بلا مواربة كفانا تبخيسا للسياسة! عبد الإله حمدوشي نشر في 20 أغسطس 2025 الساعة 16 و 13 دقيقة كيف تحول المنتخبون إلى حضور رمزي باهت، فيما جوهر السلطة يدار بقرارات مركزية تصدر من الإدارة وتفرض على الجميع؟ ثم هل يمكن لبرامج مفروضة من فوق أن تلامس حاجيات ساكنة القرى الجبلية التي تعاني من ندرة الماء الصالح للشرب، ومن غياب المسالك الطرقية والمراكز الصحية؟ عبد الإله حمدوشي [email protected]
من المؤسف أن نصل، بعد مرور أكثر من عقد على دستور 2011، إلى محطة ينكمش فيها منسوب الثقة في السياسة والسياسيين، وتستعيد وزارة الداخلية زمام المبادرة في تدبير الشأن العام، في مشهد يذكرنا بمرحلة سابقة كان فيها المركز هو قطب الرحى ، وكأن مسار الجهوية المتقدمة واللاتمركز الإداري لم يكن سوى حلم جميل عابر من قصة وردية لم يعد يأبه بتحقيقها أحد.
مناسبة القول هو ما صدر عن وزير الداخلية من توجيهات إلى الولاة والعمال من أجل إعداد "جيل جديد من برامج التنمية الترابية المندمجة في أقرب الآجال"، فيما يشبه تراميا على اختصاصات المجالس المنتخبة. فعلى سبيل المثال، تنص المادة 83 من القانون التنظيمي 111.14 المتعلق بمجالس الجهات على أنه "يضع مجلس الجهة تحت إشراف رئيس مجلسها… برنامج التنمية الجهوية وتعمل على تتبعه وتحيينه وتقييمه"، وليس وزارة الداخلية!؟
لذلك، حينما تسهر الجماعات الترابية على إعداد برامج تنموية محلية وجهوية وفق مقاربات تشاركية تستحضر حاجيات الساكنة وتطلعاتها، ثم تفاجأ بأن وزارة الداخلية تعيد رسم الخطط والخرائط وفق منطقها الخاص، فإن الأمر لا يتعلق بتنسيق إداري عادي، وإنما هو مساهمة في إفراغ المؤسسات المنتخبة من مضمونها الحقيقي وعودة صريحة إلى منطق الدولة المركزية التي ترى وتعرف وتقرر كل شيء.
إن الذين يحرصون على تقديم المنتخبين كزينة إضافية في المشهد العام، ويسعون باستمرار إلى إضعاف الأحزاب وإفراغها من مضمونها، يتجاهلون حقيقة أن الدستور هو تعاقد سياسي واجتماعي ملزم، يكرس الخيار الديمقراطي باعتباره ثابتا من ثوابت الدولة المغربية، ويضع الجهة في قلب العملية التنموية، ويمنح المجالس المنتخبة صلاحيات تقريرية كاملة.
لكن السؤال المقلق هنا هو: كيف تحول المنتخبون إلى حضور رمزي باهت، فيما جوهر السلطة يدار بقرارات مركزية تصدر من الإدارة وتفرض على الجميع؟ ثم هل يمكن لبرامج مفروضة من فوق أن تلامس حاجيات ساكنة القرى الجبلية التي تعاني من ندرة الماء الصالح للشرب، ومن غياب المسالك الطرقية والمراكز الصحية؟
في هذا الإطار، وجب الانتباه إلى أن بعض الحملات والدعوات والتي يروج لها بعض ممن خبروا حرفة تسفيه عمل الأحزاب وتبخيس أدوار المنتخبين، من خلال المطالبة بتسليم مفاتيح تدبير الشأن العام للتكنوقراط، الذي يعرف الجميع أن عديد المشاكل والاختلالات التي يعانيها المغرب اليوم، يقف وراءها بالضبط التدبير التكنوقراطي الخالي من روح السياسة والمفتقر للنفس الديمقراطي المؤطر بتعاقد تنتجه صناديق الاقتراع ويخضع لسلطة الرقابة الشعبية.
فقد أظهرت التجربة أن التكنوقراط أنفسهم أشرفوا على برامج ضخمة مثل "تقليص الفوارق المجالية والاجتماعية"، ورغم ذلك ظلت الفوارق صارخة، واستمرت مساحات واسعة من المغرب في مواجهة الفقر والهشاشة والتهميش. وهو نبه إليه جلالة الملك خلال خطاب العرش لسنة 2025 بالقول: "غير أنه مع الأسف، ما تزال هناك بعض المناطق، لاسيما بالعالم القروي، تعاني من مظاهر الفقر والهشاشة، بسبب النقص في البنيات التحتية والمرافق الأساسية. وهو ما لا يتماشى مع تصورنا لمغرب اليوم، ولا مع جهودنا في سبيل تعزيز التنمية الاجتماعية، وتحقيق العدالة المجالية. فلا مكان اليوم ولا غدا، لمغرب يسير بسرعتين".
هذا الخطاب الذي يبدو أن الحكومة لم تستوعبه جيدا، والتي عوض أن تضع نفسها في موقع الشريك والضامن لتكافؤ الفرص بين الجهات والقرى والحواضر، اختارت ترك الحبل في يد الإدارة وأذرعها الترابية. فمنذ متى كانت التنمية المملاة من فوق قادرة على الإجابة عن حاجيات ساكنة قرى معزولة تعاني من نقص في كل شيء؟
ما لا تفهمه هذه الحكومة ومن يدور في فلكها هو أن الديمقراطية هي الضمانة الوحيدة لتحقيق العدالة المجالية، ولإرساء قواعد المحاسبة الحقيقية، ولبلورة مسار تنموي منطلق من حاجيات المجتمع.
كما أن تهميش الأحزاب والمنتخبين يساوي في العمق تهميشا لمناعة الدولة نفسها، لأن دولة بلا حياة سياسية وبلا مؤسسات منتخبة تتمتع بالمصداقية والفعالية المطلوبة للاستماع والتواصل مع المواطنين وتلبية احتياجاتهم، تفتح المجال أمام من يملكون المال والريع وشبكات النفوذ، والأخطر هو توفير الأسباب للتوتر الاجتماعي وتغذية المطالب الشعبية خارج أطرها المؤسساتية الشرعية.
إن دفاعنا اليوم عن المنتخبين، هو دفاع عن ثوابت الدولة المغربية، باعتبار الاختيار الديمقراطي رابع ثابت يأتي بعد الدين الإسلامي والمؤسسة الملكية والوحدة الترابية. والديمقراطية ليست مجرد شعار اختاره المغاربة لغرض دعائي، بل هي آلية اعتمدوها لممارسة العمل السياسي والتنافس للوصول إلى السلطة عبر صناديق الإقتراع، كما هو متعارف عليه عالميا.
فالمنتخب في الدول الديمقراطية نتاج عملية ديمقراطية اختاره من خلالها المواطن لخدمته، ثم محاسبته، إما بتجديد الثقة فيه مرة أخرى، أو بتغييبه عن المؤسسات واستبداله بمنتخب آخر.