصهيونية هي مركز ثقل الوجود الامبريالي في الوطن العربي –كما يقول بحق صديقنا سلامة كيلة- ووجودها حاسم لاستمرار السيطرة الامبريالية، وضمان استمرار التجزئة والتخلف العربيين. لهذا كان ضرورياً أن يعاد طرح الرؤية الوطنية من قلب الرؤية التقدمية القومية الأشمل، التي تنطلق من فهم عميق للمشروع الامبريالي الصهيوني وأدواته البيروقراطية والكومبرادورية والرجعية، من أجل ان يعاد تأسيس نضالنا الوطني والديمقراطي على ضوء هذه الرؤية. ولا شك في أن هذه المهمة هي أولاً مهمة الماركسيين في فلسطين والوطن العربي ، وهنا يمكن الإشارة إلى أن المسألة تتعلق بمدى وضوح الفكرة المركزية التوحيدية، (الوطنية والقومية برؤية ماركسية)، ووعينا والتزامنا بها، وهي أن الصراع ضد الدولة الصهيونية هو فرع من صراع ضد الرأسمالية والإمبريالية و"الرأسماليات" العربية التابعة، وهو صراع الطبقات الشعبية ضد هؤلاء، وليس من الممكن ان نصل الى تحرير فلسطين خارج إطار هذا الصراع، الذي يجب ان يفضي الى التحرير والوحدة القومية والتطور والدمقرطة والحداثة، وإقامة دولة فلسطين العربية الديمقراطية العلمانية التي سيتبلور فيها بالضرورة، الحل الديمقراطي للمسألة اليهودية. من أجل كل ما تقدم، آمل أيها الرفاق أن تقرؤوا باهتمام بالغ هذا الكتاب . غازي الصوراني Related posts: لمرأة والجنس- للدكتورة نوال السعداوي قراءة في كتاب -الأمير- ل -نيقولو مكيافيلي-