بسبب أمطار شهر ماي.. فلاحون يتخوفون من تضرر المحاصيل الزراعية    مستشفى بغزة يعلن مقتل 20 شخصا في قصف إسرائيلي    مصرع 3 أشخاص عقب اشتباكات مسلحة اليوم الأحد بمحيط قصر الرئاسة بالكونغو    المغرب ينتزع سبع ميداليات في بطولة البحر الأبيض المتوسط لرياضات الكيك بوكسينغ بإسطنبول    في سابقة بالسعودية.. تنظيم أول عرض أزياء لملابس السباحة    استعدادا لموسم الصيف.. حملة تستهدف تحرير كورنيش طنجة والشاطئ    القصر الكبير.. أزمة قلبية تُنهي حياة شاب بملعب أشرف حكيمي    مهرجان كناوة بالصويرة من المواعيد الموسيقية الأكثر ترقبا خلال 2024 (موقع أمريكي)    شبيبة الأحرار تستنكر "التشويش" على حكومة أخنوش وتشيد بشجاعتها في مواجهة إخفاقات الماضي    طقس الأحد.. زخات رعدية ورياح بهذه المناطق    نهضة بركان يتحدى الزمالك المصري على اللقب الثالث في تاريخه    فرنسا-المغرب.. توقيع اتفاق حول الإنتاج المشترك والتبادل السينمائيين    في ظرف يومين فقط.. عدد زوار الأبواب المفتوحة للأمن الوطني بأكادير يبلُغ 770.000    مواجهات مسلحة بين مغاربة وأفراد عصابة في إسبانيا    أفغانستان: مصرع 50 شخصا بسبب الفيضانات غرب البلد    منصات دردشة الذكاء الاصطناعي تغذي التحيزات الشخصية للمستخدمين    بعد شجاره مع المدرب.. إشبيلية يزف خبرا سارا للنصيري    نزوح 800 ألف فلسطيني مع تواصل القتال في رفح وبن سلمان وسوليفان يبحثان الوضع في غزة    أوسيك يهزم فيوري ويصبح بطل العالم بلا منازع في "نزال القرن"    لماذا النسيان مفيد؟    إصابة أكثر من 30 تلميذاً في حادث انقلاب حافلة مدرسية    كمال عبد اللطيف: التحديث والحداثة ضرورة.. و"جميع الأمور نسبية"    ناريندرا مودي: عقد من الشعبية والاستقطاب السياسي في الهند    أم كينية تسابق الزمن لإنقاذ ابنها من الإعدام في السعودية    ندوة علمية بمعرض الكتاب تناقش إكراهات وآفاق الشراكة بين الدولة والجمعيات    الزليج ليس مجرد صور.. ثقافة وصناعة وتنظيم "حنطة" وصُناع مَهَرة    رئاسة النيابة العامة تستعرض جهود تعزيز الثقة والجودة في منظومة العدالة    احتفال بمناسبة الذكرى 19 للمبادرة الوطنية للتنمية البشرية بعمالة المضيق الفنيدق    نهضة بركان يختتم تحضيراته لمواجهة الزمالك في غياب هؤلاء    أطعمة غنية بالحديد تناسب الصيف    وزيرة الثقافة الفرنسية تزور الجناح المغربي بمهرجان كان السينمائي    الحسيمة.. تخليد الذكرى 19 لإطلاق المبادرة الوطنية للتنمية البشرية    الأبواب المفتوحة للأمن الوطني بأكادير تستقبل أطفالا من ضحايا زلزال الحوز    مفتشية الأمن الوطني تتسلم 2447 شكاية    الأمثال العامية بتطوان... (602)    كأس الكونفدرالية الإفريقية (إياب النهائي).. نهضة بركان على بعد خطوة واحدة من تتويج قاري جديد    هلال يدين ضغوط السفير الجزائري على الوفود الداعمة لمغربية الصحراء بكاراكاس    فيستي باز والمفارقة الإعلامية    أخنوش يقود الوفد المغربي بمنتدى الماء العالمي بإندونيسيا.. وجائزة الحسن الثاني تخطف الأنظار    هكذا يهدد المغرب هيمنة إسبانيا في هذا المجال    نهائي الكاف.. الموعد والقنوات الناقلة لمباراة إياب نهضة بركان والزمالك    نائب رئيس الموساد سابقا: حرب غزة بلا هدف ونحن نخسرها بشكل لا لبس فيه واقتصادنا ينهار    بدء وصول المساعدات إلى غزة عبر الرصيف الأمريكي المؤقت    فلاحون فرنسيون يهاجمون شاحنات طماطم قادمة من المغرب    التصدير يرفع أسعار الخضر بالمغرب ومهني يوضح    تصفيات كأس العالم.. المنتخب المغربي النسوي لأقل من 17 عاما يفوز برباعية نظيفة على الجزائر ويتأهل للدور الرابع    الدورة الأكاديمية "الشعري والسردي" فاس، 23-24 ماي 2024    مشروع بأزيد من 24 مليون درهم .. هذه تفاصيل الربط السككي بين طنجة وتطوان    شفشاون.. الطبخ المغربي فسيفساء أطباق تعكس ثقافة غنية وهوية متعددة    افتتاح الدورة الثانية عشرة لمهرجان ماطا الذي يحتفي بالفروسية الشعبية بإقليم العرائش    ملتقى الأعمال للهيئة المغربية للمقاولات يبرز فرص التنمية التي يتيحها تنظيم كأس العالم 2030    المغرب يسجل 35 إصابة جديدة ب"كوفيد"    دراسة: توقعات بزيادة متوسط الأعمار بنحو خمس سنوات بحلول 2050    رقاقة بطاطا حارة تقتل مراهقاً أميركياً في إطار تحدٍّ مثير للجدل    الأمثال العامية بتطوان... (600)    السعودية تطلق هوية رقمية للقادمين بتأشيرة الحج    وزارة "الحج والعمرة السعودية" توفر 15 دليلًا توعويًا ب16 لغة لتسهيل رحلة الحجاج    العسري يدخل على خط حملة "تزوجني بدون صداق"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رحلة العائلة المقدسة: المسيح في مصر بين المصادر الدينية القبطية وخيال الرسامين الأجانب

Getty Images لوحة بعنوان "الرحلة إلى مصر" للفنان البريطاني إدوين لونغ عام 1883، تبرز الشخصيات الأساسية وهي القديس يوسف والعذراء مريم تحمل يسوع الطفل يدخلون مصر بعد الفرار من بيت لحم
"إذا ملاك الرب قد ظهر ليوسف في حلم قائلا: قم وخذ الصبي وأمه واهرب إلى مصر، وكن هناك حتى أقول لك. لأن هيرودس مزمع أن يطلب الصبي ليهلكه. فقام وأخذ الصبي ليلا وانصرف إلى مصر" (مت 2: 13-23)، هذه سطور موجزة دون تفاصيل، ذكرها الكتاب المقدس عن رحلة العائلة المقدسة إلى أرض مصر، وهي رحلة تجاوزت الحيز الديني والتاريخي، لتلهم الرسامين في الشرق والغرب، فأثمرت عن إبداعات فنية لا حصر لها على اختلاف المدارس الفكرية وعصورها.
وتحتفل الكنيسة القبطية الأرثوذكسية سنويا بتذكار رحلة العائلة المقدسة إلى أرض وادي النيل، التي أصبحت جزءا لا يتجزأ من تاريخ مصر وتراثها، في 24 بشنس (وفقا للتقويم القبطي) أول يونيو/حزيران، كما يذكر السنكسار القبطي، وهو الكتاب الذي يضم سير القديسين وتواريخ الأعياد والأصوام، مرتبة بحسب التقويم القبطي.
وعندما يُذكر موضوع رحلة العائلة المقدسة في مصر، يتبادر للذهن على الفور ذلك المشهد المألوف للرحلة في الأعمال الفنية الغربية، المكوّن في أغلب الأحيان من شيخ مترجل، القديس يوسف النجار، عليه ملامح الحزن والحيرة من مصير مجهول، ترافقه بتواضع وهدوء فتاة جميلة، القديسة العذراء مريم، تمتطي حماراً وتحتضن بين ذراعيها وهي متعبة رضيعها، يسوع المسيح، في صحراء قاحلة هربا من بطش الملك هيرودس الكبير، الذي كان يريد قتل المسيح في مدينة بيت لحم ضمن مذبحة الأطفال الذكور دون سن عامين، والتي عُرفت باسم "مذبحة الأبرياء".
Getty Images جدارية "الرحلة إلى مصر" في بازيليكا القديس أوغسطينوس في روما للفنان الإيطالي بيترو جاجلياردي من القرن 19، وتبرز العذراء تحمل المسيح سيرا على الأقدام في الرحلة وتظللها الملائكة في بيئة صعبة التضاريس
المسيح في مصر
تحدث الكتاب المقدس عن القصة باقتضاب شديد من خلال أمر سماوي تلقاه القديس يوسف النجار في حلم تحقيقا لنبوءات في العهد القديم، كما يشير السنكسار القبطي، في سفر أشعياء (19 :1) "وحي من جهة مصر: هوذا الرب راكب على سحابة سريعة وقادم إلى مصر، فترتجف أوثان مصر من وجهه، ويذوب قلب مصر داخلها"، وفي سفر هوشع (1:11) "من مصر دعوت ابني".
بذل كثيرون ممن كتبوا وأرخوا للرحلة جهودا دؤوبة استعانوا فيها بمصادر تاريخية أو مخطوطات محفوظة في الأديرة المصرية أو المكتبات في شتى أرجاء العالم، في مسعى لرسم صورة تفصيلية أقرب إلى ما حدث بالفعل، كان القاسم المشترك بينها تحديد أماكن حلت بها العائلة المقدسة في مصر، بُنيت فيها كنائس وأديرة تاريخية تذكارا لمحطات الزيارة، وفقا لما ذكرته الميامر، (جمع ميمر، كلمة سريانية بمعنى سيرة قديس)، التي تحدثت تفصيلا عن الرحلة.
* الجذور التاريخية لموالد الأولياء والقديسين في مصر
* الأناجيل باللهجات الخليجية: مشروع دراسي مثير للفضول
وحدد المؤرخون المواقع الرئيسية التي حل بها المسيح طفلا مع أمه القديسة العذراء مريم في مصر، وكانت بدايتها، وفقا لموسوعة "من تراث القبط"، من مدينة رينوكلورا القديمة (العريش حاليا) ثم بلوزيوم (الفرما حاليا)، وهي مشتقة من الكلمة القبطية فيرومي، ثم بوباستيس (تل بسطة حاليا).
Getty Images لوحة "الرحلة إلى مصر: مع العائلة المقدسة في قارب في النيل" للفنان الإيطالي بيترو موناكو منتصف القرن 18
عبرت العائلة المقدسة فرع دمياط للنيل إلى بلدة سخا، ومنها عبرت فرع رشيد إلى وادي النطرون، فإلى قرية المطرية، شرقي القاهرة حاليا، ثم حارة زويلة، التي تضم ديرا من أقدم أديرة الراهبات التابعة للكنيسة القبطية الأرثوذكسية، ثم إلى بابليون (منطقة مصر القديمة حاليا)، وهناك مكثت العائلة المقدسة في كهف أعيد التعرف عليه بعد ذلك، وأقيمت عليه كنيسة القديس سرجيوس (أبو سرجة) في القرن الرابع الميلادي.
استقلت العائلة المقدسة قاربا من جنوبي منطقة مصر القديمة (حي المعادي حاليا) إلى صعيد مصر مارة بالبهنسا ثم جبل الطير (قبالة مدينة سمالوط) ومنها إلى الأشمونين (هيروموبوليس البطلمية) ثم ديروط فالقوصية حتى جبل قسقام، حيث شُيّد فيما بعد في هذا المكان دير العذراء مريم فوق أول مذبح حجري في المسيحية ويسمى "دير المحرق"، ووفقا للمصادر القبطية، أقامت العائلة المقدسة هناك ما يزيد على ستة أشهر.
* أسرار جعلت من أوبرا عايدة أيقونة عالمية
* "ألف ليلة وليلة" حكايات ترويها لوحات نادرة لأسرة محمد علي
اختلف المؤرخون في تحديد المدة التي قضتها العائلة المقدسة في مصر بدقة، بيد أن التقليد القبطي يحددها بمدة تزيد على ثلاث سنوات.
ويقول جرجس داود جرجس، في دراسته "أضواء جديدة على رحلة العائلة المقدسة"، المنشورة ضمن ملف خاص عن هروب العائلة المقدسة إلى أرض مصر ضمن أسبوع القبطيات التاسع عام 1999، إن البابا ثاؤفيلس، ال 23 بطريرك الإسكندية (385-412 م)، يقرر في ميمره أن "الرحلة منذ الخروج من بيت لحم وحتى العودة إلى الناصرة هي ثلاث سنوات وستة أشهر، الأمر الذي يتفق مع تقدير بقاء العائلة المقدسة في مصر بمدة تناهز العامين، وقد انصرف الباقي في رحلتي المجيء والعودة".
Getty Images لوحة للفنان الفرنسي جان ليون جيروم عام 1890، عُثر عليها ضمن مجموعة متحف جورج غاريت، وهنا يضيف الرسام عنصر الملاك الذي يرشد العائلة المقدسة في صحراء مصر القاحلة
بيد أن دراسة تاريخية حديثة لبردية عن طفولة المسيح في مصر حددت الفترة ب 3 سنوات و 11 شهرا، وهي بردية مكتوبة باللغة القبطية الصعيدية (اللهجة الفيومية)، يعود زمن كتابتها إلى القرن الرابع الميلادي، عُثر عليها في الفيوم، ومحفوظة في ألمانيا، ترجمت نصها إلى اللغة القبطية (اللهجة البحيرية) تاسوني أنجيل باسيلي، ونشُرت ترجمة عربية للنص في دراسة خاصة بعنوان "تحقيق البردية التي حسمت الفترة التي قضاها الرب يسوع في مصر مع دراسات أخرى"، من إعداد الأنبا ديمتريوس، أسقف ملوي وأنصا والأشمونين.
وبناء على هذه البردية رجح الباحث حنا جاب الله أبو يوسف، في دراسته الموجزة "المسيح في مصر (قراءات في عيد دخول المسيح أرض مصر)" أن يكون عمر المسيح خلال الرحلة كالآتي: "كان عند دخوله مصر ووصوله إلى المطرية سنة و8 شهور و7 أيام حيث ولد في بيت لحم ... فيكون عمره له المجد وقت خروجه من مصر 5 سنوات و7 شهور و7 أيام".
Huw Evans picture agency لوحة "الرحلة إلى مصر وسقوط الأوثان" للفنان الفرنسي جان-جام لاغرنييه عام 1775، عُثر عليها ضمن مجموعة رين بمتحف الفنون الجميلة بباريس، واللوحة تمزيج بين الرحلة ونبوءة أشعياء عن سقوط الأوثان
وعن رحلة عودة ومغادرة العائلة المقدسة أرض مصر تقول "دائرة المعارف القبطية" الإنجليزية، في مادة "الهروب إلى مصر"، إن العائلة ربما سلكت في طريق العودة، على أرجح التقديرات، "نفس المسار الذي سلكته في رحلة المجيء إلى مصر"، بعد أن تلقى القديس يوسف أمرا إلهيا سجله إنجيل القديس متى نصه: "فلما مات هيرودس، إذا ملاك الرب قد ظهر في حلم ليوسف في مصر، قائلا قم وخذ الصبي وأمه واذهب إلى أرض إسرائيل، لأنه قد مات الذين كانوا يطلبون نفس الصبي" (مت 2 : 19-20).
بيد أن البابا شنودة الثالث، بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية السابق، يرى في مقاله "رحلة العائلة المقدسة في مصر"، المنشور في كتاب مجلة معهد الدراسات القبطية، المجلد السابع عام 2008، أنه لم يكن هناك داع في العودة إلى المرور على أماكن استدعتها أمور أخرى في المجيء.
ويفسر قائلا: "فمثلا مرت الرحلة على (مناطق) بابليون ومسطرد وبلبيس ولم تكن محتاجة أن تدخل في الدلتا إلى سمنود، أو تتجه غربا إلى سخا، أو تنزل جنوبا إلى وادي النطرون. وإنما من الممكن أن تتجه من بلبيس مباشرة إلى الفرما والعريش. كان الطريق في العودة آمنا بعد موت هيرودس".
Getty Images لوحة "العودة من مصر" للفنان الإيطالي فرانشيسكو بريزيو في القرن ال 16، ويظهر المسيح الطفل يسير على الأقدام ممسكا بيد العذراء مريم
مصادر قبطية لرحلة العائلة المقدسة
يرصد المؤرخون مصادر قبطية عديدة للرحلة أقدمها وأبرز تلك المصادر هو ميمر البابا ثاؤفيلس، وتُرجم من اللغة القبطية إلى العربية، كما تُرجم إلى السريانية والحبشية، وهو في الأصل موعظة عن كنيسة العائلة المقدسة في جبل قسقام.
وثاني أبرز تلك المصادر ما كتبه الأنبا زخارياس، أسقف مدينة سخا، نهاية القرن السابع وبداية القرن الثامن، إذ كتب ميمره عن العائلة المقدسة في مصر باللغة القبطية، وفُقد الأصل القبطي وظلت الترجمة العربية التي ينقل منها الباحثون، وله نسخة منشورة في القاهرة عام 1902، ضمن كتاب يضم العظات أو الميامر المريمية، المعروف باسم "اللآلئ السنية في الميامر والعجائب المريمية".
Getty Images لوحة "العائلة المقدسة تعبر النيل أثناء رحلتها إلى مصر يرافقها ملائكة" للفنان الإيطالي فرانشيسكو فونتيباسو القرن ال 18
ويقول الأب غبرائيل غامبيرارديني الفرنسيسكاني، في دراسته "إكرام المصريين للعذراء مريم من القرن السابع إلى القرن العاشر للميلاد"، إن السياق الذي تتبعه الأنبا زخارياس لا يختلف كثيرا عن نظيره لدى الأنبا ثاؤفيلس الإسكندري حول رؤياه عن لجوء العائلة المقدسة إلى مصر.
ويضيف: "الاختلاف الواضح بين العظتين هو ما يلي: في حين أن الأنبا ثاؤفيلس يذكر مختلف المناطق المصرية التي حلت فيها العائلة المقدسة بلمحة عابرة ثم يتوقف طويلا عند جبل قسقام، آخر مقاصد الرحلة، نجد أن الأنبا زخارياس يخصص لمحة موجزة لجبل قسقام ويتوسع في ذكر تفاصيل المناطق الأخرى والعجائب التي حدثت في كل منها".
Getty Images أيقونة على خشب مصبوغ تمثل رحلة العائلة المقدسة إلى مصر، تعود إلى القرن ال 18، بالمتحف القبطي في القاهرة
ثالث المصادر هو ما يعرف بميمر الأنبا قرياقوس، أسقف البهنسا، الذي عاش على الأرجح في القرن الثامن الميلادي، وتشير الدراسات إلى أنه كتب ميمر عن حلول السيدة مريم العذراء وابنها المسيح بجبل القوصية، المعروف حاليا بالدير المحرق، وميمر آخر عن مجيء العائلة المقدسة إلى مصر وإقامتها في منطقة شرقي البهنسا (هي اليوم دير الجرنوس في مغاغا بمحافظة المنيا).
كما ترصد الدراسات التاريخية القبطية مصادر أخرى لاحقة تحدثت عن رحلة العائلة المقدسة في مصر، من بينها ما كتبه موهوب بن منصور بن مفرج السكندري، وهو أحد كتبة ومكملي كتاب "سير البيعة المقدسة"، الذي يعرف باسم "تاريخ البطاركة"، وذكر في خاتمة سيرة البابا كيرلس الثاني ال 67 (1078-1092) قائمة بآثار العائلة المقدسة التي زارها في أيامه.
والمصدر الثاني لأبو المكارم سعد الله بن جرجس بن مسعود، وهو مؤرخ عاش في النصف الثاني من القرن 12، بحسب دائرة المعارف القبطية، وله كتاب مهم عن "الكنائس والأديرة"، تكلم فيه عن رحلة العائلة المقدسة في مصر.
Getty Images رسم توضيحي ضمن أعمال تناولت حياة المسيح للكاتبة لويز سيمور هوفتون عام 1890، والصورة تبرز بوضوح رحلة العائلة المقدسة أثناء مروروها عبر حقول مصر وتظهر في الخلفية أهرامات الجيزة
رحلة العائلة المقدسة في لوحات الغرب
يرصد المطّلع على تاريخ الحركات الفنية وموضوعاتها في المجتمعات المسيحية الكلاسيكية، فروقا واضحة بين المنهج الذي اتبعه رسامو الغرب مقارنة بنظرائهم في الشرق، وتحديدا في الأعمال التصويرية التي استمد الفنانون موضوعاتها من حياة يسوع المسيح وقصص الكتاب المقدس عموما.
ركز المنهج الغربي على مخاطبة العقل بوصفه يرصد الواقع المحيط به ويسعى لمحاكاته ونقله من خلال تصوير نص أو منقول شعبي، لذا برز ميل الكنيسة الغربية إلى تصوير مشاهد منصوص عليها في الغالب، ذُكرت عن حياة المسيح أو القديسين، وتقديمها بظلال تحمل ملامح البيئة الغربية، التي لا تعبر بالضرورة عن البُعد الشرقي لموقع الأحداث وملامح صنّاع أحداثها.
* النيل: كيف كان المصريون القدماء يقدسون النهر "الخالد"؟
* كيف أبرزت فنون التجميل سحر وجاذبية المرأة المصرية القديمة؟
وعلى النقيض كانت الكنيسة الشرقية أميل إلى إضفاء طابع الرمزية للحدث، تصنع من تفاصيله لوحة تحمل الكثير من المعاني الروحية، التي تتعدى حدود المشهد محل التناول الفني لتوجيه رسالة إيمانية، لذا تفاوتت رؤية المنهجين في أن الشرق تعامل مع فن التصوير من منطلق مخاطبة "الوجدان" بصريا، بينما الغرب تعامل مع فن التصوير كمصدر تعليم من منطلق مخاطبة "العقل" بصريا.
Getty Images جدارية "الرحلة إلى مصر" للفنان الإيطالي غيوتو في القرن ال 14 في كنيسة سكروفيني في بادوفا بإيطاليا
وإن كان يصعب من الناحية العملية حصر جميع الأعمال الفنية التي استلهمت موضوع رحلة العائلة المقدسة في مصر، إلا أن إيفلين جورج أندراوس، ترصد في دراستها "تصاوير رحلة العائلة المقدسة في الفنون الغربية والشرقية وتأثيرها بالنصوص الأبوكريفية" فروقا فنية داخل نطاق زمني يستعرض نماذج من (القرن العاشر حتى القرن الثامن عشر) مع دراسة بعض الملامح المشتركة وتأثير التقاليد والكتابات على رسم لوحات الرحلة.
وتقول إيفلين إنه بالنسبة لوضع العذراء والطفل يسوع "فقد اتخذ عدة أوضاع من بينها جلوسها يمين السيد المسيح ... وذلك في مجموعة كبادوكية كنموذج غربي وفي الفن الحبشي والقبطي كنماذج شرقية. أما بالنسبة لعكس هذا الوضع فقد وجد في بعض النماذج الغربية كمناظر الفن الحديث في القرن السابع عشر، وأيضا في بعض النماذج الشرقية كما في أرمينيا".
Getty Images جدارية لفنان مجهول على الطراز ما قبل الرومانسكي حوالي 831-849
وتضيف: "كذلك اتُخذ وضع آخر وهو حمل الطفل يسوع داخل رداء السيدة العذراء ... كما وُجد في بعض النماذج القليلة منظر لسير السيدة العذراء على أقدامها، إما أنها تحمل السيد المسيح الطفل كما في مناظر الفن الحديث في القرن السابع عشر في أرمينيا، أو أن السيد المسيح يسير بجانبها كما في الفن الحبشي".
وعن وضع القديس يوسف النجار، تقول إيفلين: "يظهر في النماذج الغربية في المؤخرة، أما في النماذج الشرقية فغالبا ما يظهر في المقدمة، مع ظهور وضع جديد وغريب وهو حمله للسيد المسيح على منكبيه بصورة نعتادها في الأحياء الشعبية أو الريف المصري، كما في نموذج بالرمو ونموذح المتحف القبطي".
Getty Images لوحة الرحلة إلى مصر للفنان الإيطالي برناردينو بوتينوني، حوالي عام 1485
إن حقيقة معرفتنا لقصة الرحلة وذكراها الدائم مقارنة بقصص الكتاب المقدس الأخرى، ربما يرجع إلى حد ما إلى أن القصة ألهمت فنانين استوعبوا قصة "الهروب إلى مصر" بتأمل ملفت للنظر، استخدموا فيها جميع الأساليب الفنية المتاحة لديهم لتسجيلها على جداريات أو لوحات فنية عديدة على مر العصور.
وتؤكد المؤرخة الفرنسية لوسيت فالنسي، في دراستها "الهروب إلى مصر: حكايات من الشرق والغرب" أن هذه اللوحات "أصبحت ليست لتقوية الذاكرة فحسب، بل صارت بالأحرى أيقونات، تلخص لنا تتابع الأحداث، تبدأ بتهديد هيرودس و(مذبحة الأطفال الأبرياء) أو برؤيا يوسف (نادرا ما صُوّر هذا الموضوع)، وتنتهي برؤيا يوسف الثانية والعودة".
* المومياوات الملكية: رحلة ملوك مصر القديمة من الموت إلى "الخلود"
وتضيف فالنسي: "الصورة التي تمثل العائلة المقدسة، والمكونة من الحمار وعلى ظهره العذراء، أو العذراء والطفل (يسوع) معا، تروي لنا القصة كلها. إن هذه الشخصيات وأدوارها في القصة تشكل الرمز بالنسبة لتراث بأكمله".
Getty Images جدارية الرحلة إلى مصر للفنان افيطالي تيرامو بياجيو بكنيسة سيدة النعمة في شيافاري بإيطاليا، من أعمال القرن ال16، تبرز غلبة سمات البيئة الغربية على عناصر الصورة التي لا تعبر عن البُعد الشرقي لموقع الأحداث وملامح أشخاصها
الواقع والخيال في تصوير الرحلة
جرت العادة في العصور الوسطى على رسم صور في كتب الشعائر الدينية جنبا إلى جنب مع النصوص الكتابية، بأسلوب اعتمد على نقل المعنى حرفيا وتصويره برسوم ترادف جزء النص المطروح، إنها الطريقة التي أطلق عليها فرانسيس ييتس في دراسته "فن الذاكرة"، التي ترجمها إلى الفرنسية دانيل أراس، مصطلح "دار الذاكرة".
ووفقا لييتس فإن عمل الذاكرة في الثقافات التي يكون فيها المخطوط نادرا أو لا وجود له، هو في حد ذاته، يمثل بُعدا أخلاقيا ودينيا ... لذا جرت العادة في القرون الوسطى على ربط الفكر بالصورة، فكان من الضروري وضع بنية تحوي عدة أجزاء، يشغل كل جزء منها صورة، لابد أن تكون مماثلة للفكرة أو الحجة المطروحة.
Getty Images جدارية تجمع بين مذبحة الأبرياء والهروب إلى مصر للفنان الإيطالي فرانشيسكو دا ميلانو، من أعمال القرن ال 16 بكاتدرائية كونجليانو بفينيتو في إيطاليا
تنوعت الأعمال الفنية لرحلة العائلة المقدسة في مصر، منها ما نُقش على تيجان أعمدة، بطريقة تدفع المشاهد إلى الدوران حولها وكأنه يقلب ببصره صفحات كتاب، ومنها ما رُسم في لوحات باستخدام قطع الفسيفساء أو رسوم جدارية مائية تحكي وقائع الرحلة، التي تدفع الرسامين إلى تجسيدها بمغزاها اللاهوتي والتربوي والفني.
* تاريخ مصر: قصة الضابط الفرنسي المجهول الذي كان وراء اكتشاف حجر رشيد
وتقول فالنسي، إن موضوع الرحلة "في جميع الأحوال عبارة عن مشي وحركة، وتنقلات على طريق ... إن القراءة الأمينة المطابقة لإنجيل متى، أدت في البداية إلى تصوير العائلة المقدسة ترحل على الأقدام، قبل إدخال الحمار مطية للعذراء. وكما لخص إنجيل متى محنة الهروب في رحلة ذهاب ورحلة إياب أملاهما الملاك على القديس يوسف، نجد أن فن الإيقونوغرافية في القرون الوسطى قد التزم بهذه الخطة".
Getty Images لوحة الرحلة إلى مصر للفنان الإيطالي جيوليانو تراباليسي أواخر القرن ال 18، وهنا يبرز الرسام وضعا نادرا للقديس يوسف يحمل المسيح وليس العذراء كما هو مألوف
أطلق الفنان العنان لخياله ربما لإضفاء بصمة فنية على عمله بما يخدم تفاصيل القصة، وأحيانا أضاف شخصيات وقديسين في عصور لاحقة أشركهم في حركة المشهد دون الإخلال بمضمون القصة الكتابية والهدف منها.
وبرز ذلك في مواجهة قضية تحطيم الأيقونات خلال فترة تُعرف باسم "الإصلاح البروتستنتي" في القرن السادس عشر، إذ دافعت الكنيسة الكاثوليكية عن مشروعية الصور واحترامها، وبرر عالم اللاهوت الأب يوان مولانوس (1585-1533) ، على سبيل المثال، وجود الحمار في رسوم لوحات رحلة العائلة المقدسة في مصر، وذلك في رسالة بعنوان "الصور المقدسة" جاء في نصها، نقلا عن دراسة فالنسي:
"استطاع الفنان اعتبارا من تكهنات محتملة، تعويض ما لم يذكره الكاتب الإنجيلي لتمثيل الهروب إلى مصر بالصورة. إذ من المحتمل هو عدم تمكن العذراء ضعيفة البنية التي تحمل الطفل يسوع من مواصلة الرحلة الطويلة سيرا على الأقدام. لذا عمد الرسامون إلى منحها مطية يستخدمها الفقراء، دابة لا تقفز ولا تعدو، وعادة لا تتعب نفسها أو من تحمله".
Getty Images لوحة للفنان الإيطالي جونتيل دا فابريانو عام 1423 ويمزج الرسام شخصيات العائلة المقدسة مع اثنين من حكماء الشرق يقدمون الهدايا
وتقول إيفلين في هذا الصدد: "استُخدم الحمار في بعض النماذج، والحصان وأنواع من البغال في بعضها الآخر، وربما أن استخدام هذه الدواب في تصاوير الرحلة فيه نوع من الرمز، حيث أن الحمار مثلا استُخدم بكثرة كدابة في قصة حياة السيد المسيح مثل ميلاده، كما ذكرت الكتابات الأبوكريفية أو في دخوله إلى أورشليم".
وتضيف: "أما الحصان فقد كان العظماء والقادة هم أكثر الناس استخداما له، لذا فقد صور الفنان هذا النوع من الدواب ليعبر عن عظمة وبهاء الجالس فوق الدابة (العذراء والمسيح الطفل) ... لأن حيوان كالحمار لا يحتمل مثل هذه المسافة الكبيرة وذلك إذا خلا الموضوع من الرمزية".
Getty Images لوحة رحلة العائلة المقدسة إلى أرض مصر للفنان الفرنسي جان فرانسوا جيغو عام 1859
وعن رحلة العودة من مصر إلى الناصرة، تقول فالنسي: "يبدو أن موضوع العودة من مصر قد حظي بقدر أكبر من التكرار والانتشار في الغرب، إذ يظهر الحدث على اللوحات الجدارية وفي معظم الأحيان في زخارف المخطوطات. وتحتذي رسوماتها بالعديد من النماذج، إذ نرى في إحداها يوسف واقفا يحمل الطفل يسوع، بينما في رحلة الذهاب إلى مصر كنا نرى العذراء في هذا الوضع".
Getty Images لوحة لرحلة العودة ضمن مجموعة بلدية إيميليا رومانيا للفن القديم والحديث في إيطاليا، وهنا يظهر المسيح يسير على قدميه وقد أضاف الفنان للمشهد القديسة كاترين والقديس فرنسيس الأسيزي
وتضيف فالنسي :"في هذا النموذج تتجه المجموعة نحو صرح يرمز إلى مدينة الناصرة، وتبرز الصورة مرحلة جديدة في حياة يسوع الطفل، إذ لم يعد الطفل حديث الولادة، المهدد بالموت، والمحتمي في حضن أمه، بل هو في مرحلة عمرية مختلفة، صار صبيا يجثم على كتفي يوسف، أو يمشي بخطوات ثابتة، كما يظهر مثال آخر للعذراء مريم آخذة بيد الطفل".
ظلت رحلة العائلة المقدسة في مصر، طوال قرون عديدة، مصدر إلهام للرسامين وموضوعا مفضلا للتصوير الفني بمختلف أنواعه، بل أصبحت نقطة التلاقي بين الشرق والغرب، انطلق منها الفنان وسجل الكثير من المعاني الروحية بطريقة فنية، كما لم يدخر جهدا في تطويع موضوعها ورموزها لتصبح مرآة تعكس بيئته وعصره بطريقة دينية، تكشف في ذات الوقت عن بحث الإنسان دوما عما هو مرئي ومحسوس في استيعاب النصوص وأسرارها المقدسة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.