كشف تقرير تقييمي حديث، أنجزته الهيئة الوطنية للتقييم لدى المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي بشراكة مع منظمة "اليونيسيف"، عن تحول كبير في خريطة التعليم الأولي بالمغرب خلال العقد الأخير، حيث سجل القطاع طفرة كمية غير مسبوقة في نسب الولوج، مقابل استمرار اختلالات عميقة تمس جودة التعلمات وبيئات التعلم، وتطرح أسئلة جوهرية حول جدوى التعميم دون ضمان الجودة. التقرير، الصادر في دجنبر 2025، أبرز أن نسبة تمدرس الأطفال البالغين من العمر ما بين 4 و5 سنوات ارتفعت من 50.2 في المائة سنة 2015 إلى 70.4 في المائة حاليًا، في قفزة نوعية تبرز الجهود العمومية المبذولة لتوسيع العرض التربوي، وتمكين الأطفال من تعليم أولي عمومي ومجاني، لكن المفارقة اللافتة أن العالم القروي تصدر نسب التمدرس ب75.6 في المائة، متجاوزا الوسط الحضري، بفضل التوسع السريع في الوحدات العمومية التي تضاعف عددها بأكثر من ثلاث مرات منذ سنة 2018.
وفي السياق ذاته، رصد التقرير تراجعا حادا في عدد الوحدات "غير المهيكلة"، التي انخفضت من حوالي 19 ألف وحدة إلى أقل من 5 آلاف، ما يفسر التوجّه الرسمي الواضح نحو هيكلة التعليم الأولي ووضعه تحت إشراف الدولة، مدعوما بميزانية عمومية انتقلت من 1.1 مليار درهم إلى نحو 3 مليارات درهم.
غير أن هذا التقدم الكمي، بحسب التقرير، لم يواكبه تحسن مماثل في جودة التعلمات، إذ لم يتجاوز المعدل العام لمكتسبات الأطفال 62 نقطة من أصل 100، مع تسجيل تفاوتات صارخة بين أنماط العرض التربوي، حيث تصدر التعليم الخصوصي النتائج بمعدل 71 نقطة، مقابل 57 نقطة فقط في التعليم العمومي، ما يعيد إلى الواجهة إشكالية تكافؤ الفرص داخل المنظومة التعليمية.
وعلى مستوى مجالات التعلم، أظهرت النتائج أداء إيجابيا نسبيا في مجال "النمو الاجتماعي والعاطفي" بمعدل 68 نقطة، في حين شكّلت "القراءة والكتابة المبكرة" الحلقة الأضعف بمعدل 56 نقطة، حيث يواجه الأطفال صعوبات واضحة في التعرف على الحروف واكتساب المهارات اللغوية الأساسية، وهو ما يعزوه التقرير إلى استمرار ممارسات بيداغوجية تقليدية تقوم على التلقين والترديد بدل التعلم عبر اللعب والتفاعل. أما بخصوص بيئة التعلم، فقد رسم التقرير صورة متباينة؛ فبينما تتوفر 86 في المائة من الوحدات على الربط بالماء الشروب، لا تتجاوز نسبة الوحدات التي تتوفر على مرافق صحية تستجيب للمعايير 31 في المائة فقط، ما يطرح إشكالات مرتبطة بالصحة والسلامة. وتتعقد الصورة أكثر في الوسط القروي، حيث أشار التقرير إلى أن 53 في المائة من الأطفال لا يتوفرون على أي كتاب داخل منازلهم، مما يضاعف الضغط على المؤسسة التربوية في تعويض هذا الخصاص الثقافي.
وفي شق الموارد البشرية، كشف التقرير أن التعليم الأولي يعتمد أساسا على طاقات شابة ونسوية، لكنها تعاني من هشاشة مهنية واضحة، إذ إن ربع المربيات يتقاضين أجورًا تقل عن 2000 درهم شهريا، إلى جانب الاكتظاظ داخل الأقسام، خاصة في العالم القروي والقطاع العمومي، حيث يتجاوز عدد الأطفال 20 طفلا لكل مربية في أكثر من نصف الأقسام.
وخلص التقرير إلى أن الرهان الحقيقي للمرحلة المقبلة لا يكمن في توسيع التعميم فقط، بل في الانتقال الحاسم من "منطق الكم" إلى "منطق الجودة"، عبر تحسين البنيات التحتية، خاصة المرافق الصحية وشروط السلامة، وتطوير المقاربات البيداغوجية بالتركيز على اللعب والأنشطة التفاعلية بدل التلقين. كما شدد المجلس الأعلى للتربية والتكوين على ضرورة تحسين شروط عمل المربيات لضمان الاستقرار المهني وجودة التأطير، مع تعزيز إدماج الأطفال في وضعية إعاقة، الذين لا تتجاوز نسبتهم حاليا 1.2 في المائة، في أفق تعليم أولي منصف وشامل.