يواصل المجلس الأعلى للسلطة القضائية ترسيخ مكانته كفاعل محوري في تخليق منظومة العدالة بالمغرب، من خلال رؤية استراتيجية تجعل من النزاهة والشفافية ركيزتين أساسيتين لإصلاح شامل ومستدام يعزز ثقة المواطنين في القضاء ويضمن الأمن القضائي كأحد مقومات دولة الحق والقانون. وخلال سنة 2024، حسب تقرير للمجلس توصل "الأول" بنسخة منه، وضع المجلس هذا الورش ضمن أولوياته القصوى، معتمداً مقاربة مندمجة تقوم على ثلاثة محاور مترابطة: التحسيس والتأطير بغاية الوقاية ونشر ثقافة النزاهة، والزجر عبر المساءلة والتأديب، إضافة إلى التفتيش والمراقبة باعتبارها أدوات عملية لتقويم الأداء وضمان الالتزام المهني والأخلاقي. ففي الجانب التحسيسي والتأطيري، كثّف المجلس برامجه التكوينية واللقاءات التواصلية لتعميم ثقافة الأخلاقيات القضائية، حيث استفاد الملحقون القضائيون من الفوج 47 من برنامج تكويني شامل حول مدونة الأخلاقيات القضائية بتأطير من لجنة الأخلاقيات ودعم استقلال القضاة والمعهد العالي للقضاء. كما نظمت اللجنة لقاءات جهوية في الدارالبيضاء ومكناس حول الضوابط السلوكية ومدونة الأخلاقيات، شكلت فضاءات مفتوحة للنقاش وتبادل الخبرات بين القضاة. كما برز دور مستشاري الأخلاقيات على مستوى الدوائر الاستئنافية، من خلال تقديم المشورة والدعم للقضاة في تنزيل المقتضيات الأخلاقية، ما أثمر إعداد 35 تقريراً تمت إحالتها على لجنة الأخلاقيات. وفي سياق تعزيز الشفافية، فعّل المجلس اللجنة المكلفة بفحص تصريحات القضاة بالممتلكات والمداخيل، ووجّه دوريات تنبيهية بشأن بعض الاختلالات المسجلة. وتجسيداً لمبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة، وحرصاً على إشاعة ثقافة الانضباط، واصل المجلس منذ 2021 نشر مقرراته التأديبية بعد حذف هوية القضاة المعنيين، وبلغ عددها مع نهاية 2024 ما مجموعه 108 مقررات تضمنت اجتهادات قانونية وأخلاقية أبرزت معايير السلوك القضائي السليم، وشددت على أهمية تدبير الزمن القضائي والالتزام بوقار المهنة. أما في الشق التأديبي، فقد اعتمد المجلس مقاربة حازمة تستند إلى القانون التنظيمي رقم 38.21، حيث فتحت المفتشية العامة للشؤون القضائية خلال سنة 2024 ما مجموعه 179 ملفاً جديداً للبحث والتحري، وأتمت أبحاثها بشأن 208 ملفات أحيلت على الرئيس المنتدب. كما تولت تتبع وتقدير ثروة 21 قاضياً. وشهدت سنة 2024 طفرة غير مسبوقة في عمل لجنة التأديب، إذ ارتفع عدد القضاة المشمولين بالتقارير إلى 1324 قاضياً وقاضية، أي بزيادة تفوق 1400% مقارنة بسنة 2021، نتيجة جاهزية الأبحاث المؤجلة وتوسيع موارد المفتشية. وأسفرت هذه المعالجة عن حفظ 998 ملفاً، وتوجيه 137 ملاحظة أو تكوينات تأديبية، في حين تمت إحالة 70 قاضياً على المجلس التأديبي. وبتّ المجلس في 44 ملفاً شمل 65 قاضياً، صدرت في حق 35 منهم عقوبات تفاوتت بين العزل (3 حالات)، والإقصاء المؤقت (9 حالات)، والإنذار والتوبيخ (20 حالة)، مقابل حالتي براءة فقط. وأبرزت الإحصائيات أن أغلب الإخلالات تتعلق بواجبات مهنية بنسبة 68.5%، مقابل 25.7% مرتبطة بالواجبات الأخلاقية. وفي السياق ذاته، واصلت المفتشية العامة للشؤون القضائية أداء مهامها الرقابية خلال سنة 2024 وفق مقاربة متوازنة تهدف إلى تقييم الأداء القضائي وضمان النجاعة. وقد شمل برنامج التفتيش المركزي زيارة 22 محكمة، منها 17 ابتدائية و5 استئنافية، موزعة على جهات مختلفة من المملكة، أبرزها آسفي، القنيطرة، الرشيدية، بني ملال، الحسيمة ومكناس، ما يمثل 17.6% من مجموع المحاكم الوطنية. ويؤكد تقرير 2024 أن المجلس الأعلى للسلطة القضائية نجح في تعزيز دعائم الشفافية والنزاهة داخل الجسم القضائي عبر تفعيل آليات الرقابة والمساءلة، دون إغفال البعد التكويني والتوجيهي، في انسجام تام مع أهداف مخططه الاستراتيجي (2021-2026). وبذلك يكرّس المجلس، حسب التقرير، قناعة راسخة مفادها أن تخليق العدالة لا يتحقق بالزجر وحده، بل بمنظومة متكاملة من الوقاية والتأطير والمساءلة، تصون كرامة القاضي وترسخ ثقة المواطن في قضاء مستقل ونزيه.