وأخيراً، قدم شكيب بنموسى التقرير العام للنموذج التنموي الجديد أمام الملك محمد السادس، فانطلق نقاش آخر، ليس حول شكل النموذج التنموي الذي يجب أن يتبعه المغرب، ولا حول مسطرة إعداده والإشكاليات المفترض أن يتضمنها، ولكن هذه المرة حول مضمون ما تم تقديمه، وفعاليته الإجرائية، وشكل تشخيصه لأعطاب التنمية، واستجابته للأولويات الملحة للمجتمع المغربي. خاصة بعد أن عرّت جائحة كورونا الكثير من الأزمات العميقة في قطاعات حيوية كالصحة والتعليم، وتصوراته الاستراتيجية لما يجب القيام به لتحقيق إقلاع اقتصادي يستفيد منه المواطنون على قدم المساواة ويقوي إحساسهم بالانتماء الجماعي للوطن.
هنا نقدم قراءة تركيبية للتقرير من خلال آراء وتحليلات نقدية لمجموعة من الفاعلين والخبراء حول التقرير العام للنموذج التنموي الذي أعلنت عنه لجنة شكيب بنموسى أمام الملك، مع تصريحات لفاعلين اقتصاديين ومحللين مختصين.
يكاد يجمع كل من تناولوا التقرير العام بالنقد والتحليل على أهمية ما ورد فيه والإشكالات التي تناولها بالتشخيص والتمحيص، وكذلك الأفق الذي رسمه للنموذج التنموي الجديد لتحقيق إقلاع اقتصادي ونقلة حضارية كبرى، على اعتبار أن نموذج التقرير التنموي يشكل تعاقدا وطنيا للأمة يرسم ما يجب أن يكون عليه المغرب في العقدين القادمين، حيث اعتبروا النموذج التنموي الجديد زبدة لكفاءات مغربية متميزة وإنتاجا مغربيا خالصا كما كان عليه الأمر في تقرير الخمسينية، كما أثنوا على بعد الحوار والنقاش العمومي الذي خلقه منذ إعلان الملك عن أزمة النموذج التنموي القديم الذي استنفد مهامه، وتشكيل لجنة طاقات مغربية محترمة مشهود بكفاءتها لإعداد نموذج جديد. وحتى أشد المعارضين أكدوا أن التقرير يحتوي على جرأة على مستوى الخطاب في تشخيص الأوضاع ووضع اليد على الداء، لكن..
ثمة بياضات تحتاج إلى التفكيك والنقد في النموذج التنموي الجديد، مثل توصيته بتقوية دور الإدارة الترابية، أي منح العمال والولاة سلطة أكبر في ذات الآن الذي يتم الحديث فيه عن الجهوية الموسعة، وهو ما لا يستقيم في تقدير العديد من الخبراء، لأن الخيار الديمقراطي يفرض تعزيز سلطات المنتخبين الذين يختارهم المواطنون لتدبير شؤونهم العامة بدل تقوية اختصاصات سلطات الوصاية،
فالديمقراطية تنبني من الأسفل بجعل المنتخبين القادمين من صناديق الاقتراع في موقع المسؤولية، لأنهم هم من يخضعون للمحاسبة والرقابة الاجتماعية للمواطنين الذين انتخبوهم وليس العمال والولاة. بل إن الإلحاح على ضرورة إشراف لجنة خاصة بمراقبة وتقييم مراحل تنفيذ النموذج التنموي من طرف إدارة تشتغل تحت إمرة الملك يقوي السير نحو ملكية تنفيذية بشكل يلغي ما تراكم منذ أكثر من عقدين في البناء السياسي المغربي، كما يقول المحلل الاقتصادي نجيب أقصبي في تصريح للأيام: «لا يمكن أن نتحدث عن الديمقراطية ونتبع منهجية لا ديمقراطية».
كما سجل محللون آخرون وجود لغة محتشمة في تقرير بنموسى لم تذهب إلى أبعد مدى، خاصة في مجال الربط بين السياسي والاقتصادي في منظور اللجنة للنموذج التنموي الجديد، لذلك تحدث بعضهم عن الخطوط الحمراء أو الأسلاك الكهربائية العارية التي قفز عليها أو حام حولها التقرير العام للجنة شكيب بنموسى، إذ لم يسمّ التقرير الأشياء بمسمياتها، فعلى سبيل المثال حين تحدث عن الريع الذي يعتبر أكبر مظاهر الفساد التي تضر بالاقتصاد الوطني، لم يشخص طبيعة الريع وعلاقته باستقطاب السلطة السياسية للنخب الداعمة والطبقات الاجتماعية التي تسندها، فالريع ليس طارئا على الاقتصاد المغربي وإنما هو ذو طبيعة بنيوية في قلب السلطة. يقول عمر الحياني القيادي بالحزب الاشتراكي الموحد: «الريع في المغرب مؤسسة لحماية النظام السياسي، وهو ليس وليد اليوم، يستفيد منه مجموعة من الأشخاص مقابل خدمة النظام، لا يمكن مع بنية النظام الموجودة أن يتم التخلي عن أشخاص مستفيدين من الريع وأن تحارب السلطة الريع الذي أصبح جزءا من بنيتها»، وإذا حدث ذلك سيكون أعجوبة من أعاجيب الزمان.
فيما اعتبر منتقدون آخرون التقرير العام والملخص وملحقاته وثائق محكومة بالسياق السياسي والحقوقي الذي ولدت فيه، والذي يتميز بتراجع ملحوظ في منسوب الحرية وحقوق الإنسان، فالسياق العام الذي تم فيه تقديم تقرير بنموسى يتسم بالتراجع على مستوى مناخ الحريات وهو ما لا يساعد على أي بارقة أمل في نجاعة النموذج التنموي الجديد بتعبيرهم، حيث أن التنمية والديمقراطية يتنفسان هواء جديدا في ظل أجواء الحرية، ولا يمكن الفصل بينهما، فإذا تمت الإشادة بالعديد من الجوانب القوية والإيجابية في نموذج التنمية الجديد فإن السياق السياسي العام يتميز بفقدان الثقة وتراجع منسوب الحرية، وهو ما يسائل المسار الديمقراطي للبلاد. فكيف يمكن تعزيز الثقة في ظل شروط ترهن ممارسات الحريات وحقوق الإنسان، لأن لا تنمية في تقدير هؤلاء الخبراء والمحللين الاقتصاديين في غياب الكرامة واحترام حقوق الإنسان، بل هناك من ذهب أبعد في انتقاد الشكل الخجول في حديث النموذج التنموي عن احترام الحريات الفردية التي أصبحت مطلبا ملحا في ظل التطور المتسارع الذي يعرفه المجتمع المغربي.
ورأى بعض المنتقدين أنه برغم جودة التقرير على اعتبار الكفاءات الوطنية المساهمة في إنتاجه وطريقة إعداده بعد حوار موسع بين مختلف فئات المجتمع، وأيضا باعتابار التطلعات التي يرسمها لمغرب جديد، فإنه لم ينجح في تشريح أسباب النكوص الاقتصادي وتعطيل الريع لأي تقدم اقتصادي، بل اتسم بالتردد والخجل في الذهاب بعيدا في اقتراح الحلول الجريئة للمعضلات الهيكلية في الاقتصاد المغربي، وهو ما من شأنه أن يؤثر على طبيعة التعاقد المفترض أن يحمله التقرير الذي أراده الملك أن يكون ميثاقا وطنيا للنهوض بالمغرب، وخاطب اللجنة بضرورة التحلي بالجرأة في تشخيص العوائق وفي اقتراح الحلول الملائمة للنهوض بأحوال المجتمع المغربي وفق التحديات المطروحة عليه.
* مساهمة منا في إثراء النقاش حول النموذج التنموي: ننشر لاحقا سلسلة حوارات مع خبراء وسياسيين…