أيام قليلة على انتهاء إحصاء الأشخاص الذين يمكن استدعاؤهم لتشكيل فوج المجندين .. شباب أمام فرصة جديدة للاستفادة من تكوين متميز يفتح لهم آفاقا مهنية واعدة    ساكنة فاس تعاقب بنكيران وتمنح أصواتها لحزب الأحرار في الانتخابات الجزئية    أسعار الذهب تواصل الانخفاض    إساءات عنصرية ضد نجم المنتخب المغربي    ظهور حيوان "الوشق" المفترس بغابة السلوقية يثير استنفار سلطات طنجة    توقيف 5 أشخاص بأكادير يشتبه تورطهم في الاتجار في المخدرات    طنجة .. ضبط مشتبه به بتهمة قرصنة المكالمات الهاتفية والتلاعب بالبيانات الرقمية    الموت يفجع الفنانة شيماء عبد العزيز    النفط يرتفع بعد انخفاض غير متوقع في مخزونات الخام الأمريكية    أساتذة جامعة ابن زهر يرفضون إجراءات وزارة التعليم العالي في حق طلبة الطب    المعرض الدولي للفلاحة بالمغرب ( 2024 ) : انفتاح سوق الاتحاد الأوروبي على استوراد العسل المغربي    صدور رواية "أحاسيس وصور" للكاتب المغربي مصطفى إسماعيلي    "الراصد الوطني للنشر والقراءة" في ضيافة ثانوية الشريف الرضي الإعدادية بعرباوة    للمرة الثانية فيومين.. الخارجية الروسية استقبلات سفير الدزاير وهدرو على نزاع الصحرا    هل تحول الاتحاد المغاربي إلى اتحاد جزائري؟    شركة Foundever تفتتح منشأة جديدة في الرباط    طقس الأربعاء... أجواء حارة نسبيا في عدد من الجهات    إقليم فجيج/تنمية بشرية.. برمجة 49 مشروعا بأزيد من 32 مليون درهم برسم 2024    تفكيك عصابة فمراكش متخصصة فكريساج الموطورات    بنموسى…جميع الأقسام الدراسية سيتم تجهيزها مستقبلا بركن للمطالعة    نوفلار تطلق رسميا خطها الجديد الدار البيضاء – تونس    تنامي الغضب الطلابي داخل أمريكا ضد "حرب الإبادة" في فلسطين ودعوات لإستدعاء الحرس الوطني للتصدي للمتظاهرين    "إل إسبانيول": أجهزة الأمن البلجيكية غادي تعين ضابط اتصال استخباراتي ف المغرب وها علاش    جمعية أصدقاء محمد الجم للمسرح تكشف عن تفاصيل الدورة الثالثة للمهرجان الوطني لمسرح الشباب    تخفيضات استثنائية.. العربية للطيران تعلن عن تذاكر تبدأ من 259 درهما على 150 ألف مقعد    إسرائيل تكثف ضرباتها في غزة وتأمر بعمليات إخلاء جديدة بشمال القطاع    ما هي القضايا القانونية التي يواجهها ترامب؟    الكونغرس يقر مساعدات لأوكرانيا وإسرائيل    "نسب الطفل بين أسباب التخلي وهشاشة التبني"    رئيس الوزراء الأسترالي يصف إيلون ماسك ب "الملياردير المتغطرس"    ما حقيقة المقابر الجماعية في مجمع ناصر الطبي؟    بطولة انجلترا: أرسنال ينفرد مؤقتا بالصدارة بعد فوز كبير على تشلسي 5-0    كأس إيطاليا: يوفنتوس يتأهل للمباراة النهائية على حساب لاتسيو    توفيق الجوهري يدخل عالم الأستاذية في مجال تدريب الامن الخاص    نانسي بيلوسي وصفات نتنياهو بالعقبة للي واقفة قدام السلام.. وطلبات منو الاستقالة    الصين تدرس مراجعة قانون مكافحة غسيل الأموال    الصين: أكثر من 1,12 مليار شخص يتوفرون على شهادات إلكترونية للتأمين الصحي    الولايات المتحدة.. مصرع شخصين إثر تحطم طائرة شحن في ألاسكا    إيلا كذب عليك عرفي راكي خايبة.. دراسة: الدراري مكيكذبوش مللي كي كونو يهضرو مع بنت زوينة        لقاء يستحضر مسار السوسيولوجي محمد جسوس من القرويين إلى "برينستون"    موقف بركان قوي واتحاد العاصمة ضعيف وها الأحكام اللي يقدر يصدرها الكاف فقضية الغاء الماتش بسبب حماق الكابرانات    "الأحرار" يحسم الاقتراع الجزئي بفاس    رحيمي والعين قصاو بونو والهلال وتأهلو لفينال شومبيونزليگ    لومبارت كوساك : الفلاحة .. العلاقة بين المغرب والاتحاد الأوروبي "غنية جدا"    المنتخب الجزائري لكرة اليد شبان ينسحب من مواجهة المغرب بسبب خريطة المملكة    إليك أبرز أمراض فصل الربيع وكيفية الوقاية منها    الأمثال العامية بتطوان... (580)    الملكية الفكرية تدعم جميع جوانب الحياة في المغرب، بما في ذلك الزليج    الأديب عبد الرفيع جواهري ضيفا على برنامج "مدارات"    الإيمان القوي بعودة بودريقة! يجب على الرجاء البيضاوي ومقاطعة مرس السلطان والبرلمان أن يذهبوا إليه    آيت طالب: أمراض القلب والسكري والسرطان والجهاز التنفسي مزال كتشكل خطر فالمغرب..85 في المائة من الوفيات بسبابها    جائزتها 25 مليون.. "ديزي دروس" و"طوطو" يترأسان لجنة تحكيم مسابقة في فن "الراب"    العلاج بالحميات الغذائية الوسيلة الفعالة للشفاء من القولون العصبي    هذه هي الرياضات المناسبة إذا كنت تعاني من آلام الظهر    وفاة الشيخ اليمني عبد المجيد الزنداني عن 82 عاما    كيف أشرح اللاهوت لابني ؟    الأسبوع الوطني للتلقيح من 22 إلى 26 أبريل الجاري    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحوار بين الإعلام والمجتمع.. مقدمات لا بد منها..

بداية لا بد من توضيح أمرين بشأن الحوار المفتوح اليوم حول الإعلام والمجتمع تحت قبة البرلمان، والذي بادرت إليه فرق برلمانية (باقتراح من حزب الأصالة والمعاصرة) ارتأت أن مجال الصحافة -المكتوبة بالدرجة الأولى وليس الإعلام عموما- في حاجة إلى نقاش «هادئ» يؤدي إلى رأب الصدع بينها وبين الدولة.
ويتعلق الأمر الأول بصيغة الموضوع المطروح للنقاش، والثاني بالفضاء الذي يجري فيه هذا النقاش.
ففي ما يخص موضوع النقاش، يبدو جليا أن «الإعلام والمجتمع» هي صيغة مشذبة ومهذبة ل «الصحافة المستقلة والدولة»، وربما يجوز التدقيق أكثر في هذين الاصطلاحين، بناء على متغيرات الحقل الأخيرة. فكل المحللين لمظاهر الاحتقان بين الطرفين في المرحلة الأخيرة، يشهدون على أن ما يجب تسويته بشكل أكثر وضوحا وإلحاحية واستعجالا هو مسألة العلاقة بين الدولة والصحافة المستقلة (عن الأحزاب السياسية)، إذ جل الأحكام الصادرة ضد الصحافة في السنوات الأخيرة طالت هذا الصنف من الإعلام الوطني، وهي أحكام قاسية مفتوحة، تنفيذا أو مع وقف التنفيذ، على عقوبات سالبة للحرية، هذا في الوقت الذي تتعاظم فيه الغرامات المالية، بشكل منهك لكاهل الصحف التي تقع تحت طائلة القانون.
وموضوع النقاش لا يقف عند حد مساءلة المواقف القانونية والسياسية والأخلاقية -وهي متداخلة- تجاه صحف أو أخرى، ولكن لا شك أن لدى القائمين عليه نية طرح الخصوصية المغربية التي يجب أن تأخذها خطوط تحرير الصحافة المستقلة بالدرجة الأولى بعين الاعتبار، في زمن يتم فيه استكمال بناء الدولة المغربية وفق معايير معبر عنها رسميا تقوم على الحداثة، والتنمية البشرية، وتعزيز آليات الاقتصاد الوطني ليكون في مستوى التنافسية إقليميا ودوليا، والاقتراب من الاتحاد الأوربي، والنهوض بوضع المرأة، وحماية الطفولة، وإيجاد حل لمشكلة الصحراء، إلى غير ذلك من الأوراش الكبرى.
وقد يستنتج الناظر في الأمر أن هناك إيمانا لدى منظمي النقاش بأن جزءا من الصحافة المستقلة يعرقل توجه الدولة ويعيق سياساتها (الإشارات المتواترة في السنوات الأخيرة لعبارات التيئيس، والعدمية بصدد الصحافة المستقلة)، كما أنهم يدركون اليوم أن التوتر القائم منذ فترة بين الصحافة المستقلة (أو الخاصة كما يدعوها آخرون) والدولة ليس صحيا في الاتجاهين، وأن حالة الاحتقان تسيء للمغرب بغض النظر عن الأطراف التي تتبادل الاتهامات.
وبالفعل، إن الصحافة والدولة في حاضر المغرب في حاجة ماسة فعلا إلى إيجاد أرضية للتوافق حول سلوكيات للخروج من منطق محاسبة النوايا ورمي الآخر بالشيطنة من طرف بعض أطراف الدولة (واستتباعا القضاء)، أو الاتهامات غير المدلل عليها، والتي تكرس فكرة التسلط، وتشيع الإحساس بالتقهقر العام، وتضفي القتامة على جل الخطوات التي يقدم عليها المسؤولون في سدة الحكم أو جنباته.
إن كل مبادرة من أجل التحاور هي، في نهاية المطاف، محمودة لأن إيصاد الأبواب يؤدي إلى الانكماش على الذات واعتبار الحقائق الجزئية والخاصة بيّنات مطلقة.
ثم إن حوارا من هذا الحجم (الحوار الذي بدأ بالبرلمان) يجب أن تكون له مقدمات، وأن ترسم له إستراتيجية تواصلية، تهيئ له، كما يجب أن تعقد بشأنه مشاورات تمهيدية، وأن يتم الإعلان عن أهدافه وأطرافه ومراميه، إذا كان يروم إيجاد قاعدة عريضة للنقاش المثمر.
أما في ما يمس فضاء النقاش ، فإن طبيعة المؤسسة النيابية التي تؤطر النقاش والتي هي مصطبغة بالإيديولوجية الحزبية، ستلقي لا شك بظلالها على نتائجه، إذ الأفكار المعبر عنها هي، تأكيدا، مؤطرة إيديولوجيا وتمتح مادتها من مزودة الحزب، بمعنى أنها لا يمكن أن تنزاح، بمسافة وازنة، عما هو سائد في أدبيات الأحزاب السياسية والمعبر عنها يوميا في الصحافة الحزبية.
وهذا النقاش هو حق للبرلمانيين لا أحد يجادلهم فيه، على اعتبار أن تكون هناك نقاشات موازية، وهو الأهم بالنسبة للمهنة، بين المهنيين في شخص النقابة الوطنية للصحافة المغربية، وفيدرالية الناشرين، ونادي الصحافة، ووسائل الإعلام المختلفة، وممثلي الإعلام العمومي بالمغرب، والدولة متجسدة في وزارة الاتصال...
الحوار: مقدمات لا بد منها
إن الحوار الهادئ لا يعني التوافق الشكلي القائم على ملء الشقوق بالهواء، بل يجب أن يكون -مع ما في الأمر من مفارقة- ساخنا، بمعنى أن يكون صريحا كبداية للحل، والأطباء النفسانيون يقدمون هذه الوصفة المجربة (الصراحة كآلية لإعادة الثقة) يوميا لشركاء الأسرة من أجل أن يتعايشوا بسلام. ومعنى الهدوء هنا يتجسد في الإنصات للآخر، ومحاولة فهمه، بل الاجتهاد في ذلك، قبل معالجة الرأي المعبر عنه من أجل اقتسامه، أو تصويبه، أو إقصائه.
إن المطلوب مبدئيا من السياسيين هو تفهم تداعيات ما يسمى بالسلطة الرابعة على المستوى العملي، وهو ما يفيد أن الصحافة لا تبحث داخل السلة إلا عن البيضة الفاسدة، ولا ترصد من القطارات إلا ذلك الذي يتأخر عن موعده، ولا ترنو في سبحة الجواهر إلا إلى الجوهرة المغشوشة، وإن كانت تبدو براقة عيانا بيانا.
وهذا العيب الأصلي، «الخلقي»، في الصحافة هو رأسمالها الحقيقي.
لكن العيب الذي يجب شجبه، هو أن تسقط الصحافة في «الخلل الوظيفي»، إذ هناك تراتبية في مجال القيم التي يعيشها المجتمع. والقيم هي دائما توافقية حتى لا يكون هناك صدام بين حامليها، يخرج بالمجتمع من دائرة التطوير إلى معترك التثوير. وهذه القيم التوافقية لا تعني أبدا الحفاظ على ما هو قائم دون تحفيز من أجل التطور، لأن الدول والحضارات تخضع في عالم اليوم لتنافسية شرسة، تحت يافطات متعددة، ومجتمع المعلومات والمعرفة هو في حد ذاته مجتمع تنافس قائم على امتلاك المعرفة.
ولا يمكن، من جانب آخر، تصور أن هناك أحدا يمكنه المجازفة بالقول إننا لا نريد للصحافة في المغرب أن ترقى إلى مستوى السلطة الرابعة، بالمعنى الذي يفيد أنها تراقب الاختلالات والعثرات والزلات، وتبلغ الرأي العام عنها من أجل أن يكون مشاركا وفاعلا، لكن لا يمكن بالمقابل لأي عاقل الانتصار للغوغائية الإعلامية، البعيدة كل البعد عن المهنية.
والحوار هو أدبياته. وما لم تكن هذه الأدبيات محترمة، فإن الباب المسدود يكون بالمرصاد. ولذلك، يجب الابتعاد عن إشاعة أن الصحافة ترتبط بالسفالة، والتآمر، والاسترزاق، والربح عن طريق تسويق الإثارة، في حين أنها مهنة نبيلة وشريفة من المفترض أن يتكبد فيها الصحفي عناء البحث عن الحقائق وتنوير الرأي العام. وهي مهنة المتاعب بحق لأنها من المهن التي يخوض المشتغلون بها سباقا مريرا ضد الساعة، هذا مع وجودهم الدائم تحت سيف داموقليس والمتمثل في مطالبة المجتمع هؤلاء أن يكونوا أبدا معصومين من الخطأ.
ولا بد، في هذا الصدد، من تفهم أخطاء الصحافة التي تعد المكان «الأمثل» للأخطاء اليومية، كما أنه يجب على الصحافة أن تقر بأخطائها، بل تعتذر عنها إذا اقتضى الحال، لأنها بكل بساطة ليست فوق الأخطاء، ولا بد لها من رد الاعتبار للآخر -المتضرر منها- بواسطة الإقرار بالخطأ.
إلا أنه لا يمكن أن تقابل كل عثرة للصحافة بعقوبات قاصمة للظهر، لأن هذا يفقد الثقة في علاقة الدولة بالصحافة. وليس كل من يخطئ يعاقب بأقسى العقوبات، إذ الطبيب يخطئ في الكشف عن المرض، فلا يعاقب، وقد يقدم دواء له مضاعفات خطيرة وإن كانت لا تظهر إلا على المديين المتوسط أو البعيد، لكننا لا نسمع بمحاكمة الأطباء إلا قليلا. والمهندس قد يخطئ التصميم، فيضطر إلى التقويم والاستدراك، فلا يحاسب على خطئه الأول، بل يعتبر التصويب حسا مهنيا محمودا، والإداريون وما أكثرهم يخطئون فلا نسمع عن مقاضاتهم إداريا، والسياسيون قد يكونون حاملين لمشاريع بعيدة عن المصلحة العامة وأقرب إلى المصالح الفئوية (على حساب فئات أخرى) فلا يحاسبون لحد مساءلتهم قانونيا، وقس على ذلك.
إن الصحافة، كما هو معروف ومتداول في أوساط المتخصصين، هي المهنة الأكثر عرضة للخطأ، لكنها مطالبة أكثر من غيرها بتصحيح الأخطاء التي تسقط فيها، من تلقاء نفسها، ومن غير مماطلة، ودون انتظار أن يكفل القانون للمتضررين حق الرد والتصويب.
ولا بد في ما يخص الجدل حول مسألة «الثوابت» أو «الخطوط الحمراء»، والتي نجدها حاضرة بتواتر في مطارحات القائمين على جزء من المنابر الإعلامية الوطنية، من تحويل هذه الثوابت إلى بنود قانونية ذات بعد تنظيمي، يفرز الجوانب التدبيرية السياسية، عن تلك المرتبطة بحقوق القائمين على الدولة كرموز مجتمعية تقتضي مقاما خاصا على مستوى المقاربة الإعلامية يحس به كل صحفي مهني.
إن المهنية الإعلامية تقوم، خارج وظيفة الإعلام، على حس تواصلي مع كل مكونات المجتمع، وهذا أمر يعرفه المهنيون في علاقتهم بمصادر الأخبار. وضمن هذا الحس التواصلي، هناك مقولة إجرائية يمكن اختزالها في «وجادلهم بالتي هي أحسن»، بما يعني أن على الذين ينتقدون المجتمع، أفرادا ومؤسسات، أن يحفظوا كرامة الطرف الآخر، ويعتبروا وزنه المعنوي، ولو كان خصما. إن كيفية قول الأشياء، ورصد الأخطاء، وإحصاء العثرات والتنبيه إليها، لا يعني إفراغ مجهودات الآخرين من مادتها، ولا اعتبار أن وظيفة النقد هي إضعاف الآخر، بل إن من أهم خصال النقد الإيجابية جعل الطرف الآخر متقبلا لفكرة تبني المقترحات والبدائل، والإيمان بأن الصحافة تشكل قوة اقتراحية لا بديل عنها لكل المواطنين، فرادى أو منخرطين في مؤسسات وهيئات.
وعلى الحوار أن يقوم على الاعتراف بدور الصحفي كفاعل في المجتمع، ومؤثر فيه سواء على مستو ى القرار أو الرأي العام.
كما على الصحفي ألا يلبس إهاب السياسي. فالصحفي فاعل في السياسة كقوة اقتراحية مجتمعية، لكنه ليس سياسيا. إن الصحفي يستعين في تقريبه للمجتمع من المواطنين بالساسة وغيرهم من القوى الأخرى، لكنه لا يمكن أن يشتغل بأدوات السياسيين ومنهجهم القائم على التكتيك من أجل الوصول إلى سدة التدبير السياسي (الحكم). ولذلك لا يجب أن يلتبس دور الصحفي بالسياسي أو رجل الاتصال.
والصحافة حين تكون فقط سلة مهملات لقضايا المجتمع، ولا يؤازرها القضاء في مراقبة الانحرافات وصنوف التدليس والتآمر على حقوق الآخرين، بل حين تدخل في علاقة متوترة مع القضاء، فإنها تنكمش داخل حلقة التوجس الشامل من كل ما يشكل الثوابت المجتمعية (خارج المعنى الحصري المرتبط بالسياسة والدين).
هذه بضع مقدمات للحوار بين الدولة والصحافة، وبشكل عام بين الإعلام والمجتمع، وهي طبعا مقدمات ضمن أخرى، لا بد أن تشكل قاعدة للنقاش تحت قبة البرلمان، وهو ما يجعل، بعدئذ، النقاش داخل المهنة وبين المهنيين ضرورة ملحة وعاجلة الآن لطرح تصوراتهم من مواقع أخرى، ثم بشراكة مع القوى الحية الأخرى من أجل إرساء قواعد جديدة للتعامل تكون مبررة مهنيا، اجتماعيا، سياسيا، وحقوقيا.
إن أوضاع الصحافة المكتوبة تطرح بإلحاح من جانبين، الأول هو الإطار القانوني الذي تمارس فيه الصحافة المكتوبة حضورها في المجتمع، والجانب الثاني هو تأهيل هذه الصحافة لكي تمارس ذلك الحضور بكفاءة ومسؤولية.
ومن الناحية القانونية لا حاجة للتذكير بأن النص الجاري به العمل مطروح للمراجعة. وهناك نص متوافق عليه إلى حد كبير منذ ما يزيد عن ثلاث سنوات، وهو ينتظر أن يطرح على القنوات الدستورية المعتادة لكي يأخذ طريقه نحو المناقشة والمصادقة. وكان قد ساد الاعتقاد في وقت ما بأن ذلك التطور إنما تعثر فقط بسبب الميل إلى تركه للحكومة القادمة بعد انتخابات 2007 .
والواقع أن المشروع الجاهز للمناقشة يحقق تقدما، ويفي ببعض المطالب الملحة، وإن كان ما يزال يتطلب بعض التدقيقات. ومن سماته البارزة أن ثلثه تقريبا يتعلق بهيكل مبتكر اسمه المجلس الوطني الذي يراد له أن يقوم بدور هو مزيج من الضبط والتحكيم.
غير أن ما أخذ يطرح بإلحاح في المدة الأخيرة هو عنصر الضبط. أي العمل على ألا تخرج الصحافة المكتوبة عن خط احترام الثوابت. والمواجهات التي وقعت في السنوات الأخيرة بين الصحافة المكتوبة والسلطات العمومية، عبر القضاء، كان سببها هو التبرم من خرق الخطوط الحمراء، وهي مسألة أسالت كثيرا من الحبر. والأمر القابع من خلف كل النقاش الدائر والمواجهات القائمة، هو الرغبة المعروفة والدائمة من لدن السلطات العمومية في جعل الصحافة تحت السيطرة، والحال أن ظروف الانفتاح قد سمحت بإفراز ظاهرة صحية وهي الصحافة الخاصة، المستقلة عن الأحزاب السياسية والنقابات.
وتجب الإشارة إلى أن فلسفة تقنين السمعي البصري تقوم على أساس أن هناك موجات أثيرية هي ملك للدولة وهذه تقوم بتفويتها إلى الفاعلين المؤهلين لذلك بناء على مقاييس وقواعد.
أما الطباعة والنشر فهما منذ البدء حران. ويبادر الخواص إلى ممارستهما في إطار قواعد تتضمنها قوانين مصادق عليها بالوسائل الشرعية. وهذا هو الفارق الأساسي بين المجالين. الطباعة ليست ملكا للدولة بل للمجتمع بينما الأثير هو ملك للدولة.
ومنذ قانون 1888 في فرنسا الذي وقع الاقتداء به في المغرب، تعتبر ممارسة الطباعة والنشر حقا مشاعا للمواطنين في نطاق ممارسة حرية التعبير عن الرأي، وفقط حينما تكون هناك مبادرة قائمة في شكل شركة يجب أن تخضع لشروط معينة ينص عليها الفصل الخامس.
أما السمعي البصري فقد نشأ في أحضان الدولة. واهتدت الدولة العصرية إلى تنظيم منح رخص من أجل استعمال أمواج الأثير، (بينما ممارسة الطباعة لا تحتاج إلى ترخيص). ونظرا لتداخل المصالح فيما بين الفاعلين تقرر الاتفاق على مبادئ تنظم التنافس فيما بين الفاعلين في السمعي البصري، وصولا إلى تلافي الاحتكار وضمان الشفافية. وهناك دول أسند فيها البت في الموضوع إلى البرلمان، وأخرى أحدثت أجهزة خاصة، مثل ما هو جار به العمل في المغرب.
وسواء في السمعي البصري أو المكتوب، فإن كل النقاش يدور حول حماية حرية التعبير وتعزيزها.
هذا من الجانب القانوني، ومن حيث التأهيل، فإن وضع الصحافة المكتوبة عندنا يطرح مسائل بنيوية وأخرى ظرفية يمكن إجمالها في البنود التي تشكل جدول أعمال الحوار الجاري بين الوزارة الوصية والنقابة والناشرين بشأن العقدة البرنامج. وهو حوار ناضج إلى حد كبير.
وقد تعزز المشهد بإقامة جهاز للتدقيق في الأرقام المتعلقة بالروجان، مما يوطد الشفافية ويشيع العمل بالمقاييس الموضوعية في العلاقات بين الفاعلين. وهذا الجهاز مستقل عن الدولة وعن المتدخلين في المجال، في حين أن قانون 1958 كان يعطي للوزارة الوصية مع المفتشية العامة للمالية إجراء مراقبة على المداخيل الآتية من البيع.
إلا أنه في غمرة إعادة التأهيل الذي انخرطت فيه الصحافة المكتوبة، يلاحظ أن بعض السلبيات ما زالت قائمة، إن لم تكن قد استفحلت، وأهمها ضعف كفاءة المقاولة الصحافية المغربية.
إن الجريدة اليومية المغربية هي منتوج يتم صنعه في حوالي 4 إلى 6 ساعات، لأن الجريدة يجب أن تسلم للموزع قبل الخامسة مساء. ويقدم هذا المنتوج في حوالي 12 إلى 16 صفحة في الغالب، وفي حالات معدودة في 20 إلى 24 صفحة. وهو منتوج يستهلكه بالأولوية جمهور مستوطن في الدار البيضاء الرباط، وينتجه طاقم يتألف في الغالب من أقل من 20 صحافيا.
وتبعا لسجلات سنة 2008 هناك خمس جرائد تشغل ما بين 33 و 61 صحافيا. و3 منها تشغل فوق 20 . و8 جرائد تشغل أقل من 20 . واثنتين تشغلان فقط 6 و9 صحافيين.
ومجموع الحاملين للبطاقة المهنية في الصحافة المكتوبة كانوا في السنة المذكورة 444 في الجرائد اليومية، و199 في الجرائد الأسبوعية. ومجموعهما 643 صحافيا في النوعين، ويحيلنا هذان الرقمان، على حقيقة كون الصحيفة المغربية يصدرها في الغالب طاقم محدود، بل يجب أن نلح على أنه صغير.
و طبيعي أن أداء المقاولة الصحافية المغربية يبقى مرتبطا بحجم الطاقم، وبالزمن الذي تنجز فيه. ومعلوم أن أي جريدة يومية ذات كفاءة في بلدان متقدمة يصنعها مئات من المهنيين الأكفاء، ويستمر صنعها من الصباح الباكر إلى ساعة متأخرة من الليل. أي أن مسلسل الإنتاج يخضع للمراجعات والتدقيقات الضرورية.
وكما حدث في المشهد الحزبي الشديد التفتت بسبب الانشقاقات، فإن تعدد المنابر الصحافية ( 21 يومية، و27 أسبوعية كلها تعتبر مصنفة حسب اللجنة الثنائية المعهود إليها بالنظر في العقدة البرنامج) راجع إلى سبب واحد، وهو الميل إلى الاستقلال بالأمر في خلايا صغيرة، قليلة التكاليف، بدلا من ضم الجهود في تجمعات مهنية كبيرة يتطلبها إنجاز جريدة يومية ذات كفاءة في إشباع تطلعات القراء. فكل جريدة جديدة هي نتيجة الانشقاق عن جريدة أم. مما يجعل السوق مكتظة بالعناوين. ومعلوم أن تكاثر العناوين لا يعتبر مظهرا للإرتقاء بالممارسة المهنية، وهو فقط دليل على ليبرالية القانون المغربي الصادر في نوفمبر 1958 .
إن خدمة مرتفعة القيمة للقارئ تتطلب أولا مقاولات مقتدرة من حيث الموارد البشرية ومن حيث المقدرة المالية. وهذا من ضمانات احترام أخلاق المهنة. فإن المقاولة القوية ماليا وبشريا تستطيع أن تقف دون الضغوط التي يمكن أن تتطلع إلى ممارستها قوى المال أو السلطة.
وبدون ذلك ستستمر الأوضاع الراهنة التي تتسم أولا بعدم القدرة على تقديم إنتاج متقن تتوفر فيه الشروط المهنية الصارمة، أي الدقة والتحري وهما عماد المسؤولية. فالجريدة المسؤولة لا تقع في المحظور من قبيل الاعتماد على الشائعات، أو احتراف الشتم بكيفية سوقية، وأحيانا التشهير بهذا الجنرال أو ذاك لفائدة جنرال آخر يحقد عليه، وفي كثير من الأحيان نشر بيانات وصور مسربة من قبل جهاز في الدولة ضدا على جهاز منافس، أو نشر معطيات غير دقيقة يتم الاعتذار عنها حينما تحمر النظرة. ناهيك عن السخرية يوميا من الأحزاب السياسية والمؤسسات، بكيفية لا تخدم إلا الراغبين في خلق الفراغ للانتصاب فيما بعد كمنقذين للوطن.
لكن الصحافة الخاصة ليست هذا فقط. لقد عبرت في الغالب عن ديناميكية فائقة اعتملت في المجتمع منذ الانفتاح الذي طرأ على حياتنا في بداية التسعينيات. كسرت بشجاعة طابوهات منيعة. ورفعت الوعي بأن هناك مطالب لا تحتمل الانتظار.
أريد أن أختم بمشهد معبر عن علامات الساعة التي نحن فيها. علامة على التفاعل النشيط الذي عرفه مجتمعنا بفضل الديناميكية الجديدة في الإعلام وفي مباشرة الشأن العام.
فقد كان كافيا أن تنشر الصحف الخاصة صور نساء من الأطلس يطلقن صرخة ضد البرد القارس، المعشش هناك في الأعالي، لكي يقع الانتباه إلى الصرخة. وحينما تم تسليط أضواء الكاميرات عليهن، رفعن إصبعين كعلامة انتصار. وهذا المنظر أثارني لأنه يعني أن تكنولوجيا الإعلام التي نقلت العالم إلى هناك في أقاصي قرية بالأطلس، لقنت أولئك النسوة أن هناك إشارات تعني في اللغة الكونية أن العالم قرية. وفي المحصلة فإن الرسالة وصلت. وتحركت السلطات بدافع من التأنيب الذي انطوى عليه كل ذلك.
كان البدء بصورة في جريدة خاصة قررت أن تتصدر صورة نسوة الأطلس الصفحة الأولى. ولأن الصحافة قامت بدورها والسلطات كذلك، أصبح مشهد نقل المؤن إلى القرى النائية المهمشة من فقرات في النشرة الرئيسية أصبحت تتكرر. وتذكر المتصرفون في الطائرات العمودية أن تلك الآلات يمكنها أن تنزل عموديا وتغلب التضاريس.
وفي النهاية. ما الذي يجب أن يسود لكي يقوم الإعلام بدوره، والسلطات بدورها، ولكي يتحرك المجتمع بطمأنينة.
(*) وزير الاتصال الأسبق


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.